سياسات الأجور الحكومية .. دراما لا تنتهي
هل تذكرون مشاهد النهاية في فيلم “تيتانك”؟ عندما تتأهب السفن الكبرى للغرق فلا يكون مصير كل الركاب واحد، إذ أن سبل الإنقاذ مهيأة بشكل أكبر للركاب الأثرياء عن الفقراء، كلما نظرت إلى موازنتنا العامة المكتظة بالأرقام تذكرت قصة تلك السفينة، وحكايات موظفي الدولة الراكبون في الأدوار العليا المترفة من سفينة الموازنة والآخرون الساكنون في أدوارها السفلى.
لا أقصد من هذا المثال أن موازنة 2017-2018 في طريقها للغرق، بالعكس فهي موازنة رشيدة للغاية من الناحية المالية، التي تُعجب صندوق النقد الدولي، حيث تم تقليص النمو في العديد من النفقات العامة وعلى الأخص الموازنة الإجمالية للأجور، والتي زادت بنسبة 4.7% عن مخصصات العام السابق، وهي من أقل معدلات الزيادة تاريخيا .. في الوقت الذي يرتفع فيه التضخم لمستويات قياسية.
فإذا حسبنا متوسط معدل النمو في ميزانيات الأجور الحكومية الورادة في الحساب الختامي منذ أن بدأت مصر في مشوار ما يسمى بالإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد في 1990-1991 وحتى العام السابق على صدور قانون الخدمة المدنية 2013-2014 سنجد أن المتوسط السنوي للزيادة كان بنحو 15.5%.
ولكن نستطيع أن نقول أن الكابتن الذي يقود الموازنة اختار أن يخفف أحمالها قليلا حتى ينجيها من الغرق، بمن إذن تتم التضحية؟ يصعب علينا أن نجيب على هذا السؤال بدقة لأن عالم الأجور الحكومية شديد التشعب والتفصيل ويحتاج إلى بحوث ميدانية ترصد مستويات الأجور في كل قطاع وما يجري من تغييرات في الحوافز والبدلات وغيرها من البنود التي تختلف من جهة لأخرى.
لكن بعض الأحداث الجارية على السطح ربما تبنئنا بشيء مما يدور في أروقة تايتنك المصرية، في سبتمبر الماضي تم نشر خبر ملفت للغاية، وهو القبض على موظفين من مصلحة الضرائب لأن كان في نيتهم تنظيم مظاهرة للمطالبة بتحسين الحوافز.
وقالت لجنة تنظيم الإضراب لجريدة المال أن ” المسؤولين قطعوا كل السبل أمام تحسين أوضاعهم (يقصد أوضاع موظفي المصلحة) فى ظل غلاء الأسعار الذي لم يترك لهم خيار آخر”المدهش في هذا الخبر أن تأتي تلك التصريحات من موظفي قطاع الضرائب، وهو القطاع الذي يتقاتل عليه الراغبون في العمل لدى الدولة لأنه مشهور بمستويات الأجور المرتفعة مقارنة بالقطاعات الأخرى.
والمعروف أن القطاعات التي تُدخل إيرادات للدولة، مثل الضرائب والجمارك والبترول، عادة ما تحصل على أجور أكثر تميزا من القطاعات البيروقراطية الأخرى، لكن هذا الوضع تغير قليلا مع صدور قانون الخدمة المدنية في 2015.
فالقانون الذي استهدفت الحكومة من وراءه كبح نفقات الأجور في الموازنة أنهى منظومة الأجور المتغيرة السابقة، وكان الأجر المتغير(الذي يشمل الحوافز والعلاوات) هو المتنفس الذي يستطيع من خلاله الموظفون أن يحسنوا من مستويات أجورهم أمام الجمود الذي يتسم به الأجر الأساسي في مواجهة معدلات التضخم.
لكن في المقابل استطاعت الجهات الأكثر تنفذا أن تصمم لنفسها أجورا متغيرة ترفع من دخولها بشكل يفوق باقي قطاعات الدولة. واستغلت الحكومة هذه المشكلة لتجمد منظومة الأجور المتغيرة بأكملها بدعوى أنها تقضي على التفاوتات غير العادلة في الرواتب.
وفتحت الحكومة الباب في القانون الجديد لوضع نظام حوافز جديد، لكننا للأسف ليست لدينا معلومات كثيرة عن هذا النظام الجديد ومن هم أصحاب الحظوة تحت مظلته، وذلك بسبب التضييق المفروض على الحياة الصحفية والبحثية، لكن ما يبدو من وقائع مثل قمع وقفة موظفي الضرائب أن العاملين في هذا القطاع لا يشعرون بنفس الرضا عن أوضاعهم كما كان في السابق.
