نحو تصويب النقاش في مسألة الكهرباء في لبنان
يستمر النقاش منذ سنوات حول مسألة الكهرباء في لبنان. وقد ازدادت وتيرته في الآونة الأخيرة لعدة أسباب منها أولا الطريقة المعتمدة من قبل وزارة الطاقة لمعالجة ملف الكهرباء ووجود عدد من ألأفرقاء السياسيين المعترضين على ذلك، وثانيا والاهم التهيب الوطني العام من النسب المرتفعة التي يمثلها عجز الكهرباء السنوي في الموازنة العامة من جهة وفي الدين العام من جهة أخرى. وقد تشعب النقاش ليشمل عددا من المسائل نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر جدوى استقدام بواخر انتاج الكهرباء مقابل الشروع ببناء معامل جديدة، استكمال شبكة النقل وتدعيم شبكات التوزيع، تعثر مناقصة بناء معمل الانتاج في دير عمار، استمرار ارتفاع نسب الخسائر الفنية وغير الفنية، جدوى مقدمي الخدمات وغيرها من المسائل. وبرأينا أن جميع من شاركوا في النقاش وقدموا حلولا لما تقدّم من مسائل وغيرها حصروا نقاشهم بالمواضيع التي طفت على السطح ولم يدخل أي منهم الى العمق لأنهم أغفلوا ناحيتين أساسيتين تشكلان ما يسمى بالعامية “بيت القصيد” وهما: الاصلاح البنيوي في مؤسسة الكهرباء والتخطيط اللامركزي للكهرباء وتفعيل الشراكة مع القطاع الخاص.
حسبنا في هذه المقالة أن نساهم في تصويب النقاش حول مسألة الكهرباء عبر الاضاءة على مواضيع تبدو خارج التدوال من قبل المعنيين وتحتاج الى الكثير من الدرس والتشريع لتأخذ طريقها الى التنفيذ.
الاصلاح البنيوي في مؤسسة الكهرباء
انطلاقا من تجربتنا السابقة في مجلس ادارة هذه المؤسسة العريقة (2002-2008) نقول أنه ليس بالامكان اصلاح قطاع الكهرباء من دون تحديث المؤسسة وعصرنتها وتطوير قدرات موظفيها وتمكينها من ادارة مشاريعها بكفاءة عالية واستنباط حلول خلاقة لمشاكلها واستشراف ما هو ضروري وعصري لمستقبلها. وسنعيد القاريء الكريم بالذاكرة الى عدد من الوقائع اخترناها لتأكيد صوابية ما نقول:
– منذ انشاء معملي البداوي والزهراني في تسعينات القرن الماضي ومؤسسة الكهرباء تستمر بالتعاقد مع مشغل دولي لتشغيل وصيانة المعامل بسبب عدم وجود اليد الفنية والخبرة اللازمة في المؤسسة للقيام بذلك. وقد فاقت قيمة عقود التشغيل والصيانة لمعملي البداوي والزهراني منذ ذلك الوقت 300 مليون دولار باسعار اليوم أضيفت اليها مؤخرا عقود تشغيل المعملين الجديدين في الجية والذوق. وبخلاف ذلك، كان بالامكان استخدام جزء يسير من هذه الاموال لارسال فريق من مهندسي المؤسسة الى الخارج ليتدربوا ويطوروا مهاراتهم في مجال التشغيل والصيانة ويقوموا بهذا العمل بانفسهم وبالتعاون مع فنيي المؤسسة. من ناحية ثانية، تواصل المؤسسة استقدام الشركات الاستشارية الدولية للحصول على خدمات مختلفة مثل تحضير دفاتر الشروط، أواعداد دراسات حول تطوير وتوسيع شبكات النقل والتوزيع أو وضع مخطط استراتيجي للانتاج أو اقتراح تعرفة جديدة وغيرها من المسائل التي تحتاجها المؤسسة. ألم يكن أجدى للحكومة السماح لمؤسسة الكهرباء بتوظيف عدد من اللبنانيين الذين يتبوأون مناصب رفيعة في شركات الكهرباء الدولية لينضموا الى مديرية الدراسات فيها وتمكينها من القيام بكل تلك الاعمال؟
– يستمر تفاقم الهدر الفني وغير الفني على الشبكات متجاوزا 35% بحسب المصادر الاكثر تفاؤلا بالرغم من التحسينات التي يزعم مقدموا الخدمات انهم حققوها في هذا المجال. اذن كيف نستطيع أن نتحدث عن جدوى بناء معامل جديدة أو استئجار بواخر اذا كان أكثر من ثلث طاقتها سيذهب هدرا؟ أو لم يحن الوقت لكي يدرك السياسيون جميعهم الزامية رفع الغطاء عن كل المعتدين على الشبكة ويسمحوا بمواكبة أمنية للجباة والملاحظين تمكنهم من قمع المخالفات وصولا الى قطع التيار عن المعتدين من دون أن يتعرضوا أنفسهم الى الاهانات في أحسن الاحوال والى التعدي الجسدي في كثير من الحالات. أننا مع الرأي القائل بأن التكنولوجيا الحديثة تفعل فعلها في تخفيض نسب الهدر وتحسين كفاءة التشغيل في ظل دولة يحترم فيها القانون ويلاحق فيها المخالفون ويعاقبون من قبل قضاء فعال يملك امكانية البت بالشكاوى بالسرعة المطلوبة. بالمقابل لا يمكن لهذه التكنولوجيا أن تكون فعالة بالمستوى المرجو منها في دولة لا هيبة للقانون ولا للقضاء ولا للقوى الامنية فيها.
