الطبقات الاجتماعية في لبنان: نقاط استدلال منهجية
-١- الانكار
إن إنكار وجود الطبقات أمر لا يفاجئ. لكل نظام اجتماعي منطقه الخاص في إخفاء أشكال التمييز واللامساواة والاستغلال بين أعضائه. يتوقف الأمر على الكيفية التي بها يتم الإنكار وأشكال التغطية والتمويه المختلفة.
إنكار الاستغلال
يكتب ميشال شيحا في إنكار الاستغلال أن اللبناني «يجلب ثرواته من أقاصي الأرض فلا ينزل الضرر بأحد من اللبنانيين البُعاد، ولا يستغلّ عرق مواطنيه. وليس أخيراً للاشتراكي أو لعالِم الاجتماع أي مأخذ عليه. وليس في العالم، على كل حال، مسرِفٌ مثله ولا أسخى منه» (شيحا: ١٩٦٢، ١٣٠). تفترض المعادلة تعريفاً للبناني يخترله بالمغترب مثلما تفترض التسليم بأن الثروات المجلوبة من «أقاصي الأرض» لا تنتج نظاماً اقتصادياً واجتماعياً داخلياً يضرّ بسائر اللبنانيين، «البُعاد» عن مصدر الثروات مع أنهم ليسوا «بُعاداً» عن مواقع استثمارها، أو يستغل عرق المواطنين.
إنكار وجود ثروات كبرى
على المنوال نفسه، ينفي غسان تويني وجود ثروات كبيرة لدى اللبنانيين لأنهم يعملون بثروات غيرهم دون أن تكون «ملكهم الحلال» (غسان تويني، النهار، العدد السنوي، ١٩٦٦). وهي زلّة لسان معبّرة عن المال الحلال والمال الحرام لأنها لا تزال عالقة بتحريم ديني تجاه المال وأصحابه، يذكّر بكلام السيد المسيح عن ضعف حظوظ الأغنياء في دخول الجنة. مهما يكن، ليس هناك أي تعارض بين الشغل بمال الغير وتجميع الثروات الكبيرة. والحال أن العكس هو الصحيح. ذلك أن اللبنانيين الأكثر ثراءً هم الذين جمعوا ثرواتهم المليونية أو المليارية من الخارج وعن طريق العمل بثروات الغير!
إنكار الفقر وتغريبه
ينسب ميشال شيحا الفقراء في لبنان الاستقلال إلى الوافدين من الملحقات والمناطق التي ضمّت إلى جبل لبنان والساحل لتكوين «لبنان الكبير» عام ١٩٢٠. وهو يحرص على تمييز فلاح جبل لبنان («لبنان الصغير») عن الفقراء الوافدين إلى المدن الساحلية من الملحقات (محاضرة بالفرنسية بعنوان «التجارة والأخلاق» ١٩٤٠ أعيد نشرها في
L’Orient- Le Jour, ٢٨/١٢/١٩٩٤). ولا يتردد شيحا في الدعوة إلى إخفاء الفقر والفقراء، على الأقل عن عيون السيّاح والمصطافين، حين يقول: «فلنبدأ بتوزيع البزّات الرسمية (وأدوات التنظيف) على الحمّالين في الموانئ ومحطات القطارات» (طرابلسي: ١٩٩٩، ١٣٩).
وسوف يتكرر هذا الإدغام بين الغرباء والفقر في مناسبات عديدة، منها الحملة التي تصاعدت في إحدى المناسبات التي اكتشف فيها لبنان الفقر والغرباء معاً في عام ١٩٦٥. حينها دعا النائب الأب سمعان الدويهي إلى إحصاء عدد البؤساء الذين نعتهم بالغرباء ووصفهم بأنهم «الذين يسرقون اللقمة من فم اللبنانيين» ويشكلون «مصدر النتن والفساد والمرض في كل المقومات الأخلاقية والإنسانية والروحية للبلد». والملاحظ أن المتهمين بسرقة اللقمة من فم اللبنانيين كانوا متهمين أيضاً من قبل الأب النائب بأنهم يبيعون أسراره المصرفية للخارج، فلم يكن ثمة تطابق لازم بين الفقر والغربة هنا. والمتّهم ببيع الأسرار المصرفية للخارج لم يكن غير يوسف بيدس الذي تآمرت الطبقة الحاكمة على إفلاس مصرفه (وضاح شرارة: ١٩٨٠، هامش ٧٤٠- ٧٤١؛ طرابلسي: ١٩٩٩، ١٤١- ١٤٢).
