الشعب والحكومة.. أعمى يقود أعمى كلاهما يقع
فى بلد غير ديمقراطى، عادة ما يميل الحكم إلى اتخاذ قراراته الكبرى فى الظلام، لأنها لا تحقق آمال شعبه، بل تحقق مصالح مجموعة ضيقة من المنتفعين. لذا يميل هذا النوع من الحكم إلى تأليف برلمان صورى، ليبصم على ما تفعله الحكومات.
هذا ما كان عليه بإيجاز نظام الحكم أيام مبارك. فإلى أى مدى تريد مصر أن تبتعد أو تقترب من هذا النموذج؟
إذا ما نظرنا إلى كم المخالفات التى ارتكبت فى حق القانون والدستور فيما يتعلق بأهم القرارات الاقتصادية، يمكننا القول إن الوضع يتراوح بين نفس درجة السوء أو أسوأ من أيام مبارك.
والمدهش أن ذلك يتم بمباركة دولية. خذ قرض الصندوق كمثال.
منذ أكثر من عشرة أيام، وحتى كتابة المقال، خالف صندوق النقد الدولى سياسته المتعلقة بالإفصاح والشفافية من أجل عيون مصر. وهى المخالفة الثانية فى عام واحد، بأمر يتعلق ببلد واحد، بل قرض واحد. هو القرض الأكبر فى تاريخ مصر، ومن أكبر القروض التى منحها الصندوق عموما. وبالتالى، من حق الناس ــ فى مصر والعالم ــ أن تسأل لماذا يرتكب الصندوق تلك المخالفات؟ الأمر يدعو حتما للقلق.
المسألة ليست بروتوكولية، من باب الشكليات أو من باب تسديد الخانات، ولكنها مسألة تصب فى جوهر أسباب غياب العدالة الاجتماعية. ولكن فلبندأ بالشكليات وتسديد الخانات.
فعليا، لا يفرض الصندوق على عملائه من الدول المقترضة إلا أقل القليل فيما يتعلق بالشفافية. وفى هذا، فإن قواعد الصندوق أسوأ نسبيا من قواعد البنك الدولى.
ولكن حتى فى ذلك الإطار الفضفاض من قواعد الشفافية، والتى يجملها الصندوق فى وثيقة من أكثر من خمسين صفحة، وتسمى: «المذكرة الإرشادية حول سياسة الصندوق المتعلقة بالشفافية»، هناك ما يجب أن يلتزم الصندوق به، وما يجب أن يحث الدولة العضو على أن تلتزم به، من نشر أهم الوثائق المتعلقة مختلف أنواع القروض التى يقدمها الصندوق.
ووفقا لتلك القواعد، نجد أن الصندوق قد امتنع يوم أن وافق مجلسه على قرض الـ 12 مليار دولار فى 11 نوفمبر الماضى عن أن يصدر وثيقتين، بحسب قواعده: أهمهما تقرير طاقم خبراء الصندوق عن وضع الاقتصاد المصرى. والأخرى هى وثيقة تضم مواعيد نشر الوثائق المتعلقة بالقرض وببرنامج الإجراءات الاقتصادية، وهى الوثيقة التى يتوجب على الحكومة المصرية نشرها. ولكن أيا من ذلك لم ينشر، كما لاحظت ورقة موقف أصدرتها الأسبوع الماضى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
وكانت مخالفة الصندوق الثانية يوم 10 ديسمبر. فهذا هو الموعد المحدد لنشر ما يسمى «إعلان نوايا النشر». وهى وثيقة يعلن فيها الصندوق رسميا تأخر الجانب المصرى عن نشر الوثائق المتعلقة بالقرض. ويجب أن يضم الإعلان مواعيد النشر.
وهكذا من الممكن أن نتهم الصندوق بأنه خالف قواعده، ليساعد حكومتنا على التكتم على برنامج الإجراءات الاقتصادية الذى سوف تتبناه لتنال رضاه.
●●●
●●●
الأردن مثل يحتذى
ومن الجدير بالذكر أن مصر أصبحت من الدول القليلة التى تسير على درب إخفاء المعلومات عن الشعب. حيث أصبحت الدول ــ بدون أى إلزام من قبل الصندوق، تبادر بنشر كل ما هو مطلوب منها. وطبعا ينشر الصندوق أيضا وثائقه.