– ينبغي التذكير أن عدد أعضاء مجلس الادارة المتبقين منذ العام 2008 هو أثنان فقط بالاضافة الى مفوض الحكومة وممثل وزارة المالية. أضف الى ذلك أن المجلس هو في الحقيقة مجرّد من الصلاحيات باستثناء ما له علاقة بادارة الازمة. فتمرير قراراته يتطلب عدم اعتراض وزارتي الوصاية وفي حال اختلاف الرأي بين الوزيرين المختصين يبت الامر مجلس الوزراء. وبالرغم من الصلاحيات والاستقلالية المعطاة لمؤسسة الكهرباء بموجب المرسوم 4517 الاّ أن واقع الحال يفرض على المؤسسة عدم الدخول في أي صراع مع وزيري الوصاية لسببين: السبب ألاول يعود الى استمرار اعتماد المؤسسة على دعم وزارة المالية من جهة وبالتالي لا تستطيع عمليا أن تخرج عن توجيهات من يوافق على فتح اعتماداتها أو حجبها عنها في ظل العجز المالي الذي تسجله في موازنتها. ومن جهة ثانية فان الكثير من وزراء الطاقة الذي تعاقبوا قد أنشأوا فرق عمل رديفة قامت بوضع الخطط ومراقبة تنفيذها ولم تكن مشاركة مؤسسة كهرباء لبنان الا من حيث الشكل فقط لعدم وجود الامكانيات الفنية الكافية لديها. ومع تنويهنا بأن عمل تلك الفرق قد أفضى الى تنفيذ عدد من المشاريع المهمة الا أن المقاربة الاستراتيجية للموضوع يجب أن تقوم على تقوية وتدعيم الجهة المعنية أي مؤسسة الكهرباء وليس الجهة الرديفة. أما السبب الثاني والأهم هو أن المؤسسة لا تستطيع أن تعمل وفق قانون التجارة الذي يؤمن مصلحتها فلم تتمكن على سبيل المثال أن تبيع الطاقة بأعلى من كلفة انتاجها لتحقق ربحا يساعدها في تطوير أعمالها كما أنها لم تستطع أن توظف من هي بحاجة اليهم من الاختصاصيين لأن قرار رفع التعرفة كما قرار السماح بالتوظيف أو منعه هو من اختصاص مجلس الوزراء وليس مجلس الادارة. ناهيك عن أن اتخاذ القرارات المهمة ذات الطابع الاستراتيجي غالبا ما تتم في مجلس الوزراء بعد مناقشات حامية يقودها سياسيون لا خلفية علمية أو فنية لديهم ويمكّنهم حجمهم السياسي من تأخير مشروع هنا أو فرض خيار خاطىء هناك ولا يكون لمجلس الادارة في مثل هذه الحالات سوى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه حتى وان لم يكن أعضاؤه موافقين على جدواه.
بالخلاصة ننصح المسؤولين بأن يتنبهوا الى أن اصلاح قطاع الكهرباء يجب أن يبدأ باصلاح “البيت الداخلي” أي مؤسسة الكهرباء عبر تجديد أو استكمال مجلس ادارتها بخبراء في مجالات التخطيط والتمويل والاستثمار والادارة واعطائه صلاحيات واسعة تكون مربوطة بمؤشرات اداء يمكن قياسها ويتوجب عليه تحقيقها في فترة زمنية محددة. وبغض النظر عما اذا كان سيتم تنفيذ القانون 462 وتعيين الهيئة الناظمة وتخصيص المؤسسة أم سيصار الى تشركتها أو ابقائها على ما هي عليه، ينبغي الاسراع في تطوير امكانياتها الادارية والبشرية والفنية لكي تستطيع أن تضطلع بدورها بالكفاءة المطلوبة.
