مناظرة: مفهوم العدالة الاجتماعية بين الليبرالية والاشتراكية
في اليوم الثاني لمؤتمر “أيام اشتراكية”، عقدت ندوة عن “مفهوم العدالة الاجتماعية بين الليبرالية والاشتراكية”
ضيوف الندوة هم:
الصحفي وائل جمال مدير تحرير جريدة الشروق، د/ عمرو الشوبكي مدير مركز البدائل العربى وعضو اللجنة الاستشارية لحزب العدل.
افتتح وائل جمال الحوار بالتأكيد على أن ثورة 25 يناير كانت ثورة على عدم المساواة وعلى غياب العدالة الاجتماعية، وأن مطلب العدالة الاجتماعية صار لأول مرة على أجندات كل القوى السياسية على الساحة من يساريين وليبراليين وحتى الإسلاميين وهو مالم يكن مطروحا بهذا الشكل من قبل.
ماذا يعني غياب العدالة الاجتماعية؟
تساؤل طرحه وأجاب عليه وائل بأنه يعني غياب تكافؤ الفرص في كل أشكال الحياه وليس حق الانتخاب أو التمثيل النيابي فحسب، وذكر أمثلة على عدم التكافؤ في فرص التعليم والصحة والقدرة على التوظيف، حيث اشار إلى تصريحات بعض القوى بأن الجماهير غير مؤهلة للتعامل مع الحياة السياسية متجاهلين علاقة ذلك بالفقر أو مستوى التعليم الذي تتلقاه تلك الجماهير. كما أشار إلى عدم تكافؤ الفرص كذلك في كل من خدمات الصحة، والقدرة على الحصول على وظيفة،بل وتوريث المناصب الوظيفية في الشركات والمؤسسات الصحفية وحتى في الأندية الرياضية.
كذلك أشار إلى غياب وسيلة نقابية يعبر من خلالها الملايين من العمال والفلاحين عن مصالحهم في الوقت الذي لا تعبر فيه الاتحادات والنقابات الصورية عنهم.
بدأ د/عمرو الشوبكي كلمته بالحديث عن الإضرابات العمالية وأشار إلى أن أسبابها تعود في الأصل إلى الفساد الذي استشرى في عهد مبارك بسبب غياب أي وسيلة للعمال ليعبروا من خلالها عن مطالبهم. وفي ظل الحديث عن إدارة عجلة الإنتاج في الوقت الراهن، ليس الحل في التعامل مع الإضرابات هو سن قانون مضحك كالذي أصدرته حكومة شرف والمجلس العسكري بتجريم الإضرابات، وعقاب الداعين إليها بالحبس والغرامة، وإنما الحل هو الدفع في تأسيس الاتحادات النقابية المستقلة وتغيير القواعد التي تحكم الاتحاد العام لعمال مصر، بحيث تتفاوض الاتحادات العمالية المستقلة مع أصحاب العمل، ثم يأتي الإضراب كحل أخير عند تعثر المفاوضات.
وأكد الشوبكي على أن حق الإضراب هو جزء اصيل من أي نظام ديمقراطي، لكنه وسيلة وليس غاية في حد ذاتها، والوضع المشوه للحياة السياسية في مصر سابقا هو ماجعله الوسيلة الوحيدة في أيدي العمال للتفاوض.
من جانبه أشار وائل جمال إلى أن الليبرالية التي كانت تطبق في مصر قبل الثورة كانت تعطي الأولوية لحرية السوق والتي طغت على أي نوع آخر من الحريات، حيث قاعدة البقاء للأصلح هي القاعدة السائدة، وصار مفهوم العدالة الاجتماعية مفهوما مجردا غير مطلوب لذاته وإنما يأتي من خلال الرخاء الذي يترتب على تطبيق سياسات السوق الحرة كما زعم دعاة الليبرالية في النظام المخلوع، وأشار إلى أن الفساد في دائرة رجال الأعمال وقربهم من السلطة في تحالف ضد مصالح الجماهير لم يكن حكرا على مصر، وإنما كان نموذج الرأسمالية في مصر هو نموذج متطرف من نظام عالمي ينتج دائما عدم المساواة بين المواطنين. والسؤال الذي يجب أن نوجهه لليبراليين هو: هل حرية الجماهير في التصويت كافية؟ وهل نستطيع الجمع بين حرية الأصوات وحرية الاستثمار وحرية المساواة؟ وكيف نستطيع إعادة التوازن الاقتصادي والسياسي في المجتمع دون التأثير على حرية الأصوات؟
أثارت الصحفية بيسان كساب تساؤلا حول جدوى المحاولات الإصلاحية المطروحة بتدخل أكبر للدولة في الاقتصاد لتحافظ على توازن السوق ولتحسين أوضاع المجتمع، وإلى أي مدى هذه الفكرة قابلة للتطبيق.