إخفاء السلطة الطبقية بالسياسة
تحت عنوان «من يحكم لبنان؟» عقدت جريدة «النهار» ندوة صحافية شارك فيها عدد من قادة الرأي هم: سمير فرنجية، سيمون كرم، طلال الحسيني، كريم مروة وعاصم سلام. أجمع المنتدون على الإجابة عن السؤال بـ«سورية»: سورية هي من يحكم لبنان (المقصود النظام السوري). شذّ كريم مروة، نائب الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني، عن الإجماع على أن النظام السوري يحكم لبنان. تهكّم مروّة من زمن كان يرى فيه أن لبنان محكوم من طبقة اجتماعية. فإذا الشيوعي السابق صار يرى أن من يحكم لبنان «قوى خفية» مرتبطة بالخارج. فدعا إلى «كشفها» أولاً قبل الجزم بأن النظام السوري هو من يحكم لبنان. فردّ عليه النائب فرنجية بأن لا خفاء في الأمر، فحاكم لبنان معروف: إنه سورية (يقصد النظام السوري). أما المهندس عاصم سلام، فلم يحاجج في مسألة وجود التحكم السوري، إلا أنه شذّ عن التوافق؛ إذ أشار إلى أن «أقوى القوى المتحكمة بلبنان هي قوة المال». لم تثر ملاحظة سلام أي اهتمام من زملائه في الطاولة المستديرة (النهار، ٦/١/٢٠٠١).
إخفاء الطبقات بالطوائف
وهذا لا يحتاج إلى مراجع أو أدلة، فهو لون من الإنكار قائم على بديهية التعريف وقوّته: لبنان بلد طوائف، أو بلد طائفي، فلا حاجة لتأكيد هويته ولا نفي ما ليس هو. بناءً عليه، فلما كان النظر الى الطائفية بما هي «آفة» و«وباء» صارت الآفة سبباً لسائر الآفات والوباء مولّداً للأوبئة. فخلال الحراك الشبابي تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي» كنتَ تشاهد على الجدران شعاراً يقول: «لماذا يوجد فقر في لبنان؟ لأنه يوجد نظام طائفي!».
وفي مثال أشدّ مباشرة ونفوراً عن النيّة المعلنة لطمس الطبقات بواسطة الطوائف، يشرح الأكاديمي الأميركي من أصل لبناني فؤاد عجمي مشروع الإمام موسى الصدر المذهبي السياسي على النحو الآتي:
«إن حقيقة الطائفة ومصيرها أهم من متطلّبات الفئات الاقتصادية الاجتماعية. هنا كانت رؤية الإمام موسى الصدر صائبة، أي في طرحه فكرة تزعم الاشتمال على الأغنياء والفقراء، وذلك من أجل قمع الفروقات الطبقية. كان [الصدر] يريد أن يقول، إنه يوجد، في عملية صنع التاريخ، ما هو أهمّ من القوى الاقتصادية. وفي أعماق من امتلكوا مقداراً من الثروة والعلم، والأهم في أعماق الفقراء أنفسهم، كان موسى الصدر يتوجه إلى جاذبية التاريخ الشيعي كما إلى ثقل الحمل التي يجرفه. إنه يستدعي سلطة الأسلاف. وما إن اختفى [الإمام]، أخذ صوت الماضي يتكلّم عن الواقع المعاصر في كل ديار الإسلام بثقة وقوة مُستعادتين » (Ajami: 1986, 189).
إنكار وجود الطبقات لعدم
تطابقها مع توصيف معيّن للطبقات
ويتم هذا الإنكار بمزيج من الحسرة والاستنكار. من منوّعاته اعتبار البنية الطبقية اللبنانية بنثة «مشوّهة» في أدبيات اليسار اللبناني، لعدم تطابقها ومواصفات الطبقات في المجتمعات الرأسمالية الصناعية وعدم تقيّدها بثنائيتها المبسّطة عن استقطاب برجوازية/بروليتاريا. وأحياناً أخرى، يطال التشويه الطبقات الوسطى بسبب خلائطها الطوائفية، بما هي أنماط حياة ومنظومات قيم ناجمة عن تلك الخلائط، فتبدو الطبقة الوسطى مشوّهة لأنها تتداخل بها فروقات طوائفية (حداد: ١٩٩٦) وطبعاً، يستخدم خصوم اليسار هذه الحجة للقول بأن لا وجود لطبقات في مجتماعتنا لأن الطبقات لا توجد إلا في «الغرب».