التخطيط اللامركزي وتفعيل مشاركة القطاع الخاص
لقد أرسى قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص الارضية لاستقطاب الاستثمار الخاص الى قطاع الكهرباء. لكن بالاضافة الى أهمية مواصلة الالتفات نحو الجهات الدولية المانحة والصناديق العربية والاسلامية لتنفيذ المشاريع الكبيرة، ينبغي كذلك وضع التشريعات اللازمة التي تسمح بتطوير مشاريع صغيرة ومتوسطة الحجم يقوم بها القطاع الخاص اللبناني بالتعاون مع مؤسسة الكهرباء وتساهم في خلق فرص عمل للمواطنين. لذلك فان اعتماد اللامركزية الكهربائية بالتعاون والتكامل مع مؤسسة كهرباء لبنان بما يضمن حقوق الدولة والمستهلكين والمستثمرين على السواء قد يكون المدخل العملي لمشاركة فعالة للقطاع الخاص. فعلى سبيل المثال لا الحصر:
– ان اعادة احياء الامتيازات القديمة والترخيص لاخرى جديدة قد يكون مفيدا للبنان في هذه المرحلة لكن على أساس معايير وشروط ومهام جديدة تأخذ بعين الاعتبار حاجات لبنان الكهربائية والاستثمارية من جهة والتطور الحاصل في مجال الطاقات المتجددة والشبكات الصغيرة (Micro-Grid) والتكنولوجيا الذكية (Smart Technologies) من جهة ثانية. للتذكير فقط بأنه تم وقف اعطاء امتيازات جديدة وتم حصر مهام القائم منها باعمال التوزيع في الماضي بسبب أن مؤسسة الكهرباء استطاعت في أوائل السبعينات أن تحقق نجاحات باهرة مكنتها من ادارة فعالة للقطاع وبيع الكهرباء الى الخارج وجني أرباح مهمة.
– ان دخول البلديات أو اتحاد البلديات بشراكات مع شركات محلية يساهم المقيمون في النطاق الجغرافي البلدي في رأسمالها وادارتها سيمكن البلديات من انتاج الطاقة الكهربائية حصرا من الطاقات المتجددة وخاصة الشمسية منها (Photovoltaics) من خلال استخدام المشاعات التابعة لهذه البلديات. أن مشروعا كهذا سيساهم في خلق فرص عمل للكثير من الشباب في الريف ووقف نزوحهم الى المدن أو هجرتهم الى الخارج. واستطرادا فان اللامركزية الكهربائية ستسمح لمجموعة من البلديات بالتحول الى شبكات صغيرة تنتج الكهرباء محليا كما اسلفنا وتدعّمه بادارة شفافة وفعالة للمولدات الخاصة العاملة في نطاقها بالاضافة الى استجرار ما تحتاجه فوق ذلك من مؤسسة كهرباء لبنان. وباستطاعتها أيضا القيام بمهام التوزيع بما فيها اصلاح الاعطال والجباية مستفيدة من امكانياتها كسلطة محلية تشرف على الاعمال في نطاقها الجغرافي ومن معرفتها الوثيقة للقاطنين فيها. طبعا قد تحتاج البلديات والشركات المساهمة في هذه الحالة الى التعاون مع شركات خدمات الطاقة التي بدأت تنتشر في لبنان لتمكينها من القيام بما أسلفنا.
ان الاعتماد التدريجي لمفهوم الشبكات الصغيرة التي يعتبرها الكثيرون في العالم الاطار المستقبلي للكهرباء سيساهم في الاستفادة القصوى من الطاقات المتجددة، وتخفيف التلوث، وتوفير فرص العمل المحلية، وتخفيف الخسائر الفنية والتعديات على الشبكة وسيوفر فرصا عديدة لاستقطاب الاستثمار الخاص ورفع العبء عن الخزينة.
لقد مضى على اقرار القانون 462 حوالي 16 عاما من دون التمكن من تنفيذه وبقيت المؤسسة متروكة لمصيرها وطالت معاناة اللبنانيين جميعا من جراء انقطاع الكهرباء وسوء الخدمة وارتفاع التكلفة واستمر عبء المؤسسة على الخزينة ثقيلا. أفليس من الأفضل المباشرة بتمكين المؤسسة من العمل وفق قواعد القطاع الخاص حتى وان بقيت اصولها ملكا للدولة اللبنانية وتدعيم قطاع الكهرباء بامكانيات القطاع الخاص الفنية والمالية على قاعدة اللامركزية الكهربائية؟. فمن الذي يضمن بأن القانون 462 ما يزال الانسب للبنان وأن تنفيذه لن يتأخر 16 سنة اضافية؟ وأي وضع بائس سيعيشه اللبنانيون في مثل هذا السيناريو؟