فلننظر إذن إلى معدلات النمو في مخصصات الأجور على المستوى القطاعي ربما يساعدنا ذلك على أن نتبين الصورة بشكل أوضح، تقول لنا الموازنة أن ميزانية أجور موظفي الضرائب العامة لن تزيد هذه السنة،بل ستنكمش بنسبة -0.1% عن العام السابق، بينما ستنخفض ميزانية أجور الموظفين في الضرائب العقارية أيضا، بنسبة -2.1%، وكذلك موظفي الجمارك، بانكماش 2.5-%.
والملفت أن موظفي مصلحة الضرائب على القيمة المضافة (المبيعات) هم فقط من ستزيد موازنتهم في هذا القطاع بنحو 3%، وهي تظل أقل من الزيادة في الرقم الإجمالي لموازنة الأجور، ولا نعرف أسبابا واضحة لتفسير اختلاف وضع هذا القطاع عن باقي قطاعات الضرائب، غير أننا نستطيع أن نخمن أن الحكومة تراهن بقوة على قانون ضريبة القيمة المضافة الذي فرضته في سبتمبر الماضي لزيادة إيراداتها وسد العجز.
السخط الدائر في أوساط موظفي الضرائب لا يعني أن كل ركاب الدرجة الأولى في الموازنة ليسوا راضين عن أحوالهم فلنلقي نظرة على القطاعات التي تمثل ثقل سياسي في الدولة المصرية.
موازنة الأجور في ديوان عام وزارة الداخلية زادت هذه السنة بنسبة متواضعة،2.3%، لكن الجهات التابعة لمصلحة الأمن والشرطة زادت تقريبا بنفس المعدل الإجمالي لزيادة موازنة الأجور، 5.5%، بينما تفوقت ميزانية أجور العاملين في قطاع السجون على نمو الرقم الإجمالي لتصل إلى 8%.
وإذا نظرنا للقطاعات القضائية سنجد أن ديوان عام وزارة العدل زاد بنسبة تفوق ضعف الزيادة في الرقم الإجمالي، عند 10.2% والقضاء والنيابة العامة بنسبة 12.7%.
أما الرقم الذي يبدو مدهشا للغاية فهو معدل النمو في ميزانية أجور قطاع الشئون الخارجية والذي نما هذا العام بنحو 44% عن ميزانية العام السابق، “وربما يكون التفسير الوحيد لهذه الزيادة الاستثنائية هو التغبير الكبير في سعر الدولار أمام الجنيه بعد قرار تحرير سعر الصرف”.
ونعتذر للقاريء بالطبع عن عدم قدرتنا على عقد مثل هذه المقارنات فيما يتعلق بميزانية أجور ديوان وزارة الدفاع لأنها كالعادة مسجلة بالرقم (صفر) في وثائق الموازنة.
فلننزل إذن إلى الأدوار السفلية في تاتيتنك الموازنة، والمؤسف أن تلك الأدوار محجوزة للقطاعات المرتبطة بالتنمية الاقتصادية والبشرية في البلاد، فلننظر مثلا لميزانية أجور قطاع الزراعة سنجد أنها منخفضة بنسبة 3.2% عن العام الماضي، وميزانية أجور قطاع القوى العاملة شبه ثابتة، بزيادة 0.5% عن العام السابق.
وفي مجال أجور قطاع التعليم، وهو القطاع الذي يوظف عمالة ضخمة ولكن مستويات الأجور فيه متدنية، انكمشت ميزانية أجوره هذه السنة بنسبة بنحو 1.3-%.
ويبدو قطاع الصحة من الصور الإيجابية القليلة في مجال التنمية حيث نمت ميزانية أجور هذا العام بنحو 3% عن العام السابق.
النظر إلى ركاب تايتنك بعين الموازنة المصرية يعطينا فكرة عامة عن الركاب الذين نجو من خطة التقشف ومن تمت التضحية بهم، وهي صورة أقرب للتصورات الدائرة في خيالنا عن انحياز سياسات الأجور للجهات ذات النفوذ السياسي أكثر من انحيازها للتنمية، لكن تظل تفاصيل الصراع بين ركاب هذه السفينة والكابتن غائبة عننا ولا يظهر منها إلا قليل مما يطفو على السطح مثل محاولة موظفي الضرائب للإضراب.
