الوضع الاقتصادى المصرى: من أين نبدأ؟
بعد ساعات قليلة من تنحى الرئيس الأسبق حسنى مبارك، سارع المصريون فى الحديث عن خليفته وعن مصير مؤسسات نظامه السياسى، وعن مصير الرئيس شخصيا، وعن مستقبل مصر تحت حكم الإخوان، لكن فى خلفية كل الحوارات التى تابعتها وكنت طرفا فى بعضها ومشاهدا للبعض الآخر كان الحوار الاقتصادى حاضرا باستمرار!
الأسابيع الأخيرة من حكم مبارك كانت تشهد تناقضا صارخا ما بين حديث رسمى مصرى عن معدلات نمو مرتفعة وعن احتياطى نقدى آمن كان دليلا من وجهة نظر البعض على استقرار سياسى ونمو اقتصادى متسارع متوقع فى المستقبل، كانت التقارير الاقتصادية الدولية أيضا تشيد بالأداء الاقتصادى للنظام السياسى المصرى، لكن وفى مقابل كل هذا كانت هناك صرخات شعبية تئن من غلاء المعيشة وتدهور الظروف الاقتصادية، انعكس كل هذا فى بعض شعارات الثورة فى أيامها الأولى (عيش، حرية، عدالة اجتماعية)، ويتذكر البعض قيام بعض المنابر الإعلامية فى حساب نصيب المصريين من ثروة مبارك المفترضة، ورغم ما كان يثيره هذا الكلام من تندر البعض إلا أنه كان دليلا على أن السؤال الاقتصادى حاضرا دائما فى قلب الأحداث السياسية.
يهتم علم الاقتصاد السياسى بهذه المساحة تحديدا، أى تلك المساحة التى يتقاطع فيها الاقتصاد مع السياسة، الرغبة فى التغيرات السياسية أملا فى الإصلاحات الاقتصادية، الخلفية السياسية للقرارات الاقتصادية، يرى علماء الاقتصاد السياسى أن كل التغيرات السياسية الكبرى، كان الهدف منها بالأساس اقتصاديًا، وأن معظم القرارات الاقتصادية الكبرى يقف خلفها منطق سياسى، وبالتالى ففهم إحدى هذه المساحات يتطلب فورا فهما للمساحة الأخرى، فالمساحتان الاقتصادية والسياسية متشابكتان ولا سبيل لفصلهما!.
***
بنظرة سريعة على الأحداث الدولية، الاستفتاء البريطانى الذى انتهى بقرار الخروج من الاتحاد الأوروبى، الانتخابات الفرنسية والألمانية ومن قبلهما البريطانية، التوترات بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبى على هامش تردد الأخيرة فى قبول عضوية الأولى، مظاهرات نيويورك التى نادت باحتلال «وول ستريت»، التوترات السياسية فى فانزويلا، فضائح الفساد فى كوريا الجنوبية، ثورات الربيع العربى، هزيمة هيلارى كلينتون لصالح ترامب، نجد أن السياسة كانت فى قلب الاقتصاد وأن الأخير كان محركا للأولى، تستوى فى ذلك الدول جميعا، غربية وشرقية، ديمقراطية وسلطوية!.
ما الذى يعنيه ذلك؟ يعنى ببساطة أن الاقتصاد ليس مجرد قرار نخبوى يتخذه صانعوا القرارت أو الخبراء خلف المكاتب فى الحجر المكيفة، فأى قرار اقتصادى مهما بدا بسيطا له انعكاسات كبرى على الأوضاع المعيشية لملايين الناس العادية، قد لا يفهم الأخيرون فى النظريات الاقتصادية، وقد لا يكونوا نالوا شرف مقابلة مسئول رفيع واحد فى حياتهم، ولكنهم يفهمون جيدا ظروفهم الاقتصادية، ويتأثرون فورا بالقرارت الاقتصادية والسياسية، لهم حساباتهم الخاصة بخصوص نظريات العرض والطلب، الادخار والاستثمار، القروض والفوائد، هم خبراء فى تفاصيل حياتهم البسيطة ولا يستطيع أحد أن يمنعهم من هذا الحق إطلاقا!.
يعنى ذلك أيضا أن الاقتصاد ليس مجرد أرقام تضرب وتطرح وتجمع على هيئة معادلات رياضية مكتوبة بشكل معقد على صفحات بعض الكتب والتقارير والنشرات الاقتصادية، ولكنها بالأساس قرارت سياسية لها حسابات عدة، قد ينطلق بعضها من نظريات وأيدولوجيات جامدة، وقد يكون البعض الآخر بسبب مواجهة ظروف سياسية عاجلة وطارئة، وقد يكون الأمر مرتبط بترتيبات دولية والتزامات إقليمية، فى كل الأحوال لا يمكن فهم الاقتصاد بمعزل عن كل العوامل المحيطة، السياسة، المجتمع، النظام الدولى، الظروف النفسية.. إلخ.