رد وائل جمال على هذا التساؤل بأن تطبيق الضرائب التصاعدية على رجال الأعمال، تدخل الدولة، وعودة القطاع العام مطالب مطروحة على كل البرامج والأجندات الاشتراكية في مصر الآن، وحتى هذه الإجراءات الإصلاحية تستلزم معارك سياسية كبيرة لأنها ستُقابل بهجوم مستميت من رجال الأعمال الذين لا يزالون يملكون قوة ممثلة في المئات من الجمعيات والعشرات من الصحف بجانب الأحزاب التي يسعون إلى تكوينها الآن. وحتى في الدول التي تتبنى هذا القدر من السياسات الكينزية للدفاع عن الفقراء، هناك ضغط كبير من الذين يملكون زمام الأمور هناك للتراجع عن هذه المكاسب، ودلل على ذلك بالنموذجين الأمريكي والانجليزي حيث تجري الآن مساومة الجماهير على مكتسباتهم الممثلة في المعاشات وميزانيات التعليم.
ماذا عن الاشتراكية الاجتماعية؟
بدوره صرح د/ عمرو الشوبكي برؤيته للنظريات الاشتراكية بأنها نموذج طوباوي يمثل حلم الناس وتتمنى تطبيقه على أرض الواقع وأن النماذج التاريخية لمحاولات تطبيق الاشتراكية باءت إما بالفشل كما شاهدنا في النموذج الستاليني في روسيا وأوروبا الشرقيا، أو نتج عنها تحول الاشتراكية لنماذج أكثر توائما مع النظام الرأسمالي هو نموذج الاشتراكية الاجتماعية، واستدل بتجربة “لولا داسيلفا” في البرازيل وأشار إلى انها نموذج تاريخي لتكيف الاشتراكية مع النظام الرأسمالي وتحقيق التوازن بين النقابات العمالية وأصحاب العمل.
ورفض، والكلام لايزال للشوبكي، فكرة وضع المجتمع في إطار محدد ومُهَندَس مسبقا، وقال بأن تلك الفكرة لم تُثبِت نجاحا كذلك في النموذجين القومي والإسلامي لأنها لا تمثل حوارا مع المجتمع وإنما تمثل إعادة تشكيله وهندسته، وأشار إلى ان القدرة على التصحيح والمراجعة هي من سمات النظم الرأسمالية وليس النظم الاشتراكية على حد قوله، واستدل بالنموذج الاشتراكي الديمقراطي في الدول الاسكندنافية بأنها نموذج ناجح خرج من رحم التجربة الرأسمالية، وقال بأن تجارب النجاح التي حققها اليسار الديمقراطي هي التجارب التي استطاعت قبول مظاهر آليات السوق في المجتمع الرأسمالي، كما أشار إلى أن الفرص التي أتيحت لقوى اليسار هي أصلا نتاج التقدم الديمقراطي الذي حققته النظم الرأسمالية.
وبدوره أكد وائل جمال على رفض الاشتراكيين الثوريين القاطع للنموذج الستاليني في روسيا وقال بأنه من غير العقل الدفاع عن أي من النماذج الشمولية الغير ديمقراطية، لكنه على الجانب الآخر أشار إلى أن المجتمع الأمريكي، كمثال على المجتمع الرأسمالي، هو المجتمع الأكثر شمولية في العالم، حيث الشعب حر في فقط في استهلاك منتج أو الإنصات لإعلام تتحكم فيه الشركات الكبرى، وأشار إلى أن الثورة المصرية قد أثارت تساؤلات في أمريكا نفسها عن جدوى الديمقراطية الأمريكية التي لم تعد تمثل الأمريكيين كما ينبغي.
القدرة على التصحيح
وأكد وائل على أن الرسمالية هي من تُهندِس المجتمع وتمنح الشعوب حرية الاختيار بين خيارات هي من حددتها للمواطنين سلفا، كما أكد على أن النموذج الذي ندافع عنه غير معد سلفا، وإنما يصنعه الجمهور بأنفسهم، واستدل بتجربة الأرجنتين، حيث لم تكن حركة استيلاء الجماهير على المصانع مخططا لها، وإنما جائت من الجماهير التي قررت التوجه إلى المحاكم لإعادة تشغيل المصانع، وقال بأن ماننشده من المجتمع الاشتراكي هو أن يأتي الإنتاج والتوزيع بقرارات جماعية ديمقراطية يتخذها المنتجين والمستهلكين أنفسهم وليس من خلال فئة قليلة تسعى للربح المجرد الذي قد يكون على حساب الفقراء أو البيئة أو الموارد الطبيعية.