-٢- التحوير النيوليبرالي في قياس توزيع المداخيل
منهجية متمحورة على السوق
تتمحور المنهجية الجديدة لدراسة الفوارق الطبقية واللامساواة الاجتماعية على محور مركزي هو السوق. تحلّ مقاييس التوزيع والاستهلاك بديلاً من مقاييس الإنتاج ووسائله وعلاقاته، فضلاً عن مقاييس توزيع الدخل ومصادره المختلفة والتحكّم بالموارد وبالثروة الاجتماعية. ولا عجب في ذلك، ما دامت الأسواق محور الحياة الاقتصادية الجديدة والطاقة المفترض أنها المحرّكة للكون في عصر العولمة. بناءً على هذا الانقلاب، يجري احتساب توزيع الدخل لا من خلال تقدير الثروة والملكية وحصص فئات السكان من الدخل الأهلي بقدر ما يُحتسَب بناءً على التراتب في الإنفاق الأسري بالدرجة الأولى. وعلى صعيد آخر، لكنه محكوم بمركزية السوق أيضاً، تجري محاسبة التركّز الاقتصادي (التعبير المهذّب عن الاحتكار) بناءً على خرقه قوانين التنافسية، المبدأ الرئيس لاشتغال الأسواق. وتلقى تبعات الفساد على تضخم الجهاز الإداري والموازنات «الثقيلة» والإنفاق على الخدمات الاجتماعية. وأخيراً ليس آخراً، يعاد النظر جذرياً في مفهوم العدالة الاجتماعية بقلبه رأساً على عقب من مقياس الاعتراف بالمساواة والسعي لتعميمها، إلى مقياس التمايز والاختلاف بين الجماعات والعمل على تكريسه والاعتراف به.
دراسة الفقر لا الثروة
والتركيز هنا هو على دراسة الفقر على حساب دراسة الثراء بحيث لا تطاول إحصائيات توزيع المداخيل والإنفاق مداخيلَ الأغنياء في معظم الأحيان، حيث السقف الأعلى للمداخيل العليا في تلك الدراسات عن الفقر أو توزيع الدخل لا يصل إلى أبعد من مداخيل الشريحة المتوسطة من الطبقات الوسطى.
في النهج الدولي الجديد لاحتساب توزيع المداخيل، المعتمد لبنانياً، كما في «دراسة أحوال المعيشة» (إدارة الإحصاء المركزي: ١٩٩٧، ٢٠٠٤، ٢٠٠٧)، تتراتب فئات الدخل هرمياً في تسع فئات على أساس الدخل، وقد جرى الاستدلال عليه من خلال الإنفاق الشهري للأسرة. تتكوّن الفئة العليا من شريحتين: الأولى تشكل ٤،٣٪ من السكان، وتراوح مداخيلها بين ٣،٣ ملايين و ٤،٩ ملايين ليرة شهرياً (أي ٢٥ ألف دولار سنوياً) والثانية فئة الـ ٠،٣ التي تبلغ مداخيلها ٥ ملايين ليرة شهرياً (أي أربعين ألف دولار سنوياً) وما فوق. والملاحظ أن نسبة الفارق بين الدخل الأدنى والأقصى في تقرير «ارفد» تبلغ ١/١٢، أما تلك المعتمدة في دراسة الإنفاق الأسري في لبنان عام ١٩٩٧ فتبلغ ١/١٧ تقريباً. أما في دراسة أحوال المعيشة لعام ٢٠٠٧، فإن أعلى فئات الدخل، فئة الـ ٣،٣١٪ من السكان، يراوح دخلها بين ٥ ملايين (١٥٠٠ دولار) وصولاً إلى عشرين مليون ل ل (١٣ ألف دولار) في الشهر. وتتكون، حسب الدراسة، من رجال أعمال، نواب، وزراء، وكبار الموظفين، إلخ. ولا بدّ من الملاحظة أن رجال الأعمال لا يحتسبون بين فئات الدخل لسبب ما.
