الاقتصاد الاجتماعي والتضامني
اهتم العالم مؤخرًا، بمعنى خلال السنوات العشر الماضية، بفكرة ودور الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، والقضية محل الاهتمام كانت محاولة التعرف على دور مجموعة من اللاعبين المهمين الذين يلعبون دورًا أساسيًا في حياة طبقات عريضة من السكان الفقراء ومتوسطي الدخل في دول العالم المختلفة، واختلف الباحثون حول حجم المساهمة الكمية التي يضطلع بها هؤلاء اللاعبون. وزادت أهمية الاقتصاد الاجتماعي والتضامني مع نمو درجة عدم الرضاء ما بين الفقراء في الدول النامية خاصة عدم الرضاء بطبيعة الفرص ونوعية الخدمات المقدمة لهم من قبل الدولة، وهو ما أثار موجات من الثورة في عدد من هذه الدول.
و في إطار الهيكل المعقد لهذه الدول بدأت تظهر مجموعة من الأشكال المؤسسية والجهود الجماعية والمبادرات التي تتبناها جماعات من المواطنين بهدف التخفيف من حدة الفقر ، والحد من التوتر وتقديم سلع وخدمات اجتماعية للمجموعات المحرومة من الأفراد في المجتمعات المحلية بأسعار منخفضة نسبيًا.
هذه المؤسسات موجودة من عشرات إن لم يكن مئات السنين ولكن دورها، ونطاق انتشارها وتأثيرها لم يكن يتم قياسه فيما قبل أو تحليله على المستوى الدولي أو على المستويات المحلية. ومن هنا جاء الاهتمام مؤخرًا بهذا القطاع الذي يلعب دورًا توازنيًا في حياة الشعوب قد يفوق أحيانًا دور الحكومات أو يساعد في الحد من شدة الأزمات التي يصعب على الحكومات التعامل معها ومعالجتها. لذلك فإن فهم دور وتحديات وأسلوب عمل تلك المؤسسات ونجاحاتها قد تكون نقطة بداية لتحسين أدائها وتوسيع نطاق عملها.
ولعل البداية لابد أن تكون من تعريف قطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني حيث اختلفت التعريفات و لكن أهمها ما ورد في كتابات منظمة العمل الدولية “فالقطاع يشمل المشروعات والمؤسسات بصفة خاصة التعاونيات، وجمعيات المنافع التبادلية، وجمعيات أهلية، والمؤسسات والمشروعات الاجتماعية، التي تنتج سلعًا وخدمات ومعرفة وهي تحقق أهدافًا اقتصادية واجتماعية وتقوي من أواصر التضامن”.
وتضمن المسمى لمصطلح “اقتصاد” يعني أن القطاع يقوم بإنتاج سلع وخدمات ويزيد من الثروة الجماعية الصافية. أما الشق الخاص بالجانب “الاجتماعي” فيعني أن الربحية تكون اجتماعية أو جماعية بدلاً من فردية. فكل الأفراد المشاركين في هذه المشروعات بالعمل والإنتاج يتمتعون بالعائد والربحية. و تتسم هذه المؤسسات بعدد من الخصائص التي تميزها عن باقي المؤسسات الساعية لتحقيق الربح الاقتصادي البحت. وأهم هذه الخصائص هي:
· أنها مؤسسات مستقلة وخاصة تستفيد من آليات السوق لتحقيق أهداف اجتماعية.
· أنها تخدم أعضائها سواء كان الانتماء مهنيًا أو سكان بيئة محلية محددة أو مجموعة تمارس نشاطًا اقتصاديًا متقاربًا .
· القرار في هذه المؤسسات ديمقراطي، جماعي، ويتضمن مشاركة العاملين والمستخدمين لهذه السلع والخدمات.
· الأنشطة المتنوعة قائمة على عدة مبادئ أهمها التشاركية، التمكين والمسئولية الاجتماعية.
ما هي أهم مؤسسات الاقتصاد التضامني و الاجتماعي في مصر؟
يوجد بمصر نوعان من مؤسسات الاقتصاد التضامني والاجتماعي وهما قطاع التعاونيات والجمعيات الأهلية غير الهادفة للربح. كما يمكن اعتبار الصندوق الاجتماعي للتنمية “أو جهاز تنمية المشروعات المتوسطة، والصغيرة ومتناهية الصغر والصغيرة حاليًا” أحد الشركاء باعتباره يقدم خدمات مالية وغير مالية للجمعيات الأهلية التي تقوم بأنشطة اقتصادية/اجتماعية بجانب تمويلها للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر .و حتى نتفهم دور اللاعبين الثلاثة سوف نستعرض أهم أنشطتهم وخدماتهم للمجتمع.
