آفاق لبنان: المأزق الاقتصادي أو فرصة الإصلاح؟ تعليق على مشاورات المادة الرابعة لصندوق النقد الدولي للعام 2016

آفاق لبنان: المأزق الاقتصادي أو فرصة الإصلاح؟ تعليق على مشاورات المادة الرابعة لصندوق النقد الدولي للعام 2016

I. استعادة السياستين المالية والنقدية كأداتين للنمو:

تشكل السياستان النقدية والمالية أداتين رئيسيتين للسياسة الاقتصادية بوجه عام. وهما تعكسان نموذجاً اقتصادياً مقصوداً ونوع النمو المطلوب. فالسياستان مترابطتان ومتكاملتان، ولا يمكن معالجة أي منهما بمعزل عن الأخرى. وفي السياق اللبناني، استُخدمت هاتان الأداتين الاقتصاديتين بطريقة محافظة للغاية. وقد خلق ذلك أنماطاً اقتصادية تعاقِب على توسيع الاقتصاد الحقيقي وتزاحِم الاستثمار وتعمّق أوجه التفاوت الاجتماعي. وأدى ذلك إلى تخصيص موارد قيمة للممارسات النقدية التقييدية التي تشجع على تضخيم الأنشطة القائمة على الريع وربط العملات وتمويل الديون.

إن استمرار الاعتماد المفرط على سعر صرف العملة الثابت في لبنان بعد الحرب لم يحدد السياسة النقدية فحسب، بل أيضاً السياسة المالية التي تستنزف إمكانات الاقتصاد اللبناني وتفصُل أدوات السياسة العامة عن النمو. “هذا المزيج من السياسة النقدية والمالية أدى إلى اقتصاد متحيز للتمويل” (ديبة 2005). وأدى النمط المستمر لجذب تدفقات الودائع بالعملات الأجنبية وتعقيم السيولة للحفاظ على ربط العملة إلى نمو القطاعين المصرفي والعقاري. وفي حين كان ربط العملة ضرورياً لاستعادة الاستقرار في فترة ما بعد الحرب، فإن تكاليفه الخطيرة على الاقتصاد الحقيقي لوحظت مراراً وتكراراً (انظر نحاس 2000، قرم 2003، كسبار 2004، ديبة 2005) ولم تُتَّخذ أي إجراءات جادة لمعالجة الوضع. “فالدخل الريعي من مدفوعات الفائدة على الودائع، والاكتتابات في أذون الخزينة، والأرباح المصرفية، بالإضافة إلى المساعدة الإنمائية الرسمية، والتحويلات، وتدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، أصبحت محفزة في الإنتاج نظراً لارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية وارتفاع سعر الصرف الحقيقي ما أدى إلى اختناق القطاع الصناعي. وكانت عملية إزالة التصنيع في فترة ما بعد الحرب ذات أهمية كبيرة إذ حملت نوعاً من ظاهرة المرض الهولندي وحولت الاقتصاد نحو التجارة وإنتاج السلع غير التجارية” (ديبه 2005). وهكذا، وبدلاً من التخلص التدريجي من النظام النقدي الحالي (قرم 2003) وإعادة تشكيله، والتحرك نحو “دورة الأعمال التجارية أو ممارسات الإقراض القابلة للتداول الفردي والمستندة إلى الدخل، ونحو استقرار الموارد والسياسات المجزية القائمة على المخاطر” (نحاس 2000)، جرى تعميق الاعتماد على السياسات النقدية المكلفة. ويؤكد نحاس (2000)، “طالما أن رأس المال سينظر إليه على أنه مورد غير محدود يمكن دفع أي ثمن له وتوظيفه في أي مجال، سيظل القطاع المصرفي، بما في ذلك المصرف المركزي والمصارف التجارية، يُعتبَر وحده المسؤول عن دعم الهيكل الاقتصادي المشوه، وإدامة السلوك المالي القصير النظر”.

وفي هذا السياق، أظهر تقرير صندوق النقد الدولي للعام 2016 المتعلق بالمشاورات الخاصة بالمادة الرابعة (يُشار إليه فيما يلي باسم “التقرير”) أن النموذج الاقتصادي اللبناني وصل إلى طريق مسدود، خاصة مع انخفاض تدفقات الودائع الوافدة وتقلص الإيرادات الحكومية والنمو الهزيل. كذلك كشفت الاضطرابات الإقليمية عن ضعف النموذج الاقتصادي الذي يعتمد على قطاعات معتمدة على الخارج مثل العقارات والسياحة اللذين ضُرِبا (الفقرة 8). ومع ذلك، وبدلاً من اعتبار هذا المأزق الحالي فرصة للإصلاح والتفكير التطلعي، يقترح صندوق النقد فقط سياسات قصيرة الأجل لإنقاذ الوضع الراهن على أمل أن ينتهي عدم الاستقرار الإقليمي قريباً.

ولسوء الطالع، يدعو التقرير إلى تعزيز السياسة النقدية في لبنان مع التحذير من تقلص قاعدة الإيرادات، ويدعو إلى اتخاذ تدابير مالية إضافية بغرض تعبئة الموارد (الفقرة 25). ولا يبدو أن هذا النهج يعالج السياستين النقدية والمالية على أنهما فصلان منفصلان ومتوازيان فحسب، بل يربطهما أيضاً بالنمو الاقتصادي، ولاسيما النمو الشامل والمستدام القائم على العدالة الاجتماعية. والواقع أن السياسة النقدية التقييدية التي أشاد بها صندوق النقد في التقرير كانت أحد العوائق الرئيسية أمام توسع الإيرادات العامة. فاستمرار ممارسة ربط العملات التي تتطلب تعقيم السيولة وزيادة أسعار الفائدة لجذب الودائع الأجنبية تكبّد تكاليف باهظة مالياً واقتصادياً تعيق الاستثمارات الرأسمالية في الاقتصاد الحقيقي وتوسع القاعدة الضريبية. أولاً، أدى ذلك إلى زيادة سريعة في الدين العام، وعلى نحو أكثر تحديداً الدين الممول محلياً من المصارف، ما جعل المصارف الممول الرئيسي للدولة. وفي المقابل، أدت الحاجة المستمرة للدولة لتمويل إنفاقها والحفاظ على استقرار العملة إلى تجريد السياسة المالية من وظيفتها الاقتصادية وجعلت الضرائب مجرد تدبير استخراجي بدلاً من أن تكون أداة لإعادة التوزيع وتشجيع الأنشطة الاقتصادية المنتجة. وفي هذا الصدد، لا تتعدى المشاورات في إطار المادة الرابعة مستوى الأعمال المعتادة، إذ تشدد على أن “النظام المصرفي يظل ركيزة أساسية للمرونة اللبنانية” وأن “السياسة النقدية يجب أن تظل موجهة نحو دعم ربط سعر الصرف”.