الواضح أن هذا التراتب الهرمي للدخل يحصل دون البحث في مصادره – الأجر، الريع، الربح، إلخ. – وبغض النظر عن القطاع الاقتصادي الذي يتم فيه، وعن ملكية رأس المال ووسائل الإنتاج وأدواته. وهو منهج يدرس الفقر لا الثروة، بل يحجب قياس المداخيل المرتفعة؛ إذ يقف عند سقف الـ ١٣ ألف دولار في الشهر، وهو لا يتعدّى مدخولاً متوسطاً من مداخيل الطبقات الوسطى. هكذا يبدو أن الفارق الإحصائي بين أعلى المداخيل وأخفضها لا يتعدّى ١/١٥، في حين أن الفارق الحقيقي في مروحة المداخيل هو بين ٢،٤٠٠ دولار سنوياً لمداخيل الحد الأدنى ومداخيل في الطبقة الوسطى تزيد على ٢٤٠،٠٠ دولار سنوياً ومداخيل في البرجوازية والأوليغارشية تصل إلى ٢،٤ مليون دولار في السنة ويزيد.
ولا يقتصر الأمر على هذا النمط من قياس الفقر، بل إن معالجة الفقر تكون على اعتباره آفة مطلوباً القضاء عليها، لا بما هي تعبير عن اختلالات في البنية الاجتماعية يجب تصحيحها ولا نتاج سياسات اقتصادية معينة يجب تعديلها أو الإقلاع عنها.
الترجمة النيوليبرالية لمكافحة الفساد
الفساد في أبسط تعريف له، حسب «مؤسسة الشفافية العالمية»، هو ما ينتج من «استغلال الوظيفة العامة لأغراض الكسب الشخصي».
وفي الرواية النيوليبرالية للفساد، يجري توجيه الأنظار إلى الموظّف الإداري المرتشي والمفسَد لا إلى الراشي والمفسِد أيضاً، والراشي والمفسِد هو من يملك ما يكفي من المال لممارسة الرشوة والإفساد، وغالباً ما يتمتع بما يكفي من النفوذ لحماية نفسه وحماية الفاسد وتأمين غض النظر عن حالة الفساد. علماً أن الفساد الأكبر، أي ذلك الذي يؤثّر اقتصادياً واجتماعياً هو فساد الحكام الذين يستغلون مواقعهم في السلطة والدولة لأغراض «الكسب الشخصي» بالملايين وبالمليارات من الدولارات على حساب «المال العام». وعادةً ما تجري تغطية هذه الحالات بمصطلح «الهدر»، ما يعيد البحث في الإنفاق الحكومي من جديد. ومصطلح «الهدر» مناسب لأنه يسمح لدعوات وقف الهدر والشفافية ومكافحة الفساد بأن توظّف بالدرجة الأولى في خدمة شروط «البنك الدولي» الداعية إلى ترشيق الإدارات الحكومية بالاختصار العددي؛ وتسليم خدمات حكومية متزايدة إلى القطاع الخاص باسم «الحوكمة»؛ وخفض الموازنات الإدارية والحكومية؛ ووقف الدعم الحكومي للمواد الغذائية والمحروقات؛ والحدّ من الرعاية الاجتماعية ومن إعادة التوزيع الاجتماعي. ما عدا ذلك، لا تعمل جمعيات أو مؤسسات مكافحة الفساد، ولا تتطلب توجيهات البنك الدولي، أي كشف أو محاسبة لحالات فساد أو إفساد، إلا في ما ندر أو اكتشف من طريق الصدفة أو من طريق المنافسة السياسية، بل يكثر في المقابل التبشير بالشفافية والمناشدات الأخلاقية. أما بالنسبة إلى فساد في أعلى الطبقات الاجتماعية، فيجري التطرّق إليه في الورشات التدريبية التي تدرّب على التزام «أخلاقيات البِزْنِس».