أولاً القطاع التعاوني في مصر:
هو من أقدم القطاعات العاملة في مجال تقديم الخدمات والمزايا الاقتصادية والاجتماعية لأعضائه. بدأت الحركة التعاونية في مصر عام ١٩٠٨ وهي حاليًا تتضمن ١٨٠٠٠ مؤسسة تعاونية وتخدم ما يقرب من ١٤ مليون عضو. قدرت قيمة معاملات الاتحاد العام للتعاونيات والاتحادات المركزية للتعاونيات بحوالي ١٧.٨ مليون جنيه في ٢٠١٢/٢٠١١. المؤسسات الأعضاء تمكنت من توفير فرص عمل لحوالي ٥ مليون عامل وأنتجت قيمة مضافة قدرت بحوالي ٤٩.٣ مليار جنيه أو ٧.٧٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي في نفس العام.
مرت التعاونيات بمراحل متعددة من النمو والازدهار والتهميش والتراجع. ومع الوقت تزايد عدد السلع والخدمات التي تقدمها واستمر نمو الحركة حتى منتصف الثمانينات حين صدر القانون ٢٨ لسنة ١٩٨٤ للحركة التعاونية. وأنشأ اتحاد التعاونيات ليتضمن ٥ اتحادات مركزية/نوعية وهي: للاستهلاك، الإنتاج، الزراعة، الإسكان والثروة السمكية. لكل اتحاد نوعي جمعيات تابعة له وأعضاء وأحيانًا جمعيات إقليمية. بالإضافة لما سبق، الاتحاد العام يضم تعاونيات إعلامية تصدر خمسة جرائد، والمعهد العالي للتعاون، وجمعيات علمية وجمعيات تعاون تعليمية.
في منتصف الثمانينات تراجع دور الجمعيات لأسباب متعددة أهمها تزايد الدين العام، واهتمام الدولة بالمؤسسات الهادفة للربح في مطلع التسعينات بدرجة أكبر، وإلغاء الإعفاءات الضريبية الممنوحة لها والاستيلاء على عدد من الأصول الهامة المملوكة للجمعيات مثل محطات البنزين والمخازن الزراعية بدون أي تعويضات.
كيف تخدم التعاونيات أعضائها؟
– الاتحاد التعاوني للاستهلاك:يخدم أعضائه من خلال الجمعيات الاستهلاكية التعاونية التي توفر السلع الرخيصة نسبيًا وتحقق أمن غذائي لأعضائها وتحارب التضخم. وقدرت قيمة الناتج المحلي لهذا القطاع بحوالي ١٠ مليار جنيه في ٢٠١٢/٢٠١١. وقدمت خدماتها لحوالي٧.٧ مليون عضو.
– الاتحاد التعاوني الإنتاجي:يضم عددًا من أصحاب الحرف الإنتاجية مثل صناعة الأثاث والمعادن والصناعات الهندسية والمنسوجات والملابس الجاهزة والسجاد والأكلمة والجلود. التعاونيات تساعد أعضائها في تسويق منتجاتهم وشراء مواد الإنتاج بأسعار رخيصة، فضلاً عن توفير معارض دائمة لمنتجاتهم. وقدر حجم إنتاج الاتحاد بحوالي ١٥ مليار جنيه في ٢٠١١/٢٠١٢ وقدم خدماته ل ٢ مليون عضو.
– الاتحاد التعاوني الزراعي:هو أكبر الاتحادات التعاونية في مصر، ويقدم خدمات وسلع متنوعة لأعضائه أهمها: الأسمدة والمبيدات الحشرية، الآلات، النقل والإرشاد الزراعي. كما استثمر الاتحاد في عدة مشروعات مثل تربية المواشي، والدجاج، وإنتاج التقاوي، والأسمدة،والعسل، واستصلاح أكثر من ١ مليون فدان. وقدر حجم إنتاج الاتحاد بحوالي ٣٠ مليار جنيه في ٢٠١١/٢٠١٢ وبلغ حجم العضوية ٤ مليون عضو.
– اتحاد تعاونيات الإسكان:قام بإنشاء ١ مليون وحدة سكنية من ١٩٨١ حتى ٢٠١١. ويضم ٢ مليون عضو ، كان حجم أعمال الاتحاد ١٧ مليار جنيه في ٢٠١١/٢٠١٢.
– الاتحاد التعاوني للمصايد والأسماك: متخصص أساسًا في صيد الأسماك والمزارع السمكية، وقام بتوفير ٩٥٪ من احتياجات السوق المصرية للأسماك وقدر حجم إنتاجه ب ١ مليون طن أسماك. ويملك الاتحاد ٢٠٠٠ فدان من المزارع السمكية ويوظف حوالي ١.٥ مليون فرد، وتبلغ عضويته ٩٥ ألف عضو.