فعلى سبيل المثال، فى الأردن، وقع الصندوق على اتفاقية لقرض مماثل لنوع القرض الذى حصلت عليه مصر فى سبتمبر 2016. وأصدر يوم التوقيع مائة صفحة من المعلومات. أهمها تقرير طاقم الصندوق Staff Report المقدم إلى المجلس التنفيذى فى 24 أغسطس، بغرض البت. كما أشارت حزمة الوثائق فى صدر الغلاف إلى أن الأردن سوف تنشر خطاب النوايا المرسل إلى صندوق النقد الدولى وإلى السلطات فى الأردن، ومذكرة السياسات الاقتصادية والمالية الخاصة.
أما فى حالة القرض المصرى، فلم ينشر أى من الطرفين سوى بيانات صحفية، وتفريغ للقاءات الصحفية المتعلقة بالقرض. باختصار لا شىء. هى مخالفة كبيرة يساعد على ارتكابها الصندوق، الذى اتهمت مؤخرا رئيسته بالإهمال فى إنفاق المال العام فى بلدها فرنسا حين كانت وزيرة.
فى وضع التزمت فيه طواعية 93% من الدول المقترضة من الصندوق خلال العام الماضى بمتطلبات الشفافية التى ينادى بها الصندوق، تبدو مصر وكأنها تختار أن تقف شبه وحيدة فى خندق الظلام.
قالها خبراء الصندوق بوضوح، إنهم على دين زبونهم.. فإن أراد شفافية وديمقراطية وحوارا مجتمعيا، كان له ذلك. وإن لم يرد كان له ذلك أيضا. فها هم بعد الثورة يجيئون لمصر مرتين فى محاولة لإقناع مختلف التيارات السياسية وأعضاء البرلمان ومنظمات المجتمع المدنى بالقرض (ربع القيمة الحالية) وببرنامجهم فلا يستطيعون. ولا توقع مصر الاتفاق، نزولا على رغبة الشعب.
الوضع السرى؟
الوضع السرى؟
تنص مذكرة قواعد الشفافية الخاصة بالصندوق على أن «النشر هو القاعدة»، وأن النشر يجب أن يكون «فوريا». وإلا أصبحت المعلومات «بايتة» وتنعدم فائدتها. وفى ذلك هى تعطى مهلة تتراوح بين 14 و28 يوما للنشر. إلا إذا طلبت الحكومة عدم النشر، لأسباب «قوية». فما هى الأسباب «القوية» التى تجعل حكومتنا تخاف من نشر المعلومات التى وجدها الصندوق عن وضع الاقتصاد المصرى؟ ولماذا ترفض نشر برنامج إجراءات من شأنه أن يؤدى إلى تعافيه، كما تروج ليل نهار؟ أليس هذا يدعو للقلق؟
بعيدا عن النشر لتسديد الخانات، صارت المؤسسات الدولية تروج للشفافية ولنيل رضا الشعب عن برامج الإجراءات لأنها وجدت أن ذلك ضرورى من أجل نجاحه.
تصبح المشاركة فى صنع القرار ضرورة للتقليل من الفساد ولتحقيق أفضل النتائج التنموية. حين يعرف الشعب ويناقش، يصبح أكثر تقبلا للأعباء. ولكن الأهم أن النقاش يغذى متخذى القرار بأفكار عن العدالة فى توزيع الأعباء وأيضا العدالة فى جنى الثمار. فهل هناك حكومة راشدة لا تسعى لذلك؟ نعم.. إذا كانت لا تريد هذا التوزيع العادل. ويكون هذا متجليا حين تمثل الحكومة مصالح طرف واحد فقط من بين أصحاب المصلحة، ومن ثم لا تريد إشراك باقى أصحاب المصلحة الآخرين فى الحوار.
على سبيل المثال، إذا كانت هناك زيادة فى أسعار الطاقة، من يتحملها؟ ولماذا؟ إذا كان هناك هدف تقليل عجز الموازنة، فمن أى بند يتم هذا التقليص؟ من أى الأجور نقتطع؟ هل ممن هم فى أعلى سلم الأجر، أم من الجميع بشكل متساو؟ هل تتوقف التعيينات؟ هل يشمل ذلك المعلمون والأطباء والقضاة؟ هل نلجأ للمعاش المبكر؟ وكيف نضمن ألا تهجر الكفاءات القليلة الباقية الحكومة، كما حدث من قبل، و«لا يبقى على المداود إلا شر البقر؟»، كما يقول المثل الشعبى. ولماذا دافعت الحكومة عن تجميد الضريبة على الأرباح الرأسمالية فى لحظة يتسع فيها كل من عجز الموازنة والتفاوت فى توزيع الثروات؟ هى كلها أسئلة تعبر عن مصالح. ولقد رأينا كيف انفتح النقاش العام قليلا حين كان البرلمان ــ رغم كل الانتقادات الموجهة ضده ــ يناقش قانون الخدمة المدنية، أو فساد القمح أو ضريبة القيمة المضافة.