القلب والإبدال في مفهوم العدالة الاجتماعية
انتشر في عصر العولمة تعريف جديد كل الجِدّة للعدالة الاجتماعية يركّز بنوع خاص على تسييس الثقافة وعلى الحق في الاختلاف والتمايز للهويات الجمعية المختلفة – الجندرة والعرق والِمْثلية والإثنية والدين والقومية وغيرها. وقد طغى هذا المفهوم للعدالة الاجتماعية على إعادة التوزيع الاجتماعي للموارد والثروة والدخل الأهلي بناءً على مبادئ «المصلحة العامة» وتكافؤ الفرص والمساواة.
أطلقت نانسي فريزر تسمية «نزاعات حول الاعتراف» على تلك النزاعات الرامية إلى تأكيد الهويات «المختلفة» والناجمة عن تسييس الثقافات. فاقترحت في المقابل مفهوماً شاملاً للعدالة الاجتماعية ثنائي البُعد. ينطوي في بُعده الأول على التوزيع العادل للموارد والثروة والدخل الأهلي. وينطوي في بعده الثاني على «الاعتراف المتبادل» بديلاً من مجرد «الاعتراف بالاختلاف». إلا أن هذه الثنائية لدى فرايزر ثنائية جدلية تعدّل من مفهومي العدالة الاجتماعية التوزيعي، وذلك الذي يقول بالاعتراف بالاختلاف في آن معاً. فهي تدعو إلى أن تشمل العدالةُ التوزيعية كلَ ما يمسّ الاستغلال والحرمان والتهميش والنبذ والتمييز في سوق العمل، والعلافات الاجتماعية… إلخ. وتدعو فريزر، في المقابل، دعاةَ العدالة الاجتماعية إلى «الاعتراف المتبادل» بالاختلافات، أي عدم
اختزال العدالة الاجتماعية بالاعتراف بهوية جماعة محددة بما هم جماعة، وإنما الاعتراف بمواقع الأفراد التابعين لتلك الجماعة بما هم شركاء فعليون في التبادل الاجتماعي، أي شركاء كاملو العضوية والحقوق في المجتمع (فريزر: ٢٠٠١).
الطبقة الوسطى طبقة النيوليبرالية بامتياز
لا جدال في أن الطبقة الوسطى هي الطبقة الأثيرة لعصر العولمة والنيوليبرالية (ثيربورن: ٢٠١٢). فهي الطبقة الأكثر ارتباطاً بالأسواق، والأكثر استهدافاً بالموجة الجديدة من الاقتصاد الاستهلاكي، بالإضافة إلى تصويرها على أنها صاحبة المصلحة الأكبر من غيرها في الديمقراطية، وعلى أنها حاضنة الأمن والاستقرار في البلدان النامية خصوصاً. وغالباً ما يجرى تجيير العلاقة بين الطبقات الوسطى والديمقراطية لمصلحة إقامة الصلة السببية بين الليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية.
في البلد الوحيد في العالم، حيث التعريف الوحيد للسكان هو التعريف العِرقي، لم نعد نسمع منذ الانهيار المالي الأخير إلا التحليلات والأحاديث والوعود عن الطبقة الوسطى. وخلال خطب ومناقشات وسجالات الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة الأميركية، كان جلّ تركيز الرئيس أوباما هو على تراجع مداخيل الطبقات الوسطى، وكان كلّ تشديده هو على ضرورة «تحسين أحوال الطبقة الوسطى».
وفي الجنوب من القارة الأميركية، ها هي ديلما روسيف، رئيسة جمهورية البرازيل، والقيادية في «الحزب العمالي»، تعلن أن حلمها هو «تحويل البرازيل إلى بلد كل سكانه من الطبقة الوسطى» (ثربورن: ٢٠١٢، ١٤). وعملية التحويل التي تتحدث عنها روسيف تلتقي مع المقياس الذي تعتمده مؤسسات الأمم المتحدة التنموية والمالية، باعتبار أن الانتماء إلى الطبقة الوسطى بات المقياس الدالّ على الخروج من حالة الفقر. ومعروف أن «وأد» الفقر يقع على رأس أهداف الألفية. وقد عيّنت الأمم المتحدة عام ٢٠١٥ موعداً لعملية «الوأد» هذه. لم تحقق الخطة كامل أهدافها. ويتبين من إحصائيات الأمم المتحدة أنه قد أنجز خفض الفقر المدقع على النطاق الكوني بنسبة النصف خلال السنوات العشرين الماضية. ولكن وعداً أطلقه الرئيس أوباما (في شباط/فبراير ٢٠١٣) بأن الولايات المتحدة سوف تنضم إلى حلفائها لوأد الفقر المدقع خلال العقدين المقبلين، ألهمَ رئيس البنك الدولي، جيم يونغ كيم، على إعلان عام ٢٠٣٠ هدفاً كونياً لوأد الفقر.