كل هذه الاتحادات لا تحصل على أي مساعدات حكومية وقليل من التمويل المصرفي. كما أنها تطالب من فترة طويلة بتغيير القانون المنظم لها. فكل اتحاد نوعي يتبع من الناحية الفنية لوزارة دون الأخرى. فالاتحاد الاستهلاكي يتبع وزارة التموين والاتحاد الزراعي يتبع وزارة الزراعة، والاتحاد الإنتاجي يتبع وزارة الصناعة…..الخ دون أن تنظم الاتحاد النوعية تحت مظلة واحدة ترعاها وتشرف بصورة جدية عليها.
ثانيًا الجمعيات الأهلية :
أول جمعية أهلية في مصر أنشئت سنة ١٨٢١ وهي الجمعية اليونانية. تلاها عدد من الجمعيات مثل الجمعية الجغرافية ١٨٧٥، والجمعية الخيرية الإسلامية ١٨٧٨، والجمعية القبطية ١٨٨١. وتزايد أعداد الجمعيات الأهلية مع صدور دستور ١٩٢٣ الذي تضمن مادة “٣٠” التي نصت على حرية إنشاء الجمعيات الأهلية. وقدر عدد الجمعيات بحوالي ٤٧ ألف جمعية في سنة ٢٠١٤ ما بين جمعيات فعالة قليلة في عددها وغالبية غير نشطة. وبلغ عدد أعضائها حوالي ٣ مليون عضو في نفس العام. وقد صدر قانون إنشاء الاتحاد العام للجمعيات والمؤسسات الأهلية ” رقم ٣٢ في ١٩٦٤”.
وتتنوع الجمعيات الأهلية في أنشطتها ما بين ثقافية وعلمية ودينية واقتصادية واجتماعية وسكانية. وتمثل الجمعيات الدينية والثقافية والعلمية ٢٣٪ من إجمالي عدد الجمعيات، يليها جمعيات المساعدة الاجتماعية ١٩٪ من إجمالي عدد الجمعيات، وجمعيات التنمية المحلية ١٤٪ من إجمالي العدد. وتبين البيانات أن الغالبية العظمى من الجمعيات الأهلية تتركز في محافظات الصعيد بأكثر من ٥٠٪ من العدد ومحافظة القاهرة بحوالي ٢٠٪ من إجمالي الجمعيات، و الباقي يتوزع على باقي المحافظات ما بين الوجه البحري ١١٪ والإسكندرية ٣٪ ثم باقي المحافظات.
يتم تمويل الجمعيات من ثلاثة مصادر أساسية وهي التمويل الذاتي من تبرعات الأعضاء أو المنح الحكومية أو المنح والمساعدات الدولية. وتؤكد البيانات القليلة المتاحة أن الغالبية العظمى من تمويل الحكومة توجه للجمعيات بالقاهرة، بينما الغالبية من المنح الدولية توزع علي الجمعيات في منطقة القاهرة الكبرى “٤٠٪” والصعيد “٥٠٪”، بينما نصيب محافظات الوجه البحري “باستثناء دمياط والإسكندرية” ضئيل للغاية ولا يزيد عن ٥٪ من إجمالي المنح الدولية.
عمومًا بيانات التمويل محدودة للغاية خاصة التبرعات من الأعضاء أو الآخرين. وهو ما يتطلب بناء قاعدة بيانات لكل بيانات العضوية والتمويل بأنواعه والأنشطة وتوزيعها النوعي والجغرافي والسكاني. وتؤكد البيانات المتاحة في ٢٠٠٤ أنه من بين ٤١ ألف جمعية تم حصرها يوجد ١٦ ألف جمعية مسجلة في وزارة التضامن الاجتماعي. واستحوذت ٢٦٤ جمعية فقط على كل المنح الأجنبية المقدمة للجمعيات في مصر. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن المنح المقدمة خلال الفترة من ٢٠١١ -٢٠١٣، حيث دخل مبلغ ١،٩ مليار جنيه بمتوسط ٦٥٠ مليون جنيه سنويًا لـ٧٠٧ جمعية فقط. لذلك يمكن القول بأن هناك درجة عالية من التركز في أموال المنح الدولية لعدد محدود من الجمعيات والمؤسسات الأهلية وهو ما يجافي منطق العدالة في التوزيع على الأنشطة المختلفة وعلى الأقاليم الجغرافية .