وستدرس الفقرات التالية تحليل الصندوق وتوصياته الواردة في التقرير. وستعالج أولاً القضايا المتعلقة بالسياسة النقدية، قائلة بأن الإصلاح في هذا الصدد ضروري لتحفيز الاستثمار. ثانياً، ستعالج في شكل نقدي رأي التقرير في السياسة المالية، مع التأكيد على الحاجة إلى أدوات مالية تتجاوز خدمة الدين. وأخيراً، ستقدم مقترحات للسياسات من أجل وضع لبنان على طريق النمو المستدام والشامل للجميع.

II. السياسة النقدية: مصدر للريع أو تحفيز للاستثمار؟

فيما ينتقد التقرير آخر عملية مالية قام بها مصرف لبنان واعتبرها غير مستدامة وتزيد من مخاطر الدولرة، لا يشير صراحة إلى النتائج الحقيقية للعملية. فالتقرير يوضح الخطوات المختلفة للعملية وكذلك نتائجها الإيجابية والمحفوفة بالمخاطر، ومع ذلك، من المثير للاهتمام أنه لا يعترف بأن هذه الممارسات ساهمت في تعظيم أرباح المصارف من خلال استخدام الأموال العامة. وتعد الإجراءات الأخيرة لمصرف لبنان مثالاً صارخاً على تشجيع السلطات لسلوك البحث عن الريع في الاقتصاد اللبناني. في الواقع، فإن ما يدعوه صندوق النقد “السيولة العالية لليرة اللبنانية” هو فائض في الأرباح يعادل خمسة مليارات دولار تقريباً يبرز التقرير الحاجة إلى استيعابها. ولا يمكن القيام بذلك إلا من خلال إصدار مزيد من أذون الخزينة التي تشتريها المصارف، ما يؤدي إلى مزيد من الأرباح. وتمثل العملية وآثارها المستقبلية تذكيراً قوياً بأن السياسة النقدية الحالية تجعل الدولة مجرد وسيلة لتوجيه الثروة من دافعي الضرائب إلى المصارف الخاصة. وهذه ممارسة كانت مستمرة منذ أوائل التسعينيات. يقول كسبار (2004)، “أصبح الإنفاق الحكومي بالتالي آلية لتحويل الأموال إلى المستفيدين من الريوع وأصحاب الامتيازات السياسية […]. والواقع أن المصارف أصبحت في التسعينيات المستفيد الرئيسي من السياسة الاقتصادية للحكومة. فحسابات رؤوس أموال المصارف التجارية ارتفعت من 143 مليون دولار نهاية 1992 إلى 3.3 مليار دولار نهاية العام 2002”.

والواقع أن ممارسات مصرف لبنان سرعت وضخمت الأرباح التي تحققها المصارف الخاصة بالفعل من إقراضها الدولة من خلال شراء أذون الخزينة واليوروبوندز. وأعاد المصرف شراء أذون الخزينة بالليرة اللبنانية من خلال دفع ثمن كل إذن بواقع 139% من السعر الأصلي (السعر الأصلي بالإضافة إلى نصف أرباح الفوائد التي ستتحقق عند الاستحقاق) (زبيب 2017). وبالتالي، فإن هذه العملية ليست معزولة عن التكتيكات القديمة، في فترة ما بعد الحرب، التي شكلت الدولة فيها العميل الرئيسي للمصارف الخاصة. وعزز ذلك أن مزادات أذون الخزينة كانت تحمي السوق من منافسة المستثمرين الأجانب، ما جعلها نادياً مغلقاً للمصارف اللبنانية يرفع أسعار الفوائد اصطناعياً فوق معدلات السوق (ديبه 2005). وفي هذا الصدد، فإن توصية التقرير التي تقول، “يتعين على مصرف لبنان المركزي أن ينسحب من مزادات أذون الخزينة واليوروبوندز ويشجع المصارف على المشاركة مباشرة” تأتي في الوقت المناسب وضرورية. ومع ذلك، يجب على صندوق النقد أن يذهب أبعد من ذلك وأن يسلط الضوء على الآثار والمخاطر الطويلة المدى للدور الحالي للنظام المصرفي اللبناني.

ولم يتناول التقرير الدور الضعيف وغير الكافي للمصارف الخاصة اللبنانية في تمويل القطاع الخاص وتأمين السيولة للاستثمارات. ويشير ذلك إلى أن صندوق النقد يعتبر على ما يبدو دورها في تمويل الدين العام حقيقة واقعة، في مقابل وظيفتها “العادية” المتمثلة في تمويل استثمارات القطاع الخاص. ومن شأن هذه السياسات أن تعزز الزواج غير المقدس بين المصارف اللبنانية والدولة من خلال السياسة النقدية التي تعمل كأداة لدعم المصارف الخاصة. وأدى الحفاظ على ربط العملات من خلال تعقيم السيولة (أي ارتفاع أسعار الفائدة على أذون الخزينة) إلى جعل أرباح المصارف تعتمد على زيادة الدين العام. وما لم يُكسَر هذا الرابط، لن تؤدي السياسات المقترحة التي تدعي تعزيز الثقة في النظام المصرفي إلا إلى تفاقم الدين العام وخدمته.

ويذهب التقرير إلى أبعد من ذلك ليوصي بأن “مصرف لبنان سيحتاج بدلاً من ذلك إلى استخدام أسعار الفائدة كأداة سياسية أكثر مباشرة ويسهل نقلها لتأمين تدفقات النقد الأجنبي الداخلة”. ومن شأن الزيادة المقترحة في أسعار الفائدة والهادفة إلى جذب العملات الأجنبية أن تزيد من معاقبة الاقتصاد الحقيقي وتزيد من سلوك البحث عن الريوع عن طريق تحقيق أرباح زائدة من خلال النظام المصرفي. “أدى الجمع بين معدلات الفائدة الاسمية المرتفعة واستقرار الأسعار، والأخير يعود أساساً إلى سياسة ربط سعر الصرف، إلى وضع من أسعار الفائدة الحقيقية العالية […]. وكان تأثير ارتفاع تكلفة المال أساساً فصلاً للقطاع المالي عن القطاع الحقيقي والفرص الاقتصادية الناجمة عن غالبية الناس والشركات” (كسبار 2004). وفي وقت يتسم بالنمو الهزيل والمتراجع، يوصي صندوق النقد بمزيد من السياسات الانكماشية بدلاً من السياسات التوسعية المعاكسة للاتجاهات الدورية.