***
بالعودة إلى الواقع المصرى مرة أخرى، نجد أن الشكوى من الأوضاع الاقتصادية حاضرة باستمرار، وأحد أهم أسباب الانقلاب الشعبى على ثورة يناير هو فشل الوعد الاقتصادى ليناير، وضمن أسباب أخرى كان أحد أهم أسباب الانقلاب على حكم الإخوان هو سوء الأداء الاقتصادى بالمثل، والآن فإن الشكوى العامة من الأوضاع الاقتصادية لم تتوقف، وخصوصا مع الارتفاع الجنونى فى الأسعار مع ثبات الدخول والرفع التدريجى للدعم الاقتصادى على هامش تعويم الجنيه، بالتوازى مع ذلك ارتفاع أسعار كل الخدمات تقريبا، فالخدمات الصحية والتعليمية الخاصة شهدت تزايدا كبيرا فى الأسعار، هناك جنون فى أسعار العقارات وتقديرى أنها فقاعة كبيرة شبيهة بتلك الفقاعة العقارية التى أحدثت أزمات اقتصادية فى الولايات المتحدة ومن قبلها اليابان، وأخيرا دخل قطاع الاتصالات على الخط، وشهد بدوره ارتفاعًا كبيرًا فى خدمات الشحن وهكذا دخلنا فى مرحلة اقتصادية جديدة بفلسفة مختلفة، انتهت سياسة ناصر الاشتراكية، ومات عصر «السداح مداح»، ولم يعد صانع القرار المصرى مقتنع بمعادلة مبارك القائمة على محاولة الموازنة بين اقتصاد السوق وبين سياسة الدعم الاجتماعى والاقتصادى، فكيف نفهم كل ذلك وما هى آثاره؟!
أحد الردود على هذه الأسئلة يقول إن الشكوى الشعبية من الأوضاع الاقتصادية مبالغ فيها من قبل الناس لذر الرماد فى العيون، فمع كل قرار اقتصادى جديد كانت الناس تشتكى لكن كل القرارات الاقتصادية مرت بسلام وسيمر غيرها بسلام أيضا حتى لو اشتكى الشعب، فهناك دائما فرضية حاضرة حتى فى أروقة النظام السياسى تقول بأن الناس لديها مدخرات «تحت البلاطة»، وأن الشكوى هى للتحايل على هذه الحقيقة، وبالتالى فهى شكوى غير حقيقية ومن هنا فالإصلاح الاقتصادى سيمر للنهاية بسلام مهما اشتكى الناس!.
رد آخر يقول إن الناس ليس لديها بالضرورة خيارات «تحت البلاط»، ولكن لديها نمط صرف استهلاكى بحت فحتى أفقر الطبقات تحرص ـ مثلاـ على اقتناء الهواتف المحمولة وتتحدث فيها بالساعات، ومن ثم فالذى سيحدث هو باختصار تغيير النمط الاستهلاكى، فالناس ستقوم بإعادة توجيه أولويات الصرف وفقا للظروف الجديدة، وسيمر الأمر أيضا بسلام.
ثم هناك رد ثالث ينتظر «ثورة الجياع»، فهناك افتراض مستمر أن هناك تذمرا متصاعدا وأنه بالضرورة سينفجر يوما ما ليؤرخ لعصر جديد لمصر. يعتقد هذا الفرض أن هناك تصاعدا مستمرا فى عملية إفقار متعمد للمصريين، وأن الكثير حتى من أبناء الطبقات المتوسطة قد هوت إلى العيش على حد الكفاف، وبالتالى فعمليات الإفقار المتتالية هذه ستكون لها ثمن سياسى فادح فى شكل ثورة عشوائية تأكل الأخضر واليابس!