وفي محاولة لتقدير ما يمثله إنفاق الجمعيات الأهلية لإجمالي الناتج المحلي وفي ظل شح البيانات، تم الاستعانة ببيانات ٢٠٠٤، حيث بلغت إجمالي إنفاقات الجمعيات حوالي ١ مليار جنيه أي ٠.٢٪ من الناتج المحلي الإجمالي “٤٦٥ مليار جنيه مصري في ٢٠٠٤”، وهو مبلغ ضئيل نسبيًا على الأقل مقارنة بناتج الجمعيات التعاونية الذي قدر بحوالي ٧.٧٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي في ٢٠١١/٢٠١٢.
ثالثًا، الصندوق الاجتماعي للتنمية
هو لاعب شبه حكومي ، حيث صدر قانون بإنشائه عام ١٩٩١ وكان يرأسه رئيس مجلس الوزراء وحاليًا يرأسه وزير الصناعة والتجارة ولكن تحت اسم جهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر “٢٠١٧”. ويمول الصندوق من ١٩ ممولاً أجنبيًا بجانب تمويل الحكومة بحوالي ١٠٪ من إنفاقاته. وتراجع الحكومة ومجتمع المانحين أعمال الصندوق وأدائه. وكان للصندوق الاجتماعي للتنمية ثلاثة أهداف أساسية وهي خلق فرص عمل وتوليد الدخل ورفع مستوى معيشة الفقراء من خلال ثلاث قنوات، وهي، تقديم خدمات مالية وغير مالية وخدمات للمجتمعات المحلية.
وتتضمن الخدمات المالية تقديم تمويل مباشر للمشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر؛ وتمويل الجمعيات الأهلية والبنوك لتقديمها المنح للمشروعات بأحجامها الثلاث المختلفة؛ ومساعدة مشروعات الفرانشايز على العمل والتوسع. أما الخدمات غير المالية فتشمل التدريب على التسويق، وإدارة المشروعات، وإقامة المعارض الداخلية والخارجية لمنتجات المشروعات المستهدفة؛ والحضانات التكنولوجية؛ وخدمات الأعمال الفنية/ التكنولوجية. أخيرًا، مشروعات خدمة المجتمع، وتهدف لتمويل مشروعات البنية الأساسية ومشروعات تنمية المجتمع بهدف خلق فرص عمل من أنشطة كثيفة التشغيل.
و لعل أهم برامج الصندوق الاجتماعي كانت تمويل المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر. و أسهمت برامج التمويل في خلق فرص عمل وإن كان تقدير عدد الفرص سنويًا يتفاوت بحسب أسلوب الحساب وتقدير متوسط تكلفة فرصة العمل. فالصندوق قدر عددها خلال ٢٠٠٦ -٢٠١٠ بحوالي ١٫٢ مليون فرصة عمل، بينما التقديرات الخاصة وصلت إلى أنها ٣٤٧ ألف فرصة خلال نفس الفترة، أي بمتوسط ٨.٧٥٪ من إجمالي الداخلين الجدد لسوق العمل سنويًا. وفي محاولة لتقدير حجم مساهمة الصندوق من خلال القروض في الناتج المحلي الإجمالي، بلغت القروض في ٢٠١٢ حوالي ٢ مليار جنيه أي حوالي ٠.١١٪ من الناتج المحلي الإجمالي في نفس العام.
إذن، اللاعبون الثلاثة لهم دور مهم في خلق فرص العمل والإنتاج وتقديم السلع والخدمات الاجتماعية لأعضاء هذه الجمعيات والمستفيدين منها الذين قدر عددهم بحوالي ١٩ مليون مستفيد. ومع ذلك دور هؤلاء الشركاء الثلاثة يمكن أن يكون أكثر تنوعًا وشمولا وأكبر مساهمة في توليد الناتج الاقتصادي والاجتماعي، بما يحقق قدرًا أكبر من التضامن الاجتماعي.
إن قطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني قطاع حيوي ولكنه مازال قطاعًا مهملاً من الدولة. وعلى الدولة أن تعمل على إصدار قانون التعاونيات المطلوب منذ أكثر من ثلاثين عامًا وهناك تعديلات كثيرة مقترحة ومحددة على القانون القائم. فضلاً إلي أهمية وجود قانون جمعيات أهلية ميسر للعمل وغير معاق له.
الاهتمام بهذا القطاع يساعد علي تحسين أوضاع المواطنين وخاصة المهمشين والفقراء، ويقدم منتجات منخفضة التكلفة، ويخلق فرصًا أفضل لتسويق منتجات صغار المنتجين، فضلاً عما يوفره من فرص عمل، وهي كلها أمور مصر في أشد الحاجة إليها.