وفي الفترة من العام 2011 إلى العام 2015، بلغت أسعار الفائدة على الإقراض للقطاع الخاص 5% في المتوسط في حين بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي 2%. ويؤكد ذلك مرة أخرى السياسة النقدية التي تعزز النمو الإقصائي الذي لا يعطي حوافز لاستثمارات القطاع الخاص (كسبار 2017). ولا يمكن فصل ذلك عن السياسة المالية وعلاقات القوة داخل النظام الاقتصادي اللبناني. وبالإضافة إلى القطاع المصرفي، ساهم هذا النطاق الضيق الذي طال أمده في السياسات النقدية في ازدهار القطاع العقاري، ويُعفَى القطاعان من الضرائب على الأرباح ويمثلان الدافعين الرئيسيين للريوع الاقتصادية والسياسية.

وبالنظر لتوزيع هيكل القروض، فإن ما يقرب من 34% من القروض (أكبر نصيب مجمّع مقارن بالائتمان للأنشطة الأخرى) صُرِف بالتساوي للبناء والتشييد (16.7%) وقروض الإسكان (17.2%) (جمعية مصارف لبنان 2016). ويكشف ذلك بوضوح دور المصارف التجارية في تمويل كل من العرض والطلب على الأنشطة العقارية. ومن الجدير بالذكر أن مصرف لبنان يشجع تراكم رأس المال في العقارات من خلال العديد من المخططات التي تدعم جزءاً من برامج قروض الإسكان الصادرة عن المصارف الخاصة. وبالتوازي مع ذلك، تواصل المصارف التجارية شراء أذون الخزينة الحكومية من أجل تمويل الدين العام وخدمته إذ بلغت مطالبات المصارف من القطاع العام 56308 مليار ليرة أي ما نسبته 21.3% من أصول المصارف في مقابل 25.8% للمطالبات من القطاع الخاص المقيم. وفي شكل عام، بلغت حصة القروض المصرفية للقطاع العام والودائع لدى مصرف لبنان 57.4% من الأصول المصرفية في العام 2014 (جمعية مصارف لبنان 2016).

ويكشف ما سبق ذكره وجود عملية واضحة لتوزيع عكسي للثروات، إذ تستخدم الحكومة أموال دافعي الضرائب لتمويل خدمة الدين العام وإدارته من خلال أذون الخزينة. وأصبحت هذه الأخيرة أحد المصادر الرئيسية لخلق النقود من جانب المصارف التي تستفيد من الحصول على الأموال المضمونة لاستثمارها في قطاعي البناء والعقارات التي تخلق منتجات القروض الرئيسية – قروض الإسكان – التي يدعمها جزئياً مصرف لبنان.

وبعبارة أخرى، يمول المواطنون المصارف من خلال مرحلتين، وذلك أولاً من خلال مقدار الضرائب التي تستهلكها خدمة الدين، والثاني من خلال قروض الإسكان المدعومة من المصرف المركزي. وبالإضافة إلى ذلك، تظهر نتائج أخيرة وجوداً كبيراً للنخبة السياسية داخل النظام المصرفي في شكل حيازة أسهم أو حيازة مقعد في مجلس الإدارة (شعبان 2015). وهذه اشارة واضحة على دخول المصرفيين الى السلطة وليس انتقال السياسيين الى المصارف. وهذا من أهم معالم الاقتصاد السياسي اللبناني بالأخص بعد الحرب حي يستحوذ المصرفيون والمطورون العقاريون على حصة أكبر من السلطة ويعيينون ممثلين لهم فيها. وعلاوة على ذلك، “تولى ويتولى العديد من المطورين العقاريين والمقاولين مناصب حكومية بارزة، وللعديد من السياسيين استثمارات في قطاع البناء والتشييد. ويُزعَم أن إحدى الأسر وحدها تملك 59 شركة عقارية في لبنان في صورة مباشرة أو غير مباشرة. وبالنظر للمعلومات المتاحة للجمهور، من الواضح على الفور أن السياسيين اللبنانيين البارزين الآخرين من مختلف الانقسامات الطائفية يشاركون أيضاً في العقارات، ويمثلون معاً القوة الرئيسية التي تقود القطاع. كذلك لدى البيروقراطيين من المستوى الأدنى للدولة حصتهم في القطاع العقاري؛ على سبيل المثال، عندما يشارك أعضاء البلدية مباشرة في إصدار تصاريح الهدم والبناء ومراجعتها” (سقسوق – ساسو وبكداش 2015). وفي هذا السياق، فإن توصية التقرير التي تقول، “يتعين على مصرف لبنان أيضاً أن ينسحب من مخططات شبه مالية. فهو سيحتاج إلى السماح بانتهاء مخططات الائتمان المدعومة القديمة، مع الامتناع عن إضافة مخططات جديدة” تمثل خطوة أولى نحو إنهاء المحاباة تجاه القطاع العقاري، لكن يلزم إدراجها في سياسة اقتصادية أوسع لتشجيع النمو المستدام إذ أن السياستين النقدية والمالية عنصران حاسمان لا يقتصران على هدف استخراج الموارد لتمويل الديون.

وأخيراً، لا يسع المرء إلا أن يشك في قدرة النظام المصرفي اللبناني على الصمود الذي أشار إليه صندوق النقد (الفقرة 65). فالعملاء الرئيسيون للمصارف اللبنانية الخاصة هم الدولة والمستهلكون الأفراد. وفي العام 2014، أشار حاكم مصرف لبنان إلى أن القروض الاستهلاكية تمثل 50% من دخل الأسرة في لبنان (وهبة 2014). ويحافظ كلا العميلين على إنفاقهما من خلال وسائل لا تنبع من دخلهما، الدولة من خلال مزيد من الديون والأفراد من خلال التحويلات والقروض. ويعاني العميل الأول من تدني الإيرادات، بينما يعاني الثاني من انخفاض القوة الشرائية وتدهور ظروف العمل والتدفقات غير المستقرة للتحويلات. ولا يظهر كل منهما أنماطاً واضحة من إمكانات النمو الصلب في إيراداته. وهذا لا يمكن إلا أن يثير فهمنا المشكك في مرونة المصارف. ويزيد ذلك من خطر التخلف عن السداد، وقد يخلق حلقة مفرغة تمثل فيها قروض المصارف لكلا الطرفين جزءاً مهماً من ثروتها الاسمية وأرباحها المعلنة سنوياً.