***
الردود الثلاثة سالفة الذكر لا يمكن استبعادها جميعا، فكل رد لديه حجة فى تقديرى قوية أو على الأقل تستحق الرد والمناقشة، لكن قبل أن يشغلنا الحديث عن التوقعات والآثار يجب أن نفهم أولا ما الذى يحدث؟ ولماذا يحدث على هذا النحو؟ وما إذا كان هناك بدائل أخرى للإصلاح الاقتصادى؟ وأخيرا وبغض النظر عن حدوث اضطرابات سياسية من عدمها، هل من الوارد أن تفضى بنا هذه السياسات الاقتصادية إلى أوضاع حياتية أفضل فى المستقبل؟
فى مجموعة من المقالات التى قد تكون متصلة أو منفصلة حسب ظروف النشر، أبدأ سلسلة جديدة للحديث عن علاقة السياسة بالاقتصاد، باحثا عن نقطة البدء لتحليل ومن ثم فهم أى قرار اقتصادى، أناقش بعض مبادئ الاقتصاد وبعض مبادئ السياسة، عارجا على بعض النظريات الأساسية لفهم الاقتصاد من منظور السياسة، مستعيننا بأمثلة محلية وإقليمية ودولية، أحاول من خلالها التركيز على المسكوت عنه فى الأوضاع الاقتصادية المصرية، محاولا وضع إطار جديد للتحليل والفهم، لعل وعسى تكون تلك بداية متواضعة لمساعدة صناع القرار والنخب والشعب على فهم مختلف للكيفية التى يجب أن تدار بها مصر سياسيا واقتصاديا لو أرادت بالفعل أن تظل فى ركب التقدم والتحضر والتأثير والقيادة.
أحد الردود على هذه الأسئلة يقول إن الشكوى الشعبية من الأوضاع الاقتصادية مبالغ فيها من قبل الناس لذر الرماد فى العيون، فمع كل قرار اقتصادى جديد كانت الناس تشتكى لكن كل القرارات الاقتصادية مرت بسلام وسيمر غيرها بسلام أيضا حتى لو اشتكى الشعب، فهناك دائما فرضية حاضرة حتى فى أروقة النظام السياسى تقول بأن الناس لديها مدخرات «تحت البلاطة»، وأن الشكوى هى للتحايل على هذه الحقيقة، وبالتالى فهى شكوى غير حقيقية ومن هنا فالإصلاح الاقتصادى سيمر للنهاية بسلام مهما اشتكى الناس!.
رد آخر يقول إن الناس ليس لديها بالضرورة خيارات «تحت البلاط»، ولكن لديها نمط صرف استهلاكى بحت فحتى أفقر الطبقات تحرص ـ مثلاـ على اقتناء الهواتف المحمولة وتتحدث فيها بالساعات، ومن ثم فالذى سيحدث هو باختصار تغيير النمط الاستهلاكى، فالناس ستقوم بإعادة توجيه أولويات الصرف وفقا للظروف الجديدة، وسيمر الأمر أيضا بسلام.
ثم هناك رد ثالث ينتظر «ثورة الجياع»، فهناك افتراض مستمر أن هناك تذمرا متصاعدا وأنه بالضرورة سينفجر يوما ما ليؤرخ لعصر جديد لمصر. يعتقد هذا الفرض أن هناك تصاعدا مستمرا فى عملية إفقار متعمد للمصريين، وأن الكثير حتى من أبناء الطبقات المتوسطة قد هوت إلى العيش على حد الكفاف، وبالتالى فعمليات الإفقار المتتالية هذه ستكون لها ثمن سياسى فادح فى شكل ثورة عشوائية تأكل الأخضر واليابس!
***
الردود الثلاثة سالفة الذكر لا يمكن استبعادها جميعا، فكل رد لديه حجة فى تقديرى قوية أو على الأقل تستحق الرد والمناقشة، لكن قبل أن يشغلنا الحديث عن التوقعات والآثار يجب أن نفهم أولا ما الذى يحدث؟ ولماذا يحدث على هذا النحو؟ وما إذا كان هناك بدائل أخرى للإصلاح الاقتصادى؟ وأخيرا وبغض النظر عن حدوث اضطرابات سياسية من عدمها، هل من الوارد أن تفضى بنا هذه السياسات الاقتصادية إلى أوضاع حياتية أفضل فى المستقبل؟
فى مجموعة من المقالات التى قد تكون متصلة أو منفصلة حسب ظروف النشر، أبدأ سلسلة جديدة للحديث عن علاقة السياسة بالاقتصاد، باحثا عن نقطة البدء لتحليل ومن ثم فهم أى قرار اقتصادى، أناقش بعض مبادئ الاقتصاد وبعض مبادئ السياسة، عارجا على بعض النظريات الأساسية لفهم الاقتصاد من منظور السياسة، مستعيننا بأمثلة محلية وإقليمية ودولية، أحاول من خلالها التركيز على المسكوت عنه فى الأوضاع الاقتصادية المصرية، محاولا وضع إطار جديد للتحليل والفهم، لعل وعسى تكون تلك بداية متواضعة لمساعدة صناع القرار والنخب والشعب على فهم مختلف للكيفية التى يجب أن تدار بها مصر سياسيا واقتصاديا لو أرادت بالفعل أن تظل فى ركب التقدم والتحضر والتأثير والقيادة.