وإذا كان أغلب مؤيدى السيسى من الطبقة الوسطى ــ ومن الشباب كما رأينا فى مؤتمرهم ــ يرون أن لا بديل عن النهوض بالتعليم، فالديمقراطية تقتضى أن يستجاب لهم بالتخطيط والتمويل. خاصة أنه فى الموازنة العامة ما يسمح بهامش من التغيير فى الأولويات لم يستغل أبدا لصالح التعليم ولا الصحة. وقد صدرت عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية خلال 2016 ورقة لكيفية زيادة نسب الإنفاق على التعليم والصحة إلى الحد الأدنى الذى فرضه الدستور بدون زيادة عجز الموازنة، وهى ضمن محاولات لفتح النقاش، لم تلق أى استجابة لا من الحكومة ولا من مجلس النواب.
كلما زادت المعلومات المتاحة حول السياسات النقدية والمالية اللتين صار يشكلهما الصندوق والحكومة فى الخفاء، كلما أتيح للناس تعديل الأولويات بما فيه تحقيق الفائدة العامة بشكل ديمقراطى. ولا يخفى على أحد أن سد مثل تلك السبل الديمقراطية خطر على الجميع.
تواطؤ البرلمان
وكما خالف الصندوق قواعده، خالفت الحكومة أيضا دستورها وقوانينها أكثر من مرة فيما يتعلق بهذا القرض. أولا، يقول الدستور فى المادة 127 أنه: «لا يجوز للسلطة التنفيذية الإقراض، أو الحصول على تمويل، أو الارتباط بمشروع غير مدرج فى الموازنة العامة المعتمدة يترتب عليه إنفاق مبالغ من الخزانة العامة للدولة لمدة مقبلة، إلا بعد موافقة مجلس النواب».
وهكذا اقترضت الحكومة بدون مناقشة وموافقة المجلس. وها هى تمضى فى إنفاق عام غير قانونى يبلغ المليارات من الجنيهات. إذ يترتب على القرض تغير شكل الموازنة العامة للدولة التى أقرها البرلمان بقانون، ولا يمكن تعديلها إلا بقانون. مثلا: سوف يزداد ــ أو يقل المبلغ المخصص لدعم الطاقة، لا نعرف على وجه اليقين بسبب غياب المعلومات. كما يفترض أن يزيد عجز الموازنة نتيجة التعويم الكامل للجنيه، وزيادة سعره أكثر من 100% مقابل الجنيه. كما اضطرت الحكومة لزيادة مخصصات الدعم الغذائى.
المفترض أن يكون شهر ديسمبر قانونا هو شهر تعديل الموازنة، بعد مناقشتها. ولكننا لم نر أى مناقشات حتى الآن من أجل التعديل المنشود. هذا الموقف المشين لا يليق بنواب الشعب ومنهم الكثير من الأفاضل.
خالفت الحكومة الدستور فى حصولها على ذلك القرض، وغيره الكثير من القروض الخارجية بالمناسبة. فقد ناقش المجلس 4 مليارات من مجموع 40 مليارا تم الاتفاق عليها، كما كشف تحقيق نشر على موقع مدى مصر. فلماذا لا تعرضها على البرلمان؟ ولماذا لا يستنكر أحد أن تنفق الحكومة من أموال الشعب بما يخالف القانون؟
●●●
ماذا فرض علينا صندوق النقد الدولى وماذا اخترنا أن نقوم به طواعية من سياسات ولماذا؟ أزعم أن لا أحد يعلم على وجه اليقين.. إلا ربما بنوك الاستثمار الكبرى، واجهة كبار المستثمرين المصريين وشركائهم العرب والأجانب. وهؤلاء لا يستعلمون سوى عما يمكن أن يمس مصالحهم المباشرة، ليضمنوا وقف أى إجراء من شأنه ذلك.
الخلاصة: الشعب أعمى لا يرى ما تود الحكومة تنفيذه من سياسات تمس حياته. والحكومة عمياء لا ترى ما يعانيه الشعب ويتعامون عن مطالبه. أعمى يقود أعمى. إلى أين يصل بنا هذا الوضع؟