إن ضعف قدرة الاقتصاد اللبناني على خلق فرص العمل وزيادة معدلات البطالة يزيد من مخاطر خلق موجة تعثّر قد تكون لها مخاطر كبيرة على القطاع ككل. ولا يقوض ذلك أهمية احتياطات السيولة التي تحصل عليها المصارف والتي يمكن أن تُستخدَم وسادة أمان في سيناريوهات كهذه. ومع ذلك، ينبغي أن نذكر أن هذه الحالة تعقّم السيولة وتحوّلها بعيداً عن الإقراض إلى الأنشطة الاقتصادية المنتجة من جانب القطاع الخاص. ولا يزال وصول القطاع الخاص إلى التمويل يشكل تحدياً مهماً بسبب السياسة النقدية الجارية. وعلاوة على ذلك، كُشِف أخيراً أن رئيس الوزراء الحالي (الذي لديه أسهم في أحد المصارف الرئيسية في البلاد) هو واحد من أكبر 10 مقترضين من قطاع المصارف يمسكون بـ 22% من إجمالي القروض. وكما هو معروف، يواجه السيد سعد الحريري مشاكل خطيرة من التوقف عن السداد في عملياته التجارية الدولية. وفي هذا السياق، يمكن للمرء أن يفسر التدابير المالية الأخيرة التي اتخذها المصرف المركزي كتدخل وقائي لتجنب ما كان يمكن أن يؤشر إلى أزمة تخلف عن التسديد في القطاع المصرفي اللبناني.

III. تحرير السياسة المالية من خدمة الدين

كما ذُكِر أعلاه، لا يبدو أن تقرير صندوق النقد يربط السياسة المالية بهدف تحقيق نمو مستدام ومنصف. فالتقرير يشدد على أن الهدف الرئيسي للسياسة المالية هو تعبئة الموارد لغرض تثبيت الديون وتخفيضها (الفقرة 31)، ما يؤكد من جديد وظيفتها الاستخراجية. ولهذه الغاية، اقترح صندوق النقد سلسلة من التدابير الضريبية، بما في ذلك زيادة الضريبة على دخل الشركات، والضريبة على القيمة المضافة، والضريبة على الدخل، والضريبة على الدخل من الفوائد، فضلاً عن فرض ضريبة على الأرباح الرأسمالية العقارية. وفي حين أن بعض هذه التدابير يأتي في الوقت المناسب، فإن أغراضها الاستخراجية تمنعها من إحداث أثر اقتصادي ذي مغزى. وتتعين إعادة النظر في النظام الضريبي بأكمله من أجل الاستجابة للحاجة إلى إعادة الهيكلة الاقتصادية والتوزيع فلا يكون مجرد أداة لاستخراج الإيرادات لأغراض خدمة الدين. ومن الضروري زيادة الضريبة على دخل الشركات، لكن يجب عليها أن تخدم سياسة اقتصادية تنحو نحو تشجيع بعض القطاعات التي توجد فيها إمكانيات الميزة النسبية، والقيمة المضافة العالية، والعمالة. ولذلك، بدلاً من زيادة الضريبة ذات المعدل الثابت فقط، يجدر النظر في إعادة تطبيق الضريبة على دخل الشركات لتشمل عدداً من الحوافز الموجهة نحو قطاعات معينة يمكن أن تحقق الأهداف المذكورة أعلاه.

وعلاوة على ذلك، فإن زيادة الضريبة على الدخل من الفوائد وتطبيق ضريبة على رأس المال العقاري يخاطران بعدم ترك آثار ذات مغزى إذا لم تكن الضريبتان موجهتين نحو معاقبة سلوك البحث عن الريع. وفي هذا الصدد، ينبغي لهذه الضرائب أن تجعل الأنشطة الاقتصادية المستندة إلى الريع أقل جاذبية، وأن تجعل الاستثمارات الإنتاجية ذات قيمة مضافة عالية والقطاعات الغنية بالوظائف أكثر جاذبية. ومن شأن ذلك أن يقترن بسياسة نقدية موجهة نحو النمو تستند إلى زيادة عرض النقود المتاحة للمستثمرين باستخدام أسعار فائدة منخفضة. فعلى سبيل المثال، كان من الممكن أن تستخدم الأرباح التي حققتها عمليات مصرف لبنان أخيراً في صرف القروض للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. فمن شأن هذا النوع من التدابير أن يعبئ الموارد العامة وأن يدعم الأنشطة الاقتصادية ذات الإنتاجية والقيمة المضافة العاليتين. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى عكس التأثير الناجم عن تشجيع الأنشطة غير المأجورة القائمة على الريع وانتشارها، إذ أن الأنشطة المذكورة أعلاه المدرة لأرباح فائقة أدت إلى تفكيك القطاعات الإنتاجية الخاضعة للضريبة وتحويل رأس المال من الثانية إلى الأولى.

وفي هذا الصدد، فإن الزيادة الضئيلة في الضريبة على الدخل من الفائدة تقاومها بشدة جمعية مصارف لبنان. فالأخيرة أرسلت مذكرة إلى الحكومة تفيد بأن المخاطر الضريبية المقترحة تؤثر على الاستقرار النقدي (صحيفة الأخبار 2017). وفي هذا الصدد، حذر رئيس جمعية مصارف لبنان، في إطار رفض زيادة الضرائب، من أن الأمر سيؤثر على النظام المصرفي الذي يستند إلى استثمارات في شهادات إيداع وأذون خزينة (أو تي في 2017). وهذا يؤكد من جديد الملاحظات المذكورة أعلاه على النظام النقدي اللبناني وتوصية تقرير صندوق النقد. علاوة على ذلك، تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الأرباح التي حققتها المصارف من خلال آخر عملية للمصرف المركزي غير خاضعة للضريبة، وكذلك إيرادات الفوائد من اليوروبوندز. وتسعى جمعية مصارف لبنان إلى تجنب زيادة الضرائب على إيرادات الفوائد وإلغاء تخفيضها من ضريبة الدخل على الشركات (القائمة حالياً) من خلال تقديم صفقات للحكومة. وينص الاتفاق على أن يحدد وزير المالية احتياجات التمويل للعام 2017 المتوقعة من زيادة الضرائب على المصارف. وبناء على ذلك، تصدر وزارة المالية أذون خزينة بفوائد أقل من تلك الموجودة في السوق، والفرق سيشكل احتياجات التمويل المحددة. وفي المقابل، تلتزم المصارف بشراء هذه الأذون التي ستُصدَر لمرة استثنائية واحدة (وهبة 2017). من جهتها، تقود “الهيئات الاقتصادية”، التي يقودها اتحاد غرف التجارة والصناعة واتحاد التجار في بيروت، المعارضة ضد الزيادة الطفيفة في الضريبة على دخل الشركات وتعديلات جداول الرواتب والضريبة الجديدة على الأرباح الرأسمالية العقارية. وهي تدعي أن هذه التدابير ستدمر الاقتصاد اللبناني. وتضطلع جمعية المصارف والهيئات الاقتصادية بممارسة ضغوط شديدة ضد هذه التدابير الضريبية من خلال وسائط الإعلام ومن خلال ممثليها داخل الحكومة. وحقيقة أن هذه التدابير المقترحة لا تزال غير كافية ليكون لها أثر تصحيحي على الاقتصاد، والضغط المتواصل ضدها، يظهران مرة أخرى أن هناك عدم رغبة في الإصلاح سواء من الهيئات الاقتصادية أو الحكومة.

