السلطة السياسية والشبكات الاقتصادية في سورية
بسام حداد، الشبكات التجارية في سورية: «الاقتصاد السياسي للصمود السلطوي» دار نشر جامعة ستانفورد. 2011.
Bassam Haddad, Business Networks in Syria: The Political Economy of Authoritarian Resilience, Stanford University Press, Palo Alto, 2011.
بسام حداد، أستاذ في جامعة جورج مايسون، الولايات المتحدة. محرر موقع «جدلية».
كيف نفسّر جذور الثورة السورية وتعقيداتها؟ وكيف لنا أن نفهم تركيبة النظام السوري والعوامل التي تحكم علاقته بالقطاعات الاقتصادية المختلفة، خصيصًا القطاع الخاص؟ وهل تحوّلت تلك العلاقة في عهد بشار الاسد وما هي طبيعة هذا التحّول؟ أسئلة عديدة تُطرح مع بداية الثورة وقبلها عن الاقتصاد السياسي السوري لم يجب عليها بنحو ممنهج لعدّة اسباب من أهمها شحّة الدراسات الدّقيقة عن سورية.
تطبيق سوري لنظرية «الشبكات الاقتصادية»
يأتي كتاب الدكتور بسام حداد الجديد الذي صدر أخيرًا عن دار نشر جامعة ستانفورد ليسد هذه الثغرة في دراسات سورية المعاصرة على الاقل في الأوساط الاكاديمية الغربية. فقد طغت في العقد الماضي من الزمن الدراسات ذات الطابع «الما بعد حداثي» على الاكاديميين اليساريين وبات من يُصر على التحليل التقليدي (الاقتصاد السياسي) يُنظر اليه وكأنه عالق في سن المراهقة الفكرية. وأفضل مثال على تلك الظاهرة هو مقارنة الاهتمام الذي حظى به كتاب ليزا وادين (السيطرة الغامضة) بالمقارنة مع الاهمال شبه الكلّي لكتاب حنّا بطاطو العملاق والذي صدر في العام نفسه (١٩٩٩). كتاب وادين قيّم. ومنهج التحليل الذي يعتمد على تحليل الخطاب السياسي والرموز له مزايا عديدة. الّا انه سرعان ما اندلعت الثورات العربية من المحيط الى الخليج, فوقفت تلك الدراسات عاجزة عن شرح واقع الامور واتضح ان هنالك حاجة ماسة للاقتصاد السياسي او للتحليل التاريخي الهيكلي. ومع ان كتاب حدّاد ليس حول الثورة السورية بذاتها الا انه يحتوي على تحليل يُمَكِّن القارئ من فهم عميق لتناقضات المجتمع السوري التي ساهمت في جعله قابلا للاشتعال.
الكتاب الذي يعالج علاقة السلطة في عهد البعث برأس المال الخاص ــ أو بـ«الشبكات الاقتصادية»، كما يسمّيها الكاتب ــ ثمرة سنين طويلة من دراسة الاقتصاد السياسي السوري قابَلَ خلالها الكاتب مجموعة كبيرة من التجّار والمسؤولين والمثقفين السوريين بالاضافة الى البحث الميداني وتحليل الاحصائيات الاقتصادية. ويتضمن الكتاب ستة فصول تتراوح بين مراجعة تاريخية للنظام السوري الحديث وشرحٍ لنظرية الشبكات التجارية التي يطبّقها الكاتب على الواقع السوري مع مراعاة تاريخية لخصوصية سورية المعاصرة وإلفة بها. أي انه يأخذ في الحساب الوضع القائم الناتج تاريخيًا من العلاقة الجدلية بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، ما يضيف معطيات مميزة لنظرية الشبكات التجارية.
وبالرغم من ان الفصول الستّة نشرت بشكل او بآخر على شكل مقالات خلال السنين الماضية، الا انها مجموعة هنا بشكل مترابط ومع اضافات جديدة. ويحتوي الكتاب الى ذلك معلومات واحصائيات عن الاقتصاد الكلّي والجزئي والقطاعات الصناعية والخدمية وعن القوانين التجارية وواقع الاعلام والمجتمع السوري بعامة. وكل ذلك يجعل من كتاب حدّاد من أهم الكتب عن سورية المعاصرة خصيصا عن فترة 1990 ــ ٢٠٠٥ والتغيّر الجذري الذي طرأ خلالها على علاقة السلطة برأس المال.
