تشارلز ميلز واليسار الجديد
لعلّها مناسبة مهمة بالنسبة إلى المشتغلين في علم الاجتماع والعلوم السياسية، كما بالنسبة إلى المفكرين والمناضلين السياسيين والقارئ العربي العام، أن يصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب تشارلزميلز واليسارالجديد (2018)، وهو العنوان العربي الذي اختاره فادي ملحم لترجمته كتاب ستانلي أرونوفيتز Taking It big: C. Wright Mills and the Making of Political Intellectuals.، الصادر عن مطبوعات جامعة كولومبيا (2012).
هذا الكتاب (368 صفحة، موثقًا ومفهرسًا) سيرة فكرية لميلز، عالم الاجتماع والمفكّر الراديكالي الذي لم يتوقف عن الكتابة منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين حتى نهاية حياته في عام 1962. سيرةٌ تحيي ما مثّله ميلز من تحطيم للأيقونات ومن احتلال أعماله المبتكرة مكانة مرموقة في تراث علم الاجتماع النقدي وعلم الاجتماع الذي يتناول تكوّن المثقفين العامين. لكنّ هذه السيرة لا تجري على صعيد واحد، بل على مستويات عدّة: التحليل الدقيق لكتاباته، عرض تبصّراته اللافتة في المجتمع الأميركي ودوره العالمي، الاحتفاء بتصوراته عن المثقف العام أو المثقف السياسي، نقده للجامعة بصفتها مؤسسة.
خلافًا لعلم الاجتماع الأوروبي، قليلًا ما تناول علم الاجتماع الأميركي مسائل الطبقات الاجتماعية قبل حلول أواخر أربعينيات القرن العشرين، حين بدأ ميلز كتاباته. كان علم الاجتماع ذاك مقتصرًا بشدّة على دراسة “مشكلات اجتماعية” مثل الجريمة والمرض العقلي والمدينة والعائلة والدين، وما إلى ذلك. كان يتحاشى بنى أساسية أكبر مثل العرق والطبقة والجنس، ويميل إلى التركيز على منهجيات علمية مزعومة تلقى القبول لدى الأسماء الكبرى في هذا الميدان.
أمّا ميلز فكان راديكاليًا. كشف في كتبه رجال السلطة الجدد: القادة العماليون في أميركا، وذوو الياقات البيضاء: الطبقاتالوسطىالأميركية، ونخبة السلطة، توترات وديناميات سبق أن تجنّبها معظم علماء الاجتماع. كما أَمِلَ، بتأثير جورج هربرت ميد وجون ديوي اللذين ألحّا على الجمع بين التحليل والنشاط الفاعل، أن يساعد كشف بنى السيطرة ودينامياتها في تحديد الوجهة التي يجب أن يتخذها الجهد الرامي إلى إحداث تغيير جوهري. بعبارة أخرى، فإنَّ ميلز، في محاولته الكشف عن جذر الحياة الأميركية، كان يتحدى علم الاجتماع الأميركي وتصوراته وما يؤديه من دور لدى الإمبراطورية الأميركية الناشئة التي راحت تتوسّع خارجًا في أوائل الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية. بهذا المعنى، ما كان اهتمام ميلز ليقف عند حدود علم الاجتماع، بل سعى في الحقيقة إلى فهم الإمبراطورية ذاتها، وإلى الكشف عن ذلك القطاع الذي يمكنه أن يعكس انجراف الولايات المتحدة واقتصادها نحو الأزمات والحروب.
عُني ميلز، لا سيما في كتابه رجال السلطة الجدد، بالطرائق التي تكيّفت بها النخب العمالية الدنيا مع معايير المجتمع السياسية المحافظة، بدلًا من أن تكشف عن حدود تلك المعايير والأثمان المدفوعة لقاء التمسّك بها. ورأى ميلز في تحوّل الطبقة الوسطى من أصحاب مشاريع صغيرة ومهنيين إلى مدراء، ومثقفين متوسطي المستوى، وكتبة، دلالةً على الطرائق التي يستنسخ بها المكتب، في رتابته وتصنيعه، مصنع العامل ذو الياقة الزرقاء. فكما راحت النقابات العمالية تحفل بمسائل الأجر والتقاعد وليس بدور العمل والمصنع في المجتمع الأكبر، كذلك فعلت الطبقة الوسطى من ذوي الياقات البيضاء، بتطلعها إلى الوظيفة والتقاعد الآمنين، متجاهلة أيضًا قضايا معنى العمل الجوهري والإنساني والمشاركة في صنع القرار في مكان العمل.