نظرة بسيطة إلى أرقام الناتج المحلي الإجمالي وتكوينها وفق القطاع تعطينا صورة مذهلة عن تفضيل قطاعات اقتصادية على غيرها، وعلى وجه التحديد الأنشطة الأكثر ريعية على الأنشطة الإنتاجية. هناك تفاوت صارخ في الضرائب المطبقة بين القطاعات الإنتاجية (الصناعة والزراعة) والقطاع الريعي (المصارف والعقارات). فالقطاعات ذات الأرباح الفائقة تخضع لضريبة أقل، ما يظهر بوضوح اختلال التوازن في السلطة في الاقتصاد اللبناني، فالنخبة المالية والعقارية المرتبطة والمترابطة مع الهيئات التشريعية والتنفيذية معفاة أو شبه معفاة من الضرائب.

وفي الواقع، فإن العدد الضخم من الحوافز والإعفاءات الضريبية يوضح ديناميكيات السلطة في النظام اللبناني، إذ تُشجَّع القطاعات الأقل توليداً للعمالة أو المولدة للعمالة الأقل مهارة. ويعفى القطاع العقاري الذي يشكل نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي (بنك ميد 2015) من ضريبة الأرباح الرأسمالية التي تنتج عن مضاربات الأسعار. وينطبق الأمر نفسه على القطاع المصرفي وغياب أي ضرائب على الودائع التي بلغت 209،793 مليار ليرة لبنانية (جمعية مصارف لبنان 2014)، أي ما يقرب من 360% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2013. وتتركز هذه الودائع في شكل كبير في أيدي عدد قليل من العملاء، ويمكن رؤية ذلك من خلال تركيز الائتمان (كمقياس بديل لأن المصارف لا تنشر بيانات عن مودعيها)، إذ أن 1.5% من العملاء مسؤولون عن 70% من القروض المقدمة في العام 2014 (جمعية المصارف في لبنان 2014). ويعكس ذلك أيضاً الضرائب الضئيلة غير المنصفة على الفائدة إذ تدفع الحسابات الفردية الصغيرة والحسابات الكبيرة معدل الضريبة نفسه على الفوائد. وعدم وجود ضريبة على الودائع أو ضريبة تصاعدية على الدخل من الفوائد يبرره قانون السرية المصرفية الذي يعيق وصول عملاء المصارف إلى المعلومات. ولذلك، لكي تكون هذه الضرائب أدوات اقتصادية، يجب أن تكون كبيرة. ومع ذلك، أظهرت التجربة أن نخبة رجال الأعمال المتشابكة مع النخبة السياسية قاومت بشدة هذه التدابير، حتى عندما تكون ضئيلة ولا تؤثر على الأنماط الاقتصادية السائدة، بحجة أنها ستؤدي إلى الانهيار الاقتصادي. ويجب أن يوفر السلوك المالي إشارة إيجابية لتشجيع الاستثمار باستخدام آليات الحوافز المناسبة.

وعلاوة على ذلك، بدلاً من اقتراح إعادة هيكلة الضريبة على القيمة المضافة لمعالجة أثرها التراجعي، نظراً لأن الأسر ذات الدخل المرتفع تستفيد من إعفاءات الضريبة على القيمة المضافة كنسبة من نفقاتها أكثر من الأسر ذات الدخل المنخفض (سلطي وشعبان 2009)، يقترح التقرير زيادتها إلى جانب ضرائب أخرى غير المباشرة. وهذا بدوره يعود إلى المخاوف الاستخراجية لدى صندوق النقد، ومع ذلك، يمكن تحقيق تعبئة للإيرادات من خلال فرض معدلات مختلفة للضريبة على القيمة المضافة وفق السلع والخدمات مع إزالة الإعفاءات عن اليخوت، والنقل الجوي، والأحجار الكريمة وشبه الكريمة، والمال القابل للتداول، وبيع العقارات المبنية، والخدمات المصرفية والمالية، وغيرها من أمور مستهلكة في الغالب من الفئات ذات الدخل المرتفع.

ومن ناحية أخرى، يشير التقرير إلى أن “هناك مجالاً لزيادة الامتثال الضريبي. فتحصيل الضرائب لا يمثل سوى 50% من القدرة المقدرة. ويلزم تعزيز الجهود الجارية في هذا المجال لمواصلة تعزيز الإعلان الضريبي الإلكتروني، من ضمن أمور أخرى”. وتشير هذه التوصية إلى أن صندوق النقد يتبنى نهجا إدارياً للضرائب، في حين تتجاهل حقيقة أن الامتثال المنخفض ليس مسألة تقنية وإنما مسألة علاقات قوة. أما الآثار المترتبة على التدابير المقترحة فسيتحملها في الغالب الأجراء. والواقع أن التهرب من دفع الضرائب هو أكثر شيوعاً بين أصحاب الدخل المرتفع الذين لديهم مصادر دخل متنوعة (أسود 2015). ولا يوجد في لبنان نظام شامل لضريبة الدخل، أي أن هناك أنظمة مختلفة لمختلف الدخول التي يحصل عليها الأفراد. وهذا يترك مجالاً للتلاعب بقانون الضرائب من أجل إيجاد ثغرات لتجنب الضرائب من الناحية القانونية من خلال استخدام الإعفاءات أو التوفيق بين النظم المختلفة لدفع مبلغ أقل من الضرائب. وهذا النوع من الممارسات أكثر شيوعاً لدى ذوي الدخل المرتفع، إذ لديهم القدرات والإمكانيات لممارسة تلاعب كهذا واستغلال هذه الثغرات. وفي الواقع، يمتلك أصحاب الدخل المرتفع ميزتين مقارنة بالمجموعات الأخرى. أولاً، دخلهم أكثر تنوعاً بين الأجور والريوع والعمالة الذاتية ودخل الأعمال. وعلاوة على ذلك، تستند مصادر الدخول، غير الأجور، إلى تقديم الإقرارات الضريبية، ما يعني أن من المفترض أن يصدر الشخص المعني تصريحاً، ما يوجِد مجالاً للتهرب والفساد. ومن ناحية أخرى، تُحسَم ضريبة الأجراء من المنبع الذي يعلن صاحب العمل فيه رواتب موظفيه. “وبما أن الأجور المتلقاة يبلغ عنها أرباب العمل، الذين لا يملكون عموماً اهتماماً بتقليل المبالغ، فإن من الأصعب على العاملين تجنب دفع الضرائب. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الإصلاحات المالية التي أُجرِيت في العقد الأول من القرن الحالي (إنشاء خدمة للإعلان عبر الإنترنت، وإنشاء وحدة مستقلة من ضمن إدارة الإيرادات لـ “اقتطاع ضريبة الدخل على الرواتب من المنبع” في العام 2003، بهدف أتمتة عمليات الاقتطاع من المنبع)، بهدف زيادة عدد دافعي الضرائب وتسهيل إدارة المخالفات غير القانونية، أثرت في شكل رئيسي على دافعي الضرائب من ذوي الدخل المنخفض أو المتوسط، والعمال على وجه الخصوص” (أسود 2015).