ويمكن تقسيم الكتاب الى ثلاثة أقسام. يشرح الاول جذور الشبكات الاقتصادية من الناحية النظرية ويعطي لمحة سريعة عن السياق التاريخي الذي ولدت فيها. ويقدّم القسم الثاني بحثًا معمّقًا في طبيعة الشبكات ومكوناتها وآلية عملها وعلاقتها بصنع القرار الاقتصادي، أما القسم ألاخير فيعرض تحوّلات الشبكات وأثرها على الاقتصاد السوري في السنوات الاخيرة.
هدف الكتاب الاساسي هو محاولة نظرية ــ تطبيقية لتفسير التدهور التنموي في سورية خلال فترة ١٩٩٠ ــ ٢٠٠٠. يعتمد الكاتب بشكل اساسي على «نظرية الشبكات الاقتصادية» (business network theory) والتي تركز على العلاقات الاقتصادية بين الافراد وليس بين الطبقات. ومع ان الكاتب لا ينكر دور الصراع الطّبقي في سورية ألا انه يرى أن ذلك التحليل عير كافٍ لفهم المحرّك الاساسي للسياسة والاقتصاد في سورية منذ أستيلاء حافظ الاسد على السلطة حتى اندلاع الثورة في آذار ٢٠١١.
يعود حدّاد الى عقد الستينيات حين تشكلت العلاقة بين أصحاب السلطة الجدد المنتمين الى أقليات ريفية وأصحاب المال السنّة في المدن الكبرى. تأرجحت العلاقة مع التغيرات الداخلية والخارجية حينها الى ان استقرّت على نمط هجين أشبه بالتواطؤ بدلا من التعاون.يعود حدّاد الى عقد الستينيات حين تشكلت العلاقة بين أصحاب السلطة الجدد المنتمين الى أقليات ريفية وأصحاب المال السنّة في المدن الكبرى. تأرجحت العلاقة مع التغيرات الداخلية والخارجية حينها الى ان استقرّت على نمط هجين أشبه بالتواطؤ بدلا من التعاون. وأهم مميزات التواطؤ أنه قائم على انعدام الثقة، ذلك ان ابناء الاقليات الريفية المضطهَدة تاريخيا لم يثقوا بمضطهديهم السابقين (وقد باتوا حلفاءهم الجدد). ولّد أنعدام الثقة، برأي بسام حدّاد، نظامًا أقتصاديًا محدود القدرة على التنمية. لأنه حوّل الافق التنموي للدولة والقطاع الخاص من المشاريع والاستثمارات الطويلة الامد الى المشاريع ذات الربح السريع.
ثلاث مراحل في علاقة السلطة برأس المال
إذًا، تكمن أصول الانحدار التنموي ــ او الخطيئة الاصلية ــ في ان الشبكات تشكلت لأسباب أمنية وليست اقتصادية، واتخذت لاحقا الطابع التجاري. مرّت العلاقات بين الدولة ورأس المال بثلاث مراحل في عهد حافظ الاسد ١٩٧٠ــ ١٩٧٧؛ ١٩٧٨ ــ ١٩٨٥؛ ١٩٨٦ ــ ٢٠٠٠. وكانت العلاقات تشتد وتتراخى بحسب فرص الربح التي توفرها الظروف الداخلية والخارجية او اولويات النظام. ولكل مرحلة خصوصيتها من حيث خلفية الشركاء (تجار سابقون ثم ضباط الجيش والامن وشركاؤهم ثم اولاد المسؤولين في التسعينيات) وطبيعة العلاقة بين الشركاء (تصالحية في البدء تلاها تعاون حذر الى ان وصلت أخيرا الى الشراكة العلنية في عهد بشار الاسد).