فنحن نحتاج من جهة لحصر للقرارات الحكومية الصادرة بنظام الحوافز الجديدة لبعض القطاعات، تعويضا لهم عن تجميد نظام الحوافز القديم تحت قانون الخدمة المدنية، وهو أمر يصعب جدا جمعه في الوقت الحالي في ظل التضييق الشديد على الحركة العمالية الذي يعيق مدى وصولها للباحثين والصحفيين.
كما نحتاج إلى قاعدة معلومات بأعداد العاملين في كل قطاع حكومي حتى نحسب متوسط الأجر في كل قطاع وتفاوت هذا المتوسط بين قطاع وآخر، وهي المعلومات التي لا تتاح إلا في قطاعات قليلة للغاية مثل قطاع المعلمين.
لماذا لا نفكر إذن في محاولة النظر لتايتنك من زاوية أبعد؟ ربما نرى صورة أخرى تفسر لنا ما يجري في عالم الأجور.. إذا ما نظرنا لما يجري في موازنات منطقة شمال أفريقيا، تحديدا في البلدان المرتبطة باتفاق مع صندوق النقد سنجد أن السيناريو واحد تقريبا.
ففي تونس على سبيل المثال هناك جدل كبير حول ميزانية الأجور، والتي تمثل ثقلا أكبر في عجز الموازنة لأن نسبتها من إجمالي المصروفات تتجاوز الـ 60%، هذا الجدل يعكس بالطبع الرؤية الاقتصادية للصندوق الذي يلح على كبح ميزانية الأجور كأحد الحلول لتحسين الوضع المالي.
صحيح أن تونس لم تختلف كثيرا عن مصر في مدى استجابتها لضغوط الصندوق، فللأسف الثورة في البلدين لم تنتج سياسات اقتصادية بديلة لحل الأزمات المالية عبر إعادة توزيع عادل للثروة أو بمعنى آخر عبر التضحية ببعض ركاب الدرجة الأولى في تايتنك.
لكن قوة اتحاد الشغل في تونس لعبت دورا مهما في تقييد يد الحكومة عن فرملة ميزانية الأجور ودفعتها لوضع ميزانية تواكب معدلات التضخم بقدر الإمكان، إلا أن هذا لم يكن نهاية المطاف.
فإجراءات كبح ميزانية الأجور في تونس جاءت عبر طريق آخر وهو إقناع الموظفين لدى الدولة بالخروج على المعاش المبكر مقابل مكافأة مالية، وتم بالفعل إقناع أكثر من ستة آلاف عامل وهناك تطلعات لإخراج 10 آلاف آخرين.
اختلفت إذن التجربة التونسية عن المصرية بالرغم من أن التوصيات تأتي من طريق واحد وهو الصندوق، الصندوق يريد تقليص العجز على حساب الأجور الحكومية، مصر تنجح في تنفيذ تلك التوصيات عن طريق سياسات الأجور، وتونس تستجيب نسبيا لضغوط اتحاد الشغل في ملف الأجور ولكن تضغط من جهة أخرى لإقناع الموظفين بترك وظائفهم، ربما يقودنا هذا الاختلاف إلى استنتاج وهو أن شروط الصندوق ليست أمر واقع لايمكن تجنبه ولكن الأمر مرهون بقدرة أصحاب المصلحة على تنظيم أنفسهم.
لست من أنصار الدفاع عن الوظائف الحكومية على طول الخط، فهناك بالفعل عمالة فائضة ومداخيل لا يقابلها إنتاج مساوي، ولكن يجب أن ننظر إلى جهازنا الحكومي الضخم في سياقه السياسي، ففي بلد فقيرة جدا من ناحية الأمان الاجتماعي كانت الوظيفة الحكومية أحد مصادر الحماية الأساسية، وأحد الضمانات لملايين الأسر للحصول على أجر ثابت وتأمينات بعد المعاش، وإذا أرادت الدولة فعلا الإصلاح فليكن إصلاح على كل المستويات.
فليكن اقتصاد هادف للتشغيل وليس لخدمة الأنشطة الريعية حتى يجد أصحاب الوظائف الحكومية فرص عمل كريمة، فلتكن إدارة جديدة للمنظومة الحكومية تنحاز للأنشطة التنموية، من زراعة وتعليم وحماية لحقوق العمال، وليس للجهات صاحبة النفوذ، هذا هو ما يمكن أن نسميه إصلاح هيكلي، أما الاقتطاع من ميزانية الطرف الأضعف فلا يرقى حتى لأن نسميه “سياسة اقتصادية”، لأن تأثيراته على الاستهلاك والنمو بالتبعية معروفة لأي باحث مهتم بالشأن الاقتصادي في هذا البلد.