هذه هي أعراض الاقتصاد السياسي للضرائب وعلاقات القوة السائدة في الاقتصاد اللبناني التي لا يتغاضى عنها التقرير فحسب، بل يساهم فيها بتوصياته. فالنخب الاقتصادية والتجارية متشابكة وغالباً ما يُخلَط بينها وبين العلاقات السياسية وعلاقات المحسوبية والزبائنية. وهذا يُترجَم تغاضياً عن نقص الإبلاغ وحمايةً للمتهربين من الضرائب. وتجلى ذلك في عدة مناسبات خاصة من خلال إضفاء الشرعية على المخالفات الضريبية. في العام 2006، أعفت الحكومة أرباب العمل الذين لم يدفعوا اشتراكات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الخاصة بهم من غرامات التأخير، كما أن وزارة المالية ومجلس الوزراء يتخذان بانتظام قرارات إعفاء للشركات من دفع رسومها المستحقة على انتهاكات الإبلاغ الضريبي والتأخير في دفع الضرائب. ويؤدي ذلك إلى إعفاء كبار المكلفين من دفع أموال كبيرة للخزينة (صحيفة النهار 2015). وفي العام 2016، أرسل وزير المالية طلباً إلى مجلس الوزراء بإعفاء 14 شركة (بما في ذلك مصارف وشركات عقارات) من الغرامات على مدفوعاتها الضريبية المتأخرة وانتهاكاتها التي بلغت 105 ملايين دولار (صحيفة الأخبار 2016).

وفي هذا الصدد، ينبغي إعادة التأكيد على أن السياسة المالية والإصلاح الضريبي تحديداً ينبغي أن تُستخدَما بعيداً عن الاهتمام باستخراج الموارد لأغراض خدمة الدين التي ستغذي في نهاية المطاف أرباح المصارف كما كانت الحال طوال فترة ما بعد الحرب. وينبغي ألا تُستخدَم الشبكة الكاملة للسياسة المالية كنظام لاستملاك الموارد من الطبقات الدنيا للمجتمع لصالح النخبة التجارية والسياسية، ومن المستهلكين لصالح الموردين، ومن القطاع الإنتاجي لصالح الأنشطة الاقتصادية القائمة على الريع. بل ينبغي بدلاً من ذلك، أن تكون بمثابة مقياس للهندسة الاقتصادية من أجل تحقيق نمو إنتاجي غني ومنصف ولتوفير الاستثمار والطلب المحلي بعيداً عن الائتمان. إن 50% من دخل الأسر ينفق على سداد الائتمان (وهبة 2014)، وهذا ليس فقط بسبب انتشار الأجور المنخفضة بل هو أيضاً أحد آثار السياسة النقدية المعتمدة. ونظراً لارتفاع أسعار الفائدة الذي يعرقل الاستثمار الخاص، استخدمت المصارف ما تبقى من السيولة الفائضة من خلال تقديم قروض استهلاك عديدة وغير ضرورية للأفراد. وعلاوة على ذلك، فإن الزيادة المقترحة للضريبة على القيمة المضافة وضرائب الإنتاج وضرائب الاستهلاك الأخرى التي اقترحها صندوق النقد، ومن ثم الحكومة، تغذي السخط العام المتزايد، ومن المرجح أن يكون لها تأثير مضاعف يتمثّل في تقليص الطلب، فضلاً عن زيادة مديونية الأفراد. وهنا تكمن أهمية تنفيذ تعديل الرواتب للقطاع العام لتحفيز الطلب. ومع ذلك، ينبغي أن تكون هذه التدابير أكثر شمولاً لزيادة حصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي من خلال حفز العمالة عن طريق تشجيع تنمية القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة العالية من خلال سياسات مالية ونقدية سليمة.

IV. النمو المستدام والشامل: الحاجة إلى سياسات مالية ونقدية استباقية ومكافحة دورية

استناداً إلى ما تقدم، فإن تحقيق نمو مستدام وشامل يبدأ بإعادة توجيه السياسات النقدية والمالية نحو تحقيق هذا الهدف. ولا شك في أن هذا ينبغي أن يشمل تعزيز تنمية اقتصاد المعرفة فضلاً عن تحسين البنية التحتية. ويقترح التقرير إجراء إصلاحات لقطاع الكهرباء موصياً “ببدء عملية رفع التعرفات إلى مستويات استرداد التكاليف”. قد يكون ذلك خياراً، لكنه ليس بالضرورة خياراً مستداماً، إذ أن الحكومة بحاجة إلى الشروع في إصلاح شامل يعزز الوظائف وكذلك في تحسين البنية التحتية الحالية إلى جانب إنشاء قطاع الطاقة الخضراء. ومن شأن هذا الإصلاح أن يمتد ليشمل البنية التحتية العامة في البلد، ليس فقط الإنترنت والكهرباء، بل أيضاً النقل فضلا عن البنية التحتية الاجتماعية (التعليم والصحة وما إلى ذلك). وهناك حاجة إلى استثمارات عامة في البنية التحتية من أجل حشد الاستثمارات الخاصة. وفي هذا الصدد، قد لا تكون الشراكة بين القطاعين العام والخاص أفضل خيار. مع الأخذ في الاعتبار هيكل القطاع الخاص اللبناني الذي يهيمن عليه السياسيون واقتصاداتهم المحسوبة، فإن العديد من الكتابات حول برامج إعادة الإعمار في فترة ما بعد الحرب هي مثال واضح على هذه السمة الإشكالية للقطاع الخاص (نجم 2000).