تكلم الرئيس أوباما على الفقر المدقع. أما رئيس البنك الدولي، فتكلم على الفقر بعامة. والرقم المتوافق عليه لحدّ الفقر هو دولار وربع في اليوم. وتعزو وكالات الأمم المتحدة النجاحات في عملية «وأد» الفقر إلى عاملين: النمو الاقتصادي السنوي، الذي يُنسَب إليه ثلثا الدور في مكافحة الفقر، فيما يُعزى الثلث الثالث إلى نموّ المساواة الاجتماعية. والمفارقة في الأمر أنه يجري تسجيل هذه الواقعة دون تقديم أدلّة واضحة عليها، وخصوصاً أن الصين، وهي البلد الذي حقق أبرز نتائج في مكافحة الفقر، لم تستعِن ببرنامج الأمم المتحدة، وهي البلد الذي يرتفق فيه وأد الفقر مع نمو معدّلات الفوارق الطبقية. مهما يكن من أمر، تبقَ الصين المثال الأبرز للنجاح في وأد الفقر. وعلى جدول أعمال حكومتها أن لا يبقى صينيون يعيشون تحت حد الفقر بحلول عام ٢٠٢٠.
لكن هل تجاوز خط الفقر يعني سلفاً الارتقاء إلى مصاف الطبقة الوسطى؟ هذا ما توحي به الأمم المتحدة وبرنامجها لمكافحة الفقر، إذ تمثل على الصين وآسيا بالقول إن عدد المنضمّين إلى الطبقات الوسطى في آسيا خلال الفترة الأخيرة بلغ ٥٠٠ مليون إنسان، وإن العدد سوف يتضاعف ثلاثة أضعاف في السنوات السبع المقبلة ليصير العدد الإجمالي للمنضمين إلى الطبقات الوسطى ملياراً و٧٠٠ مليون إنسان في عام ٢٠٢٠ (نوفيل أبسرفاتور، ١٢/٩/٢٠١٣). المؤكد أن الأخذ بهذه الفرضية يعني تعيين حدود مفرطة التدني لمداخيل الطبقة الوسطى، كما سنرى في سياق هذا البحث!
وينبغي التذكير بأن هذا الإطار المعياري الأممي أورث الباحثين في الوقت ذاته، ولفترة طويلة، مقولة نقيضة تتخوف من «انهيار الطبقات الوسطى»، بل تجزم الانهيار جزماً، حتى صار الانهيار ترسيمة عالمية يجب العثور عليها في دراسات توزيع الدخل أينما كان. وقد ساد البحث في انهيار الطبقات الوسطى في لبنان خلال عامي ١٩٩٦ و١٩٩٧، لسبب ما، قبل أن يعاد اكتشاف انبعاثها من جديد.
-٣- في تعريف الطبقات
كيف النظر إلى اللامساواة؟
تنتمي أشكال التعبير عن الفروقات الاجتماعية المذكورة أعلاه إلى منهج واحد، هو المنهج الهرمي الذي يرصف الطبقات بما هي فئات دخل نزولاً من قمة ضيقة من الأغنياء إلى قاعدة واسعة من الفقراء وما بينهما من متوسطي الحال. المنهج الآخر هو المنهج العلائقي، الذي نطمح إلى استخدامه في هذه الدراسة، وهو الذي ينطلق من أنه لا طبقات مجرّدة، مرصوفة بعضها فوق بعض، بل بشر تربطهم علاقات اجتماعية هي المدخل لفهم اللامساواة في ما بينهم. ولعل أفضل تمثيل على هذا المنهج العلائقي الحكمة المنسوبة إلى أبي ذرّ الغفاري والمستوحاة من الإمام علي بن أبي طالب حين قال: «ما حُرِم فقيٌر إلا بما مُتّع به غني». وعلى عكس المبدأ الهرمي الجامد، فالمنهج العلائقي حركي، صراعي، وقوامه مبدآ السيطرة والاستغلال.