المرحلة الاولى قد تكون هي الاهم لانها انتجت نموذج الشراكة الذي تكرر لاحقًا. بدأت الطبقة العليا من النظام «بالتّحاصص» أو توزيع قطاعات الاقتصاد بين اعضائها. وتشكلّت الترويكا الشهيرة المكوّنة من صائب نحّاس وعثمان العائدي وعبد الرحمن العطّار. وفيما انحصرت فرص الاثراء في نخبة الجيش والامن والقيادة السياسية خلال الفترة الاولى، توسعت الشبكات مع تعاقب المراحل الثلاث لتشمل عددا أكبر من المنتفعين. وكانت كل مرحلة تترافق مع عملية تحرير ولبرلة جزئيتين للاقتصاد السوري يفتحان مجالات اضافية للاستثمار والربح. وهنا تكمن برأيي فكرة الكتاب المركزية: بما ان الشبكات التجارية قامت واستمرت في غياب الثقة بين أصحاب السلطة وأصحاب المال، كان الهدف الاساسي للاولين منذ البداية تقويض هامش المناورة عند أصحاب المال كي لا يكوّنوا استقلالية عن النظام قد تستخدم في وقت ما لفرض رأيهم كشركاء في القرار السياسي والاقتصادي او حتى العمل على تغيير السلطة السياسية. لكن هذه المعادلة بين الطرفين ليست جامدة إذ تحكمها عدة عوامل من أهمها البديل المتاح لكلا الطرفين. وقد كان أصحاب السلطة الطرف الاقوى في المعادلة طالما استمرت عائدات النفط والمساعدات الخارجية او بشكل عام الواردات المالية التي توفّر لهم استقلالية عن الرأسمال المحلّي. لكن مع مرور الزمن بدأت تلك الواردات بالتناقص من جهة ومن جهة أخرى ازدادت قوّة واستقلالية أصحاب المال، فلم يعد هذا الطرف عاجزًا ولم يبق اصحاب السلطة بالقوّة التي كانوا يتمتعون بها سابقا. وباشر أصحاب المال بإعادة صياغة هذا التعاقد (غير المكتوب) لصالحهم.
الّا ان التغيير التدريجي في موازين القوى لم يَنتج منه تعاقدٌ جديدٌ. فابتداءً من منتصف التسعينيات بدأت تلك الشبكات تتضعضع أثر الانحدار التدريجي لمعدلات النمو الاقتصادي السوري وتراجُع المستوى المعيشي العام. حينها وقف أصحاب السلطة أمام مفترق طرق. إما أن يستمروا في أعطاء اصحاب المال ما يريدون، او يحرّروا السلطة السياسية ويدخلوا أطرافًا مهمشة من داخل البلد أو خارجه. كلا الخيارين كان يشكّل خطرا غير مقبول من وجهة نظر النظام على استقلاليته وسلطته، ولذلك أختار طريقًا ثالثًا. قرّرت القوّة الصاعدة (بشار الاسد وحلفاؤه) تحطيم الشبكات التي شُكّلت في المراحل السابقة وانتاج شبكات جديدة أضيق من سابقاتها ومحصورة ببشركائها. واستمرت هذه العملية وفق ما رواه حدّاد من ١٩٩٥ ــ ٢٠٠٥ عندما أحكم بشار قبضته نهائيًا على السلطة وأقصى الحرس القديم وشركاءه الاقتصاديين وكل من لم يخضع للمعادلة الجديدة. وبذلك خرج كل من عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي وكثرٌ من شركائهم وتجار آخرون من امثال رياض سيف ومأمون الحمصي، وصعد رامي مخلوف وشاليش وشركاؤهما الذين احكموا قبضتهم على الاقتصاد السوري ومصادر الاثراء. وهكذا، عندما كان صانعو القرار يخيّرون بين إحكام السيطرة على السلطة وبين اتخاذ قرارات تنموية للنهوض بالاقتصاد، كانوا يختارون السلطة، ويستتبع ذلك اهتراء تدريجي للمؤسّسات الاقتصادية. الى أن بات الولاء السياسي في عهد بشار الاسد المعيار الوحيد للموظّف المعني بالشأن الاقتصادي، مّا أدى بدوره الى استفحال الفساد من الاعلى الى الاسفل بشكل غير مسبوق حتّى في عهد حافظ الاسد.
الى اي مدى النخب الحاكمة مستقلة عن الطبقات؟
منهاج التّحليل الذي يركّز على الشبكات الاقتصادية له مزايا عدّة عن مناهج التحليل السائدة عن التنمية في دول العالم الثالث عمومًا وسورية خصوصًا.
اولًا، بعكس التحليل الليبرالي، ولا يدّعي بأن تدخّل الدولة في الاقتصاد يشكل بحد ذاته سبب التدهور التنموي في سورية، بل يعيّن العلّة في نمط التدخل.
ثانيا، لا يحاول حدّاد إقحام التحليل الطبقي الماركسي التقليدي في سورية في غير محلّه، حيث من الواضح ان شبكات الاقتصاد السياسي في سورية مكونة من أفراد ينتمون الى طبقات وشرائح مختلفة من المجتمع السوري.