أفضى تحدي ميلز التابوات المفروضة على استكشاف البنى الطبقية ودينامياتها إلى تهميشه في فرعه المعرفي. لكنه سُرَّ على نحو واضح بهذا الموقع، إذ بات لديه الوقت كي يكتب عن الثورة الكوبية في كتابه استمع أيها الأميركي، وكي يقدم مختارات من الكتابات الراديكالية لماركس وآخرين في كتاب الماركسيون، وكي يتأمل سُحب الحرب التي تجتمع في سماء الحرب الباردة في كتاب في أسباب الحرب العالمية الثالثة، وكي يُعِدَّ نقدًا أشدّ من الشديد لفرعه المعرفي في ما يبقى أكثر كتبه مبيعًا، الخيال السوسيولوجي.
كان ميلز يكتب ضد التيار السائد في ميدانه وفي مواجهة النفوذ الكبير الذي كان يتمتّع به تالكوت بارسونز في هارفارد واثنان من زملائه، هما بول لازارسفلد وروبرت ميرتون، في كولومبيا، على سبيل المثال لا الحصر. يقول أرونوفيتز: “كان ميلز واحدًا من الاستثناءات القليلة لهذا التوجّه لحصر النظرية الاجتماعية بتحديد المعايير، ولاكتشاف شروط الامتثال. فقد رفض الافتراض السائد أن الولايات المتحدة، خلافًا للأنموذج الأوروبي الذي تميز تاريخه بالنزاع، كانت استثناءً”.
رأى ميلز أن زملائه الأكاديميين لا يميلون إلى اليسار إلا بالقدر الذي يتيح لهم إيلاء دولة الرفاه والحريات المدنية والمؤسسات الديمقراطية الليبرالية الاهتمام. كان علماء الاجتماع في أيامه، كما هم في أيامنا، أبعد ما يكونون عن الاحتفاء بكلام التحليل الراديكالي وممارساته. يقول أرونوفيتز أن الأكاديميين الشباب يتعلمون معظم الوقت إظهار الاحترام وإبداء الطاعة للأفكار السائدة في فروعهم المعرفية، “باستثناء تلك الأوقات أو الفترات التي يتم الترحيب فيها بالفكر الراديكالي، بسب تعرض التوجه المعتدل الفكري لدى العدد الأكبر من الأساتذة الجامعيين للتحدي والاعتراض من خارج الجامعة، بوساطة منظمات اجتماعية وسياسية قوية لا يمكن تجاهلها”.
لعلّ الضغوط التي سبق أن مارستها حركة الحقوق المدنية، وحركة مناهضة الحرب في فيتنام، والحركة النسوية، وسواها، لم تعد تسمح بتجاهل الراديكاليين اليوم كما جرى تجاهل ميلز في حينه، لكن الاتجاه العام لا يزال كما كان عليه، ما يؤثّر بشكل خاص على الأكاديميين الشباب الذين لا يقوون على احتمال ذلك التهميش الذي كان فرصةً ملائمةً لميلز أتاحت له التفتّح والازدهار.
يبقى أن ستانلي أرونوفيتز قد يكون أشد المؤهّلين لكتابة هذه السيرة الفكرية لريتشارد رايت ميلز، فهو أستاذ في علم الاجتماع والدراسات الثقافية والتربية الحضرية، كما أنّه مناضل سياسي ومدافع عن العمال والحركات العمالية متمرّس، سبق أن صدر له عدد كبير من الكتب في نقد علم الاجتماع والتربية السائدين، وفي الحركة العمالية واليسار، وفي الثقافة والفنون، وفي سياسات الهوية، وسوى ذلك، فضلًا عن وضعه غير كتاب عن ميلز وكتاباته.