يمكن أخذ تعريف فلاديمير لينين للطبقات نقطة انطلاق للبحث؛ لأنه الأكثر شمولاً للعوامل التي تعرّف الطبقات دون أن تغفل المداخيل أو سلطة القرار:
«الطبقات مجموعات كبيرة من البشر تتمايز/تختلف بعضها عن بعض بالموقع الذي تحتله في نظام محدد تاريخياً من الإنتاج الاجتماعي، وبعلاقتها بوسائل الإنتاج، وبدورها في تنظيم العمل الاجتماعي، وبالتالي بأحجام الحصة من الثروة الاجتماعية التي تتصرّف بها وبوسيلة الاستحواذ على تلك الثروة. إن الطبقات مجموعات من البشر يمكن واحدةً منها أن تستحوذ على عمل أخرى، نظراً إلى المواقع المختلفة التي تحتلها في نظام محدد من الاقتصاد الاجتماعي» (ABC,٢٤- ٢٥).
إلى هذا التعيين، يمكن أن يضاف مفهوم الحراك الاجتماعي. فعلى عكس ما ينسب إلى الطبقات من أنها تشكيلات جامدة، فإن لها حدوداً مفتوحة نسبياً تسمح للأفراد بعبورها حسب تغيّر أحوالهم الاقتصادية. وهو عبور باتجاهي النزول والصعود. بل إن الحدود بين الطبقات وشرئحها عادة ما تكون غائمة وغامضة تورث التصنيف والأبحاث صعوبات كبيرة.
وفي تصنيف الطبقات، ينبغي التمييز أول الأمر مع أنطوني غيدنز بين الطبقات في نمط الإنتاج الرأسمالي الصناعي – الذي يتميّز بأنه «مجتمع طبقي» حيث الطبقة هي «المبدأ المؤسس/الناظم» للمجتمع – والبلدان الرأسمالية التابعة التي يسمّيها غيدنز «مجتمعات ذات انقسامات طبقية»، حيث لا تكون الطبقات الناظم الأبرز للاجتماع ولا المبدأ التفسيري الأوحد للتراتب بين البشر داخلها (Giddens: ١٩٩٣).
وحريّ بالتذكير أن ادبيات التحليل الطبقي ومفاهيمه لم تغفل المراتب إطلاقا. والمراتب، بحسب موريس غودلييه ملخّصاً ماركس، «هرمية من الجماعات امتاز أفرادُها ببعض النشاطات المادية أو غير المادية، أو حُرموا منها، وفقاً لانتمائهم بالولادة إلى جماعة محلية قد تمتزج فيها المدينة والريف، والنشاطات الزراعية مع النشاطات المدينية». وهو تعريف يمكن أن يشكل نقطة استدلال أولى في مقاربة الطوائف والمذاهب اللبنانية دون شك.
من جهته، يشدد إيمانوئيل فالرستين على ما يسمّيه «أثننة تقسيم العمل الرأسمالي»، معتبراً أن سوق العمل الرأسمالي يكون دائما أفُقيّ الانقسام، يرتكز على أشكال من الاستغلال قبل رأسمالية. ويستتبع ذلك سلفاً ضرورة عدم خلط أواليات إعادة الإنتاج الاقتصادية الرأسمالية بأواليات إعادة الإنتاج الاجتماعية، وعملية إعادة الإنتاج هذه الأخيرة تعنى بإعادة إنتاج الأسرة والقبيلة والإثنية والمذهب الديني (المسيّس والمقونن). ينجم عن ذلك ثلاثة مترتبات:
الأول أن التضامن الطبقي يؤدي دوره في المجتمعات الرأسمالية التابعة، لكنه يتداخل مع أشكال تضامن أخرى عائلية وإثنية ومذهبية وما شابه.
والثاني أن هذه المراتب، أي الجماعات التي ترتبط في ما بينها بعلاقات القرابة والدين والمذهب والإثنية، ليست مجرد انعكاس للعلاقات الطبقية، بل إنها تتقاطع مع تلك العلاقات، دون أن تتطابق، علماً بأنها تبقى محكومة بالبنية الطبقية، في نهاية المطاف، بالمقدار الذي تسيطر فيه هذه على الوصول، أي على مختلف الموارد الاجتماعية، وبمعنى آخر على الفائض الاجتماعي (Balibar and Wallerstein: ١٩٨٨; فالرستين: ٢٠١٢- ٢٠١٣، ٢١٢- ٢٢٠).