مداخلات الحضور
بدأ سامح نجيب مداخلات الحضور بتعليقه على تجربة الاشتراكية الديمقراطية في الدول الاسكندنافية بأنها لم تصمد طويلا، وأن الأحزاب الاشتراكية في اوروبا تحولت لأحزاب تطبق سياسات الليبرالية الجديدة وأكد على أن الحلم الطوباوي حقا هو السعي لتحقيق نظام يجمع بين النفيضين: حرية السوق، والعدالة الاجتماعية.
في حين أكد هيثم محمدين على أن النقابات المستقلة تم انتزاعها من رجال الأعمال الذين يتحدثون عن الحريات وفي نفس الوقت يحاربون الحريات الاجتماعية، كما أكد الناشط وائل خليل على أن النظام القديم لا يعيبه فساد مبارك وحسب، وإنما هو نظام فاسد في صميم مبادئه وقيمه الموجهة دوما للربح المجرد، وضرب مثالا بشركات الأدوية حيث الأولوية للأدوية ذات الربحية الأكبر، لذلك يتم إهدار الملايين في أبحاث على مستحضرات التجميل. كما نفى أن تكون الاشتراكية هي مجرد وصول الأحزاب الاشتراكية أو الشيوعية للحكم وإنما هي تطبيق الديمقراطية التي تمنح الناس حقهم في تحديد أولويات الإنتاج وتوجيه الاقتصاد.
وفي مداخلة حماسية للاشتراكي الثوري اليوناني “نيكولاس لودوس” علق بأن الليبرالية تموت الآن في أوروبا نفسها، والأزمة الاقتصادية تقتل الليبرالية بالفعل، وان الليبرالية ماتت على الحدود الإيطالية عندما منعت دخول المواطنين التونسيين اللاجئين، وأن الليبرالية ماتت في اليونان في اللحظة التي أصيب فيها أكثر من 30 شخص بسبب القمع الأمني للاعتصامات هناك، وأن الليبرالية ماتت في اليونان عندما منعت الحكومة العمال من تأسيس نقاباتهم المستقلة، وأشار إلى أن الدولة هي من ساعدت الرأسمالية على الخروج من أزمتها في الثلاثينات وأن الشعوب هي من دفعت الملايين لإنقاذ البنوك، ووجه نصيحة للمصريين بأن يشاهدوا ما آلت إليه الليبرالية الجديدة في أوروبا.
كما علق أحد الحضور بأن الرأسمالية الغربية صارت نموذجا متوحشا ماليا، ولما بدأت الأزمة ضاعت كل المكتسبات الاجتماعية التي حققها المجتمع في ظلها. وفي مداخلة اخرى تسائل أحد الحضور حول مدى قبول الرأسمالية لحرمانها من بعض سلطاتها لتحقيق العدالة الاجتماعية، وعلق على فكرة عدم وجود تجربة اشتراكية مكتملة يُحتذى بها بأنه بالمثل لم يكن هناك مجتمع رأسمالي منذ 500 سنة وبالتالي لا يوجد ما يمنع من فكرة وجود مجتمع اشتراكي في المستقبل.
الختام
اختتمت الندوة بتأكيد د/عمرو الشوبكي على إنه رغم انتقاده لآليات تنفيذ الفكر الاشتراكي إلا أنه يرى أن النظم الرأسمالية لن تتطور إلا بمشاركة أطراف أخرى كالنقابات العمالية، وأن النظام الراسمالي في أمريكا اللاتينية لم يتطور إلا نتيجة نضال التيارات اليسارية والاشتراكية لتحقيق التوازن الاجتماعي، وتعليق وائل جمال بأن لب التطور الاشتراكي ليس قوالب جاهزة وإنما هو تمكين المواطنين من التحكم في وسائل الإنتاج مثل تمكينهم من المشاركة السياسية، وهذا هو الحافز الحقيقي للمواطنين على العمل نظرا لشعورهم الايجابي بالعمل بشكل ديمقراطي بدلا من سيطرة الشركات الاحتكارية التي تتحكم في الإنتاج والأسعار وحتى ذوق المستهلكين.