الحد الأقصى للدخل أم للضرائب؟
تقول الأسطورة إنهم قد أرادوا تهدئة العباد فأعلنوا إحلال العدل على البلاد والقضاء على الفساد. وبعد التفكير، اتُخِذ التدبير وأُعلن فى النفير أنه سوف يطبق على كل وزير وكبير: ألا يزيد دخل أى موظف عام على خمسمائة وثمانية آلاف جنيه فى العام. وجرت السنون.. ثلاثة أعوام ونيف مرت منذ صدور القانون، ونسى الناس المتعبون، ما كان قد أقره الحاكمون.
لكن، ذرا للرماد فى العيون، وتأكيدا على النية، المعقودة على الجدية، صدر عن وزير المالية، منذ تسعة أشهر منشور يشرح تفصيلا طريقة التطبيق (من الأفضل أن يأتى متأخرا على ألا يأتى أبدا، أليس كذلك؟). تقضى القواعد أنه فى نهاية كل عام، يتسلم الموظف العام خطابا يطالبه بأن يسلم بنفسه كل ما زاد على الحد الأقصى للدخل إلى الخزانة العامة.
أصدر الوزير قواعده غاية فى الصعوبة، فولد المنشور ميتا.
وعلى مدى الفترة السابقة، فتحت الحكومة والبرلمان وجهات اخري باب الاستثناءات واسعا، بل ولم تفرض أى عقوبة لمخالفى القانون من كبار الموظفين، بحسب مقال هام فى جريدة الأهرام، بقلم مستشار وزيرة التخطيط، ورئيس مجلس إدارة جريدة الوطن، عبدالفتاح الجبالى.
والأكيد، هو أن الدخول فى أعلى السلم الوظيفى تظل إلى اليوم أعلى كثيرا من المبلغ المرصود.
وهكذا ــ نظريا ــ يسمح القانون، فى وضع معيب، أن يحصل الرئيس على دخل ضئيل نسبيا، لم يتغير منذ ثلاث سنوات، على الرغم مما شهدته تلك الفترة من ارتفاع التضخم. كما يشارك الرئيس (أعلى منصب تنفيذى) نفس مرتبه ــ نظريا ــ الكثير الكثير من العاملين فى أجهزة الدولة. بل ويفوقه دخلا الكثير الكثير أيضا من المسئولين بشركات ومؤسسات مملوكة للمال العام بشكل أو آخر.
وعمليا لم ينشر فى الجريدة الرسمية أى إقرار للذمة المالية لأى من كبار مسئولى الدولة (بالمخالفة للدستور) طوال ثلاثة أعوام.
الخلاصة، فشل الحد الأقصى للدخل فى تحقيق ما خلق من أجله: وهو تخفيض الفجوة بين أدنى الدخول الحكومية وأعلاها إلى خمسة وثلاثين ضعفا ــ بحسب نص القانون، وإضفاء قدر من الشفافية على هيكل الأجور الحكومية، بحيث يعلم دافع الضرائب (أى دافع تلك الرواتب) أى الوظائف تقع فى أعلى درجات سلم الدخل، وكم تلتهم من جيبه.
لكل ما سبق، فليذهب إلى الجحيم غير مأسوف عليه هذا الحد الأقصى الذى أذل حكومات ومسئولين، ولنأتِ بأفضل منه.
أفكار من داخل الصندوق
يدعو صندوق النقد الدولى فى النسخة الأحدث من التقرير نصف السنوى «مراقب المالية العامة» إلى استعادة فكرة قديمة، كان قد تملص منها عبر العقود الماضية، ثم عاد ليطرحها اليوم، باعتبارها أحد الحلول الناجعة فى محاربة اللا مساواة بين الدخول: ضرائب تصاعدية على الدخول العليا.
يمتاز هذا البديل للحد الأقصى للدخل بالعديد من المزايا.
ــ على عكس الحد الأقصى للدخل، لا يضع سقفا للدخول، قد لا يكون مناسبا لجميع الوظائف، ولا يتآكل مع التضخم المرتفع.
ــ وعلى عكس الحد الأقصى الذى لا يعالج سوى اللا مساواة داخل الجهاز الحكومى فقط، تعالج الضرائب التصاعدية الظاهرة بشكلها الأوسع فى المجتمع ككل. فاللا مساواة تبدو أعنف فى كل من القطاع الخاص والقطاع غير الرسمى.