الثالث والأهم، أن الاعتراف السياسي والقانوني بالمراتب في مجتمع رأسمالي يعني «السماح للناس بتنظيم أنفسهم في كيانات اجتماعية، وثقافية وسياسية، قادرة على المنافسة مع كيانات أخرى على الاحتياجات والخدمات التي تعتبر ذات قيمة في بيئتهم» (فالرستين: ٢٠١٢- ٢٠١٣، ٢١٥).
بناءً عليه، يمكن القول إن المجتمعات المعنية يتم فيها النزاع للاستحواذ على الفائض الاجتماعي بين المراتب والطبقات وداخل كل واحدة من هاتين البُنيتين. من هنا أهمية التركيز على ثنائي السيطرة والاستغلال وحسن التمييز بينهما، حيث السيطرة (السياسة) هي القدرة على التحكّم بنشاط الآخرين، فيما الاستغلال هو الاستحواذ على منافع اقتصادية من عمل الآخرين، وبعبارة أخرى: الاستحواذ على الفائض الاجتماعي (Wood: ٢٠٠٩، ١٠٧- ١٠٩).
الوعي الطبقي
سنتحاشى في حدود هذه الدراسة الخوض في موضوع تعريف الطبقات بناءً على معيار الوعي الطبقي ودرجاته، مع الإشارة إلى أهمية النتائج الكاشفة للوعي والإيديولوجية الطبقيين، فترة السبعينيات من القرن الماضي، التي تضمنتها مقابلات دوبار – نصر في كتابهما الكلاسيكي. يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى عدد من النقاط.
أولاً، إن الوعي الطبقي ليس دائم الحضور، وهو يتجلّى في فترات معينة ويغيب، أو يغور، في فترات أخرى. هل يمكن التعميم هنا؟ يغامر ماكس فيبر بالتعميم، فيطرح أن الوعي الطبقي يتجلّى أكثر ما يتجلّى عندما يحصل تغيير تقني أو تحوّل اجتماعي في مجتمع معيّن. يعاكس إيمانوئيل فالرستين مقولة ماكس فيبر هذه فيقول: «يحتل الوعي الطبقي المقدمة في ظرف أكثر ندرة من ذلك: أي في وضع «ثوري» عندما يكون الوعي الطبقي التعبير الإيديولوجي عن الحالة الثورية والدعامة الإيديولوجية لها في آن معاً» (فالرستين: ٢٠١٢- ٢٠١٣، ٢١٨). المهم أنّ فيبر وفالرستين يتفقان هنا على أنّ الطبقات كائنات مجتمعية تظهر إلى السطح في ظروف معينة وفي غمرة الممارسات والصراعات والتحولات الكبرى، حتى لا نقول التاريخية. وإن أردنا التمثيل على ذلك، فهل من تمثيل أوضح من الثورات العربية الحالية حيث خاضت عشرات الملايين من العرب نضالاتها المتعددة الأشكال لإسقاط الأنظمة، في ظل شعارات «العمل، والحرية، والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية»؟
ثانياً، هذا يعني، عكساً، أن الصراع الطبقي، أي الصراع بين كتل اجتماعية متضارية المصالح الاقتصادية والمواقع من السلطة والمجتمع، شكل رئيس من أشكال استظهار الطبقات أو الشرائح الطبقية دون استثناء دور الفئات العمرية (الشباب) أو المهمشين على اختلافهم في تلك الصراعات.
ثالثاً، يتجلّى في التجربة التاريخية حقيقة أن الطبقات الحاكمة والمالكة والمسيطرة والمستغلّة سبّاقة إلى الوعي بمصالحها الطبقية وسلطتها الطبقية من الطبقات الأخرى مثلما هي الأكثر يقظة على مصالحها الطبقية. خصوصاً وهي التي تملك أدوات ومؤسسات السيطرة والقمع والعنف في الدولة، وإلى جانبها أدوات ومؤسسات إنتاج التوافق والولاء والانقياد.