لا ينكر حدّاد دور الطائفية لكنه يشرح أن مسبباتها تاريخية هيكليةوأن الطائفية السياسية في سورية استُخدمت من قبل النظام السوري وسيلة لضمان السلطة، وان انعدام الثقة بين أصحاب السلطة وأصحاب المال سببه العلاقة التاريخية لا الانتماء المذهبي.ثالثًا، لا ينكر حدّاد دور الطائفية لكنه يشرح أن مسبباتها تاريخية هيكلية (تواجد اقليّات دينية محرومة ومستغَلّة اقتصاديا من جهة، ومن جهة أخرى أكثرية دينية تمتلك أدوات الانتاج من الارض الى رأس المال) وأن الطائفية السياسية في سورية استُخدمت من قبل النظام السوري وسيلة لضمان السلطة، وان انعدام الثقة بين أصحاب السلطة وأصحاب المال سببه العلاقة التاريخية لا الانتماء المذهبي. وهو بذلك يتفادى التحليل الثقافوي الاستشراقي للخلافات بين اقسام المجتمع السوري.
ينجح الكاتب في فكرته الاساسية بأن هامش المناورة لدى أصحاب السلطة انحسر مع مرور الزمن. لكن ثمة اسئلة تطرح نفسها حول قضية مركزية اختلف حولها الباحثون في مدى استقلالية النخب الحاكمة في دول العالم الثالث وفي سورية على وجه التحديد عن الطبقات في المجتمع. مثلا، رايموند هينبوش، الذي كتب كثيرا عن الاقتصاد السياسي السوري، ادعى أن التحليل الماركسي التقليدي لا يصلح لتفسير واقع النظام السوري الذي نجح جزئيا في تشكيل مؤسسات تعمل بشكل «عقلاني ــ قانوني» مستقلّة عن الطبقات السائدة في المجتمع, لكن في الطرف الآخر تحليل دافيد والدنر يرسم صورة عن نظام رسّخ سلطته من خلال تحالفات طبقية استخدمها للوصول الى السلطة لكنه وقع أسيرها منذ البداية. عالج هذا الموضوع حدّاد بمرونة واسعة ولكن حبذا لو تطرّق الكاتب الى مسألة التحالفات الطبقية واستقلالية السلطة بشكل أوسع ولا سيما دور العمّال والفلاحين وطبقات القطاع الخاص التي نشطت خارج الشبكات التي تحدّث عنها، لانه قد يخيّل للقارئ ان كل ما كان يجري في سورية كان محصورًا داخل تلك الشبكات، وأن بقية فئات المجتمع كانت منفعلة دون أن تكون فاعلة. يكتسب ذلك الشرح أهمية لان محور الكتاب يتعلّق بطبيعة التغيير بالشبكات الاقتصادية في عهد بشار الاسد. سبق أن ذكرنا دور عامل “الثقة” ألتي أوكل لها الكاتب سبب تأطير الشبكات بطريقة أثرت سلبيا على التنمية الاقتصادية. فمن الواضح ان الاندماج الذي حصل عن طريق الشراكة او العلاقات العائلية قد ساعد في بناء الثقة ما بين أصحاب السلطة وأصحاب المال، او ربما تذليل الفوارق بينهما، لكن ذلك لم يؤدّ الى التمنية البشرية بالطبع بل ساهم في زيادة وتيرة اللبرلة الاقتصادية على حساب تحالفات النظام السابقة.
قال ماركس ان الانسان يصنع تاريخه، لكن تحت ظروف لا يسيطر عليها، وكتاب حدّاد دليل على ان تلك المقولة تنطبق على الحاكم والمحكوم. فأصحاب السلطة في سورية حاولوا إحكام قبضتهم على الاقتصاد والسياسة طيلة نصف قرن من الزمن حتى بدا وكأنهم حصلوا على وصفة سحرية للسلطوية السياسية تمكنهم من الحكم الى الابد. لكن كتاب حداد دليل أن واقع الامور لم يكن كذلك. فكانت الظروف التي انتجتها تلك الوصفة تضيّق شيئا فشيئًا هامش المناورة على أصحاب السلطة. وكتاب حدّاد يُظهر أيضًا مأساة السلطوية السياسية التي دفع ثمنها الشعب السوري مرات عدة من الحرية والتنمية المفقودة والكوارث البشرية.