ــ وعلى عكس الوضع الحالى، يسهل تطبيق البديل، حيث لا يعتمد على وجود موظفين اثنين يراقبان المسئول الأعلى نفوذا، الذى سوف يتطوع من نفسه ويسلم ما زاد على حده إلى وزير المالية. بل تقتطع الضريبة من المنبع، فورا، وفقا لأعلى شريحة. وفى نهاية كل عام، تتم التسوية لصالح المسئول ويرد له باقى أمواله، إذا ما كان قد حصل على مبلغ يقل عن الدخل المقابل للشريحة العليا من الضريبة.
ــ وعلى عكس الوضع الحالى، الذى لا يؤدى إلى توفير كبير فى النفقات العامة، ومن ثم غير مؤثر على عجز الموازنة لأن معظم الدخول العليا فى الحكومة غير مرصودة فى الموازنة (تصرف من خارج الموازنة، مثلا من خلال صناديق أو حسابات خاصة) ــ تؤدى الضرائب التصاعدية على كل الدخول فى الاقتصاد إلى خفض العجز.
ولنأخذ مثالا من واقعنا. فرضت الحكومة فى عام ٢٠١٣ شريحة ضريبية إضافية بلغت ٣٠٪ على الدخول التى تزيد على مليون جنيه فى العام. طبقت هذه الضريبة بالكاد تسعة أشهر فقط قبل أن تلغيها الحكومة تحت ضغط من أغنياء مصر ومستثمريها، تاركة عجز الموازنة لزيادته. وعلى الرغم من التهرب والتجنب الضريبى المنتشر، وعلى الرغم من صعوبة رصد كل الدخول العليا فى الاقتصاد، استهدفت الحكومة فى عام واحد جمع أربعة مليارات جنيه جراء فرض هذه الشريحة (جمعت ٢.٥ مليار منها فى تسعة أشهر).
للعلم، تبلغ حاليا الشريحة العليا للضريبة على الدخل فى مصر ٢٢.٥٪. وفى الولايات المتحدة ٣٩،٦٪. بينما كانت هناك فى الخمسينيات والستينيات تفوق٩٠٪. نعم لقد قرأت النسبة بشكل صحيح.
فإذا طبقنا هذه الضريبة الكبيرة على الموظف الحكومى الكبير لدينا (أو المدير التنفيذى فى شركة ما أو كبار التجار) والذى يزيد دخله على ٥ ملايين فى السنة ــ مثلا ــ بفضل أعمال خارقة يقوم بها، فأى مبلغ يزيد على ذلك سوف يذهب تسعة أعشاره إلى الخزانة العامة، فإذا أعطى استشارة إضافية مقابل مليون جنيه، فلا يتبقى له سوى ١٠٠ ألف جنيه فقط! (أو بحالهم! بحسب الناظر إلى المبلغ).
ويجد توماس بيكيتى، المحلل الأهم للا مساواة فى القرن الواحد والعشرين أن هذه الضريبة المرتفعة لم تكن تملأ الخزانة العامة بقدر ما كانت تردع الأغنياء من الموظفين عن الضغط من أجل الحصول على دخول أعلى. ومن ثم تقلصت اللا مساواة فى الدخول، على عكس اليوم.
الكلمة القبيحة: إعادة توزيع الدخل
تكررت كلمة «إعادة توزيع الدخل income redistribution» فى تقرير الصندوق ٣٩ مرة.
وهى كلمة، إذا ما ذكرت اليوم فى مصر لقيل «إن هذا إلا كلام الشيوعيين»، مشفوعا بأقذع الألفاظ. ولكن، ها هو اليوم الصندوق يرددها مشفوعة بتل من الأسانيد والحجج العلمية، ومزيدة بأن استعادة الضرائب على الشرائح العليا من الدخول لا يكبح النمو.
قامت الدولة الاجتماعية فى الدول الرأسمالية، فى بدايات القرن العشرين، بفضل اختراع الضرائب التصاعدية، لإعادة ملء خزاناتها الخاوية جراء الحرب العالمية الأولى. ثم توالى فرض الضرائب من أجل إعادة توزيع الدخول. حيث أخذت الدول الكبرى من الأغنياء الضرائب الكثيرة، وأعطت للشرائح الوسطى والدنيا تحويلات ومزايا اجتماعية.