في الواقع، أظهرت التجربة الدولية العديد من المزالق التي تعترض الشراكة بين القطاعين العام والخاص في العديد من الجوانب: الدولة ستتحمل مخاطر أكبر من الفوائد التي ستحصلها، وارتفاعاً في الإنفاق العام وكذلك رسوم المستخدمين (سانغر وكراولي 2009)، وإخفاءً لأعباء الديون الإضافية تحت ستار الشراكة بين القطاعين العام والخاص، فضلاً عن فضح إضافي لفساد الحكومة من خلال عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص (هول 2014). وعلاوة على ذلك، حذر صندوق النقد من أن “الحكومة قد تفرط في تسعير المخاطر وتفرط في تعويض القطاع الخاص عنها، ما من شأنه رفع تكلفة الشراكة بين القطاعين العام والخاص بالنسبة للاستثمارات العامة المباشرة” (صندوق النقد الدولي 2004). وهذه ليست ممارسة غير شائعة في لبنان عندما يتعلق الأمر بتعاقد الحكومة مع جهات خاصة لإدارة الخدمات العامة أو المرافق العامة بسبب الشبكة المتشابكة بين نخبة رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين، وتجلى أحدث مثال بأزمة إدارة النفايات.

وتحقيقاً لهذه الغاية، يحتاج وضع البلاد على مسار النمو المستدام والشامل استراتيجيات أكثر شمولاً. وفي هذا الصدد، تُعتبَر السياسات النقدية والمالية لمواجهة التقلبات الدورية السياسات الأساسية. على الصعيد النقدي، إن خفض أسعار الفائدة إلى مستوى نمو الناتج المحلي الإجمالي للسماح للمستثمرين بالاستفادة من السيولة المتاحة، وتفضيل قطاعات مختارة ذات احتمالات نمو وتوظيف مرتفعة في الإصلاحات الضريبية أمران حاسمان. وعلاوة على ذلك، يجب النظر في تدابير حاسمة عدة على المستوى المالي، وفي شكل أكثر تحديداً الضرائب:

الأجر الاجتماعي: في العام 2012، اقترح وزير العمل السابق مخطط “الأجر الاجتماعي” من أجل التصدي لركود الأجور في لبنان. لا ينطوي هذا المخطط فقط على رفع الحد الأدنى للأجور، لكن الأهم من ذلك أنه يتكون من خدمات اجتماعية غير مدفوعة، بدءاً من التعليم والصحة إلى الحماية الاجتماعية. ومن شأن هذه الخدمات أن تُموَّل مباشرة من الضرائب بدلاً من اقتطاعات من الأجور. وبالتالي يشمل هذا المخطط حماية شاملة من الرعاية الصحية تغطي جميع المواطنين سواء العاملون المهيكلون، أو العاملون غير المهيكلون، أو العاطلين عن العمل، أو العاملون غير النشطين. وهذا المخطط للرعاية الصحية الشاملة لن يُموَّل من خلال الاقتطاعات من الأجور ولا من خلال الاقتطاعات من أرباح الشركات أو مدخراتها. بدلاً من ذلك هو سيُموَّل فقط من خلال فرض ضرائب على الدخل الريعي (زبيب 2011). وينطوي الأجر الاجتماعي على سلسلة من التدابير الضريبية على النحو التالي.

فرض ضرائب على الريوع: فرض معدل تصاعدي على الدخل الريعي، بما في ذلك الأرباح المتأتية من بيع الأصول الرأسمالية (مثل العقارات) وكذلك الضريبة التصاعدية على الدخل من الفوائد والودائع المصرفية. وتكون معدلات هذه الضرائب مرتفعة فتفوق معدلات الهوامش الأعلى تلك القائمة على الربح. هذا الإجراء قد يقيده قانون السرية المصرفية الذي لا يكشف حجم الودائع المصرفية، وبالتالي لا يمكن معرفة إيرادات الفوائد التي يحصل عليها كل مودع. ولذلك يجب إما رفع قانون السرية المصرفية أو ترك الخيار للمودعين بالكشف عن حساباتهم على أن يستفيد أولئك الذين يكشفون عن حساباتهم من ضريبة أقل ستكون في صالح صغار المودعين. وكما ذكر أعلاه، فإن فرض ضرائب على الريوع سيموّل الأجر الاجتماعي، وفي الوقت نفسه سيفرض عبئاً ثقيلاً على الأنشطة حيث يتوافر للمستثمرين مزيد من الحوافز لتوجيه استثماراتهم إلى الأنشطة الإنتاجية.

تشجيع القطاعات الإنتاجية والعمالة المهيكلة: بما أن توفير الخدمات الاجتماعية، بما في ذلك الرعاية الصحية الشاملة، سيُموَّل من خلال الضرائب على الريوع، ستُلغَى الاشتراكات الخاصة بتعويضات الصحة والأمومة التي تُدفَع إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ما سيخفض تكاليف اليد العاملة بالنسبة للشركات ويشجعها على هيكلة العمال الذين تستخدمهم. وفي الوقت ذاته ستُعطَى الشركات بعض الحوافز الضريبية المشروطة لتشجيع أنشطتها، مثل خفض الضرائب والإعفاءات لبعض القطاعات. وهذا من شأنه أن يكون في إطار من السياسات الاقتصادية العامة التي تهدف إلى تحديد القطاعات الإنتاجية ذات إمكانات النمو والميزات النسبية التي من شأنها أن تشجع على النمو من خلال الائتمان المنخفض التكلفة وإعفاءات ضريبية (مثل التكنولوجيا، والصناعات الخضراء، والزراعة، الخ).

تطبيق ضريبة الدخل الشاملة: على كل الدخول (باستثناء الريوع كما هو محدد أعلاه إذ ستُفرَض ضريبة خاصة) بما في ذلك الدخول من أرباح الشركات القابضة التي من شأنها أن تخضع للضريبة مثل الأرباح الأخرى من الدخل. وعلاوة على ذلك، يجب إجراء إعادة هيكلة لفئات الدخل المختلفة مع زيادة معدلات الهوامش العليا بما يتماشى مع معايير البلدان المتوسطة والعالية الدخل. ويستتبع ذلك أيضاً إلغاء مجموعة واسعة من الإعفاءات وخاصة المتعلقة بالنظام الطائفي الذي ذكرناه في كل أنحاء الورقة.