ثم، عندما جاءت صدمة البترول عام ١٩٧٣، ورفعت الدول المصدرة للبترول سعره (بقيادة الدول العربية ــ كجزء من حرب أكتوبر المجيدة ضد إسرائيل، نعم، كانت تلك لحظة لنا فيها شنة ورنة)، وقعت الدول المتقدمة صناعيا فى كساد كبير. وحينها بدأت الدول المتقدمة رحلة تخفيض الضرائب على الأغنياء وعلى الشركات وعلى مديرى الشركات وعلى الاستثمارات فى البورصة، كى ينطلق هؤلاء ويستثمروا فينشط الاقتصاد (أو هكذا كان التصور، الذى انقلب فيما بعد إلى كابوس). ولعب البنك والصندوق الدوليان دورا أساسيا فى نشر تلك السياسات ليس فقط بين الدول المتقدمة، ولكن بين كل دول العالم النامى والفقير.
يرصد الصندوق انخفاض تصاعدية الضرائب منذ عام ١٩٨١ وحتى العام الحالى. حيث انخفضت الشريحة الأعلى من ضرائب الدخل بمقدار ٤١٪ خلال تلك الفترة. وتسبب ذلك فى زيادة التفاوت بين الدخول وتزايد عجز الموازنات العامة وبالتالى تفاقم الدين المحلى، وجاء ذلك على حساب الإنفاق على التعليم الحكومى وعلى الصحة، واللذين تدهورت نوعية الخدمة فيهما. وهذا بدوره يضرب تكافؤ الفرص بين أبناء الأغنياء وأبناء الفقراء، مما يعمق الفروق. العهدة على الصندوق، نافخ البوق.
الفكرة التى يريد صندوق النقد لفت الانتباه إليها، أن مزايا الرفاه الاجتماعى ــ من مساعدات مالية لجميع الأبناء ولكل العاطلين ومعاشات كريمة وتعليم وصحة مجانيين ــ كان يقابلها فى الماضى ضرائب عالية على الأغنياء. ولكن اليوم، صارت مساهمة الأغنياء فيها أضعف كثيرا، وهو ما يغلُ يد الدولة فى إعادة توزيع الدخول.
تعتبر مصر من الدول ذات الدخل المتوسط المائل للانخفاض، ولكنها فى الوقت ذاته هى دولة لا مساواة. ولا تلعب الضرائب دورا يذكر فى إعادة توزيع الدخول بحيث تأخذ من الشرائح الأغنى لترفع من نوعية حياة الشرائح الأفقر، بحسب تقرير «التنمية والنمو الاحتوائى 2017»، الذى صدر عن منتدى دافوس (معقل الفكر المؤيد لرأسمالية الشركات العالمية الكبرى). يرصد التقرير مؤشر اللا مساواة (معامل «جينى Gini») فى كل دولة قبل وبعد الضرائب والتحويلات.
وبينما تمتاز قلة من الدول المتقدمة والنامية التى مازالت تفرض ضرائب تصاعدية (وغيرها من الضرائب) بتحسن معامل «جينى» بعد الضرائب والتحويلات، نجد أن دورها صار محدودا فى مصر ولا تؤثر إلا قليلا على اللا مساواة.
الضرائب والشاطر حسن
يقصر حديثنا هنا عن الضرائب التصاعدية كبديل لسياسة الحد الأقصى للدخل، والذى أكاد أجزم أنه غير موجود فى أى من الدول الديمقراطية ذات جهاز حكومى على مستوى مرتفع من النزاهة.
وهنا معضلة. فى عهد ليس ببعيد، كانت الضرائب التصاعدية فى نظام لا يقوم على المشاركة السياسية فى اتخاذ القرار، ولا يتمتع بمستوى عال من النزاهة. والنتيجة القابلة للتكرار فى كل زمان ومكان، إما سوف تعنى مستوى أعلى من التهرب الضريبى، وإما مزيدا من الأموال فى يد حكومة لا توجهها إلى الإنفاق الاجتماعى.
تقول الأسطورة أنه لا شاطر حسن هنا. فهل على المواطنين انتظار الضرائب التصاعدية والتحويلات فى زمان آخر أرحب سياسيا وأرحم اجتماعيا؟