إصلاح الضريبة على الاستهلاك والاستثمار العام في البنية التحتية: هذا يتطلب نوعين من التدابير. أولاً، تطبيق ضريبة على القيمة المضافة موحدة بمستويات مختلفة وفق المنتجات فتُفرَض على المنتجات الغذائية الأساسية ضرائب أقل من غيرها. وفي الوقت نفسه إلغاء الإعفاء على السلع الكمالية وفرض ضرائب عليها بمعدلات أعلى. ثانياً، يجب بذل جهود للتخفيف عن المستهلكين النفقات الإضافية التي تترتب على استهلاكها وخاصة تلك المتعلقة بالكهرباء والماء والنقل، بالإضافة إلى الاستثمار في مجال التعليم. وهذا يعني استثماراً عاماً مهماً لإصلاح هذه القطاعات الثلاثة من دون تخصيصها لضمان التغطية الكاملة والمستدامة. والمنافع لن تعود على المستهلكين الأفراد فحسب بل ستقل التكاليف على القطاعات الإنتاجية (مثل الصناعة والزراعة) التي ستكون لديها البنية التحتية اللازمة لإجراء عملياتها من دون تكبد تكاليف إضافية.

المراجع:

صحيفة الأخبار. 2017. “جمعية المصارف للحكومة: أرباحنا لا تُمَس! (باللغة العربية)”. صحيفة الأخبار، 17 شباط/فبراير. قُرِئ في 20 شباط/فبراير 2017. http://al-akhbar.com/node/272694.

– 2016. “إعفاء مصارف وشركات من الغرامات مكافأة المتهربين من الضريبة (باللغة العربية)”. صحيفة الأخبار، 13 تموز/يوليو. قُرِئ في 20 شباط/فبراير 2017.http://www.al-akhbar.com/node/261224.

صحيفة النهار. 2015. ” الإعفاء من الغرامات يحرم الدولة أكثر من 25 مليار ليرة (باللغة العربية)”. صحيفة النهار، 12 كانون الثاني (يناير). قُرِئ في 20 شباط/فبراير 2017.http://newspaper.annahar.com/article/204655-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D9%81%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D9%8A%D.

جمعية مصارف لبنان. 2016. أهمّ القوانين المصرفية والمالية. 29 أيلول/سبتمبر. http://www.abl.org.lb/subPage.aspx?pageid=362.

جمعية مصارف لبنان. 2014. التقرير السنوي. بيروت: جمعية مصارف لبنان.

أسود، ليديا. 2015. أعلى الدخول والضرائب الشخصية في لبنان. باريس: مدرسة باريس للاقتصاد.

بنك ميد. 2015. تحليل القطاع العقاري في لبنان. بنك ميد.

شعبان، جاد. 2015. “ندوة: خريطة سيطرة الطبقة الحاكمة على المصارف في لبنان” 15 أيلول/سبتمبر. http://jadchaaban.com/blog/mapping-the-control-of-lebanese-politicians-over-the-banking-sector/.

قرم، جورج. 2003. “إصلاح النظام النقدي لبنان: الشروط الأساسية للخروج من فخ الديون”. التحليل الشهري (16).

ديبة، غسان. 2005. “الاقتصاد السياسي لإعادة الإعمار بعد الحرب في لبنان”. المعهد العالمي لبحوث اقتصاديات التنمية التابع لجامعة الأمم المتحدة.

كسبار، توفيق. 2004. الاقتصاد السياسي في لبنان، 1948 – 2002. بوسطن: بريل.

– 2017. “خطة عمل لازدهار لبنان (باللغة العربية)”. صحيفة الأخبار. 24 كانون الثاني/يناير. قُرِئ في 14 شباط/فبراير 2017. http://al-akhbar.com/node/271537.

هول، ديفيد. 2014. لماذا لا تنجح الشراكات بين القطاعين العام والخاص. الخدمة الدولية العامة.

صندوق النقد الدولي. 2004. الشراكات بين القطاعين العام والخاص. صندوق النقد الدولي.

نحاس، شربل. 2000. “القطاع المالي اللبناني: وظيفته الاقتصادية”. ورقة معدة للبنك الدولي. قُرِئ 25 شباط/فبراير 2017.http://www.charbelnahas.org/textes/Ecrits_sur_l’economie/Economic_function_of_the_Lebanese_banking_sector.pdf.

نجم، توم. 2000. نهضة لبنان: الاقتصاد السياسي لإعادة الإعمار.

أو تي في. 2017. “مسلسل الموازنة والمصارف مستمر (باللغة العربية)”. أخبار أو تي في. 24 شباط/فبراير. قُرِئ في 25 شباط/فبراير 2017.http://www.otv.com.lb/beta/v/episode/مسلسل-الموازنة-والمصارف-مستمر-39040.

سقسوق – ساسو، عبير، ونادين بكداش. 2015. “المصلحة الخاصة تغلق الفضاء الاجتماعي؟ تحليل نقدي للقطاع العقاري في لبنان”. نحو اقتصاد السلام في لبنان، حررته جيسيكا بانفيلد وفيكتوريا ستاماديانو، 26 – 38. التنبيه الدولي.

السلطي، نسرين، وجاد شعبان. 2009. آثار الفقر والإنصاف لرفع في الضريبة على القيمة المضافة: محاكاة للاقتصاد الجزئي في لبنان. بيروت: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

سانغر، توبي، وكورينا كراولي. 2009. “المشكلة مع الشراكات بين القطاعين العام والخاص”. المركز الكندي للبدائل السياسية. 1 نيسان/أبريل. قُرِئ في 14 شباط/فبراير 2017.https://www.policyalternatives.ca/publications/monitor/problem-public-private-partnerships.

وهبة، محمد. 2017. “المصارف تعرض ’رشوة‘ للدولة بدل الضرائب (باللغة العربية)”. صحيفة الأخبار، 24 شباط/فبراير. قُرِئ في إلى 25 شباط/فبراير 2017. http://al-akhbar.com/node/273109.

– 2014. “مؤشرات تقلق رياض سلامة (باللغة العربية)”. صحيفة الأخبار، 20 حزيران/يونيو. قُرِئ في 14 شباط/فبراير 2017. http://www.al-akhbar.com/node/208917.

زبيب، محمد. 2017. “5 مليارات دولار أرباح المصارف وكبار المودعين من ’الهندسة المالية‘ (باللغة العربية)”. صحيفة الأخبار، 13 كانون الثاني/يناير. قُرِئ في 14 شباط/فبراير 2017. http://www.al-akhbar.com/node/270823.

– 2011. ” مقاربة وزير العمل ’الثورية‘: إعادة الاعتبار إلى مفهوم الأجر الاجتماعي (باللغة العربية)”. صحيفة الأخبار، 10 تشرين الأول/أكتوبر. قُرِئ في 20 شباط/فبراير 2017.http://al-akhbar.com/node/23269.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart