البعد الاجتماعي والاقتصادي للثورة في سوريا
السيرورة الثورية في سوريا ومنذ بدايتها استقبلت بحذر من قبل بعض اليسار وحتى أنهم فصلوها عن مسار الثورات في بقية دول المنطقة، واتهمت بكونها مؤامرة يديرها الغرب والدول الرجعية كالسعودية وقطر.
للأسف، حلل الكثيرون السيرورة الثورية السورية من ناحية جيوسياسية، من فوق، متجاهلين الديناميكيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مستوى القاعدة. هذه معضلة كبيرة، حيث أنه تم تناسي أن السيرورة الثورية السورية هي جزء من حركة شعبية إقليمية.
هذا المسار استمر على الرغم من إجرام النظام.
وتظهر هذه المواقف ضعفا في الفهم والتحليل، أولا، لسياسات وطبيعة النظام، وثانيا، لديناميكيات الثورة.
كما قال الماركسي الفرنسي بيار فرانك: “دعونا نلاحظ أن أعظم منظري الماركسية لم يعرّفوا طبيعة سياسة النظام البرجوازي من خلال المواقف الذي يتخذها الأخير في مجال السياسة الخارجية إنما فقط وببساطة من خلال موقفها فيما يتعلق بالطبقات التي تتألف منها الدولة”.
سنستعرض في هذه الندوة الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للثورة السورية.
الثورة الشعبية في سوريا بدأت نتيجة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970. وهذه التغيرات تندرج في سياق السيرورة الإقليمية والعالمية لتطبيق السياسات النيوليبرالية منذ ذلك العقد.
عهد حافظ الأسد من مركزية اقتصادية إلى رأسمالية متوحشة فاسدة
لا يجب أن ننسى في 1970، حين رحب تجار حلب ودمشق لمجيء حافظ الاسد الى السلطة، ومساندتهم للحركة التصحيحية التي قادها حافظ الاسد، والتي انهت السياسات الراديكالية التي اعتمدت في الستينيات، والتي تحدّت سلطة البرجوازية، السياسية والاقتصادية. فتجار المدن وقتها، والذين كانوا ناشطين بشكل قوي ضد الجناح اليساري، في حزب البعث، ارسلوا متظاهرين الى شوارع المدن الكبرى، حاملين يافطات تقول: “طلبنا من الله المدد (العون)، فأرسل لنا حافظ الاسد”.
خلال ثلاثين عاما، اعتمد حافظ الأسد سياسة اللبرلة الاقتصادية البطيئة المختلطة مع الفساد، مسببا عدة نكسات اقتصادية جرى حجبها بفعل- عائدات النفط- والمعونات التي كانت تقدمها ممالك وإمارات الخليج.
وكان هدف الأسد ضمان استقرار نظامه وتراكم رأس المال، لصالح مجموعة من رجال الأعمال الأقوياء – وكبار التجار، ومجموعة صغيرة من الصناعيين الكبار، تتركز أساسا في مدينتي دمشق وحلب، وكبار ملاك الأراضي- الذين استمر نفوذهم في النمو، وكذلك بارتباط البرجوازية الجديدة الريعية بأجهزة الدولة.
وتسارع الانتقال إلى رأسمالية متوحشة ومحسوبية خلال 1980 مع التخلي التدريجي عن المركزية الاقتصادية. وكانت الإصلاحات الاقتصادية في سوريا منذ عام 1986 هي نفسها التي اوصت بها المؤسسات المالية الدولية: تحرير التجارة، وانخفاض قيمة العملة، والإصلاح المالي، والتقشف، وتشجيع الأعمال الخاصة.
وانخفض الإنفاق الحكومي كحصة من الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير من 48 في المائة في عام 1980 إلى 25 في المائة في عام 1997، أي أقل بكثير من الولايات المتحدة الأميركية.
في هذه الفترة، تضاعفت الشبكات غير الرسمية والقائمة على المحسوبية بين أجهزة الدولة وعالم الأعمال، ما خلق طبقة برجوازيية ريعية جديدة بسوريا كان لها عواقب وخيمة للغاية على المجتمع السوري إلى حد اليوم. هيمن على اقتصاد البلد سوء استخدام الموارد وتكاثرت المقاولات التجارية والأعمال غير المنتجة، التي لا تستند على اليد العاملة، ولكنها مربحة.
منذ وصول حافظ الاسد في السلطة، سيطر حزب البعث على معظم تفاصيل الحياة السياسية في سوريا. واصبح الحزب الوحيد الذي يحق له تنظيم النشاطات السياسية، والمحاضرات والمظاهرات، وكان الوحيد الذي يملك الحق بتوزيع جريدته في الجامعات والثكنات، وحتى الاحزاب الموالية للنظام في الجبهة الوطنية الديمقراطية لم يكن لها الحق بالدعاية السياسية، وحتى بمكتب في حرم الجامعة. وقام حزب البعث بإنشاء منظمات شعبية مكنته من إحكام سيطرته على أقسام المجتمع. وبالإضافة الى مركزة القوة السياسية، قام حافظ الاسد بعد مجيئه الى السلطة بالسيطرة ايضاً على حزب البعث، فتم تغيير النظام الداخلي للحزب، بحيث اصبحت قيادة النظام والسلطة الامنية هي من يقرر ويعيّن القيادات الحزبية، وبالمقابل تم قمّع اي معارضة حزبية داخلية.
السيطرة على الحركة العمالية
منذ مجيء حافظ الاسد الى السلطة، بدأت سياسات السيطرة على الحركة النقابية، فقام بحلّ نقابات الاطباء، والمحامين، والمهندسين، والصيادلة، في العام 1980، حيث كان لهذه النقابات دور قيادي، في النضال من اجل الديمقراطية والحريات السياسية، ومن اجل الغاء قانون الطوارئ. واعيد فتح هذه النقابات بعد ذلك، واستبدال قياداتها بقيادات معيّنة من قبل النظام، وتابعة له، واعتمدت هذه السياسة في مجمل الحركة النقابية. وهذا ما سهّل للنظام لاحقاً إنشاء علاقات متينة مع البرجوازية السورية، وايضاً تسهيل تمرير السياسات النيوليبرالية.
طبيعة النظام
الدعامات الرئيسية للنظام إلى حد اليوم هي التالية:
المؤسسة العسكرية والأمنية
راكمت القيادة العسكرية من استفادتها منذ وصولها إلى السلطة مع حافظ الأسد عام 1970 حيث شجعت على الفساد على نطاق واسع خاصة للمسؤولين عن القوات المسلحة والحكومة كل ذلك كان مقابل الحصول على الولاء. حالة الفساد المعممة هذه أصبحت مصدرا ماليا أساسيا للدائرة المحيطة بالديكتاتور وعائلته ومساعديه الأكثر ولاء له.
وترسخت شبكات البيروقراطية والمحسوبية والزبائنية ضمن الخدمات العامة.
هذه “الطبقة الجديدة” المرتبطة عضويا بالنظام، كانت بحاجة لاستثمار ثرواتها في قطاعات مختلفة من الاقتصاد. فصدر المرسوم رقم 10 عام 1991 الذي كان وسيلة لـ”غسل” أموالها المتراكمة. فقد عزز هذا المرسوم وشجع على الاستثمار الخاص المحلي والأجنبي في القطاعات التي كانت لا تزال حكرا على القطاع العام، كصناعة الأدوية والزراعة والصناعات الزراعية والفنادق والنقل. وسهل فرص الاستثمار في القطاع الخاص وفتح المجال أمام عمليات الاستيراد والتصدير من خلال خفض الضرائب وتقديم حوافز ضريبية أخرى، وإن كانت لا تزال تحت سيطرة النظام، وبالتالي ساعد على إثراء أعضائه المحظيين وعمق نظام الفساد على نطاق واسع “رأسمالية المحاسيب”.
وقد استفادت برجوازية حلب ودمشق، من السياسة النيوليبرالية في السنوات الأخيرة، بوجه خاص منذ انطلاق ما يسمى بـ”اقتصاد السوق الاجتماعي” عام 2005.
الركيزة الأساسية الأخرى الداعمة النظام هم رؤساء مختلف الطوائف، الذين دعموا النظام طوال الأعوام الماضية وخاصة منذ بدء الثورة. أقام النظام السوري والأجهزة الأمنية علاقات سياسة واقتصادية مع المؤسسات الدينية، من ضمنها مع الطائفة السنية في أعقاب قمع الثمانينات.
وكان سلوك طوال الأعوام الماضية متناقضا مع الصورة العلمانية للبلد. وكثيرا ما استعملت وتستعمل المفردات الدينية في الخطاب، كل ذلك إلى جانب تزايد بناء المواقع الدينية من الثمانينات وحتى اليوم. وترافق ذلك مع إجراءات رقابية على الكتب الأدبية والأعمال الفنية، في وقت انتشر الترويج لمؤلفات دينية تعبوية على رفوف المكتبات وتزايدت أسلمة التعليم العالي. خاصة في مجال العلوم الإنسانية، عبر الإحالة إلى مراجع دينية لكل الظواهر العلمية، الاجتماعية والثقافية.
في الوقت نفسه، عزز النظام التقسيم الطائفي. وبني الجيش بحسب معايير طائفية للحفاظ على ولائهم. وفي حين أن أغلبية المجندين هم من السنة بحسب تعدادهم السكاني، يشكل العلويون النسب الكبرى من الرتباء والضباط.
مع ذلك، فإن النظام فوق كل ذلك قائم على الزبائنية، الذي يجد دعما، إلى جانب دعم الأجهزة الأمنية، من البرجوازية السنية والمسيحية في حلب ودمشق، التي استفادت من السياسات النيوليبرالية في السنوات الأخيرة. والنظام بنى شبكة من الولاءات من خلال علاقات مختلفة، وخاصة اقتصادية، مع أفراد من مختلف الطوائف، وسيطرت هذه الشبكات على قطاعات واسعة من الاقتصاد
الأسد الأب حافظَ الى حد ما على الدور الاجتماعي للدولة من خلال الحفاظ على نظام للصحة والتعليم المجاني، ودعم السلع الاساسية لمعيشة الغالبية العظمى من الطبقات الكادحة، كما انه امتص جزءاً من البطالة من خلال ضخها في بيروقراطية دولة واسعة لا وظيفة انتاجية عقلانية لها، ولا سيما في الجيش والاجهزة الامنية وموظفي الإدارة.
عهد بشار الأسد
تسارعت السياسات النيوليبرالية بشكل هائل عندما تولى بشار الأسد السلطة عام 2000 بعد وفاة والده حافظ الأسد. هذه السياسات، المتسارعة مع القمع الفظ لاي احتجاج للطبقة الشعبية أو العاملة منذ أوائل الـ2000ات، أدت الى آثار مدمرة. مثل:
تخفيض نظام الإعانات إلى حد كبير، وقف التوظيف في القطاع العام، وتخفيض دورها في الاستثمار الداخلي.
في الوقت نفسه نما القطاع المالي منذ عام 2004، مع صعود المصارف الخاصة الأولى، سيطر عليه رأس المال السوري وممالك الخليج، وشركات التأمين، بورصة دمشق ومكاتب الصرافة.
في الوقت نفسه، أصبح نظام الأسد أكثر اعتمادا على عشيرة الأسد-مخلوف، تميز حكمه بمقدار واسع من المحسوبية والتحكم بالفرص والرشاوى على حساب رموز النظام القديم. رامي مخلوف، ابن خال بشار الاسد، هو تمثيل حي لعملية الخصخصة بالأسلوب المافيوي الذي يقوده النظام. خلقت عملية الخصخصة احتكارات جديدة بأيدي أقرباء بشار الأسد، في حين ضعفت نوعية السلع والخدمات.
سياسات نظام الاسد مقادة تماما من قبل ديناميات نيوليبرالية، مع جعل تراكم رأس المال والنمو أولوية إلى حد إهمال المساواة والتوزيع. فأصبح القطاع الخاص الحقل الرئيسي للاستثمارات وفرص العمل، ولكنه بالرغم من ذلك لم يستطع تعويض الفراغ الذي خلّفه انحدار القطاع العام. وكان سوق العمل غير قادر على استيعاب الناس الباحثين عن عمل في كل سنة عددهم 380000 شخص الذين ينضمون إلى صفوف العاطلين عن العمل، في حين وعدت الحكومة بخلق 250000 وظيفة سنويا في الخطة العشرية، التي تبين أنّها غير قادرة على تنفيذها. بالإضافة إلى ذلك، اعتمدت الحكومة قانونا جديدا للعمل في سوريا في نيسان عام 2010، الذي جاء لصالح أصحاب العمل بشكل واضح.
في الوقت نفسه، تضاءلت استثمارات الدولة في الخدمات الاجتماعية إلى حد كبير، في حين زال الدعم الحكومي أو تقلّص تدريجيا للمنتجات الزراعية والوقود وغيرها… أحيلت مسؤولية الخدمات الاجتماعية إلى الجمعيات الخيرية الخاصة، تليها الطبقات البرجوازية والمحافظة في المجتمع. أما في مجال الصحة، فقد انسحب النظام تباعا، متيحا المزيد من المجال للجمعيات الخيرية، الدينية منها خصوصا. عام 2004، تم تسجيل 290 منظمة إسلامية من أصل 584 منظمة خيرية، معظمها كان ناشطا في دمشق وضواحيها. كانت هذه الجمعيات متمركزة في المساجد المحلية والأحياء الفقيرة، ومن بين أكثر من 100 منظمة خيرية في العاصمة، هناك ما يقارب الـ80% منها جمعيات إسلامية سنية: وهي تشكل شبكة تخدم حوالي 73،000 عائلة بميزانية تبلغ نحو 824 مليون ليرة سورية، أو 18 مليون دولار.
السياسات النيوليبرالية عززت الجمعيات الدينية وشبكات الخاصة بها في سوريا، سواء أكانت اسلامية أو مسيحية، منمّية دورها في المجتمع على حساب الدولة. وفي الحقيقة قام بشار الأسد باستئناف استراتيجية تعزيز القطاعات الاسلامية التقليدية كما فعل والده.
أما في الزراعة، فلا يجب النظر إلى خصخصة الاراضي بسبب الجفاف على حساب مئات الآلاف من فلّاحي الشمال الشرقي، بدءا من عام 2008، على أن ذلك هو نتيجة لكارثة طبيعية بسيطة. إن النمو وتكثيف استغلال الأراضي من الشركات الزراعية الكبرى- ومن ضمنها الأراضي المخصصة سابقا للرعي، وحتى للحفر غير القانوني للآبار-، وكذلك انشاء تمديدات المياه لتتلاءم مع متطلبات الملّاك الرئيسيين الجدد- اسس كل ذلك لفساد الإدارة المحلية التي رافقت الأزمة الزراعية. حتى قبل الجفاف، بين عامي 2002 و2008 في سوريا قد فقدت 40٪ من القوى العاملة الزراعية، حيث انخفضت من 1.4 مليون إلى 800،000 عامل… كل ذلك بسبب قوانين الخصخصة، ولصالح الشركات الكبرى وكبار الملاكين، وتخفيض الإعانات والمساعدات من الدولة.
عام 2008، 28% من المزارعين كانوا يستغلون 75% من الأراضي المرويّة، في حين أن 49% منهم كانوا يملكون 10% فقط منها، مما يدل على استمرارية عدم المساواة داخل القطاع الزراعي. كان صغار المزارعين المالكين للأراضي في ضواحي المدن يقومون ببيع الملكيات الزراعية الصغيرة بأسعار مرتفعة على نحو متزايد، بينما كانت الأموال من الخارج (الخليج خصوصا) تصب في البلاد.
إن نمو الناتج المحلي الإجمالي والدخل الحقيقي للفرد قد بدأ بالتناقص منذ مطلع التسعينيات. دفع ذلك النظام لمواصلة سياساته النيوليبرالية، والبحث عن المزيد من رؤوس الأموال الخاصة. في هذا الوقت كانت ملكية الأرض تتركز بشكل متزايد في عدد قليل من المالكين. العنوان الرئيسي لصحيفة ساخرة كان قد صاغ ذلك بشكل جيد: “بعد 43 عاما من الاشتراكية، يعود الاقطاع”.
أما على الصعيد الاقتصادي، فقد كان القطاع الخاص قبل الانتفاضة الشعبية يسهم في ما يصل إلى 65% من الناتج المحلي الاجمالي (وأكثر من 70% بحسب تقديرات أخرى) وهو يعتبر الموظِّف الأكبر إذ أن 75% من القوى العاملة في سوريا يعملون في القطاع الخاص.
قام الأسد أيضا بإضعاف أجهزة حزب البعث ونقابات العمال والفلاحين لأنها كانت تعتبر عقبة أمام الاصلاح الاقتصادي النيوليبرالي. لذلك حرمهم النظام من التمويل وهاجم السلطات الحامية لهم. وكما أوضح البروفيسور، ريموند هينبوش “فإن ذلك أدى إلى إضعاف العلاقة بين النظام وجمهوره، وإلى إضعاف وجوده في الأحياء والقرى. عوّضت القوى الأمنية هذا الفراغ، ولكنها كانت بدورها تتقاضى أجورا منخفضة جدا، وكانت فاسدة. علاوة على ذلك، فإن قيام الأسد بكبح قدرتها على الاستغناء عن المحسوبية والاعفاءات القانونية، مثل التساهل مع التهريب، قلص من قدرتها على استمالة وجهاء المجتمع كشيوخ القبائل. والدليل على ذلك كان اندلاع الصراعات الطائفية/القبلية (بين البدو والدروز في السويداء، وبين العلويين والاسماعيليين في مصياف) لمدة نصف عقد، مما برهن تآكل النظام. حيث أن المواطنين اذا ذهبوا مرة واحدة إلى حزب محلي أو إلى مسؤولي النقابات من أجل الحصول على الإرشاد أو المطالبة بالإصلاح، فإنهم اقتربوا على نحو متزايد من وجهاء القبائل والطوائف والأديان.”
النمو الاقتصادي في سوريا، الذي كان بمعدل 5 بالمئة في السنوات التي سبقت الثورة، لم تستفد منه الطبقات الشعبية، إنما ازدادت معه الفروقات الطبقية. في عامي 2003-2004، كان 20 بالمئة من السكان الأكثر فقرا يساهمون بـ7 بالمئة من مجمل الإنفاق، في حين ساهم 20 بالمئة من السكان الأكثر غنى في 45 بالمئة من إجمالي الإنفاق. هذا الاتجاه استمر في النمو حتى اندلاع الثورة.
عشية انتفاضة آذار عام 2011، بلغ معدل البطالة نسبة 14.9%- حسب للأرقام الرسمية، و20-25% حسب لمصادر أخرى. وكان معدل البطالة في صفوف الشباب 48 في المئة،(هذا المعدل كان 33.7% و39.3% على التوالي عند أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 20-24 و15-19 عاما).
عام 2007، بلغت نسبة السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر 33%، أي ما يقارب سبعة ملايين شخص، في حين أن 30% منهم فقط يعيشون مباشرة فوق هذا الخط. نسبة الفقراء هي أعلى في المناطق الريفية (62%) من المناطق الحضرية (38%). الفقر أكثر انتشارا (58.1%) في الشمال الغربي والشمال الشرقي (محافظات إدلب وحلب والرقة ودير الزور والحسكة)، حيث يعيش 45% من السكان.
استكمل هذا النهج مع مجيء بشار الاسد الى السلطة، فقام النظام حينها بقمع كل حركة طالبت بالحريات السياسية والديمقراطية، ما بين العام 2000 والعام 2006. وترافق هذا الامر مع بداية نشوء منتديات نقاشية كانت شكلت منطلقاً لها المنابر التي نشأت مباشرة بعد وصول بشار إلى الحكم. وقد ترافق ذلك مع عدة اعتصامات شكّلت حالة جديدة في الواقع السياسي السوري، وقامت بالدعوة لهذه الاعتصامات الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، في نفس الوقت. وعلى اثر ذلك قام نظام بشار الاسد بقمع هذه التحركات واقفال المنتديات واعتقال الكثير من المثقفين/ات والناشطين/ات المبادرين/ات إليها.
في الـ 2004، قام النظام بقمع انتفاضة الكورد، التي بدأت بمدينة القامشلي، وانتشرت حينها الى مختلف المناطق الكوردية في سوريا، في الجزيرة، وعفرين، وحلب ودمشق. واستخدم النظام ايضاً القبائل العربية لضرب احتجاجات الكورد، في المناطق الشمالية الشرقية، ما زاد من التفرقة ما بين الكورد والعرب. وأكثر 2000 كردي إما قتلوا او اعتقلوا، بينما تم نفي آخرين غيرهم الى خارج سوريا.
غياب الديمقراطية وإفقار قطاعات واسعة من المجتمع السوري، وفي ظل مناخ من الفساد وزيادة الفروقات الطبقية، كل ذلك مهد الطريق أمام الثورة الشعبية، التي كانت تنتظر مجرد شرارة.
الحركة الشعبية
امتدت الثورة في مناطق مختلفة من سوريا وخاصة في إدلب ودرعا وحمص وكذلك في المناطق الريفية الأخرى، بما في ذلك ضواحي دمشق وحلب، وتبين مشاركة هائلة للمسحوقين في هذه الثورة.
يشكل الجزء الأكبر من المتظاهرين في الحراك الثوري السوري من العمال المحرومين اقتصاديا في المناطق الريفية والمدينية، والطبقات الوسطى الذين عانوا من فرض السياسات النيوليبرالية التي بدأ بشار الاسد منذ وصوله إلى السلطة باعتمادها.
ومنذ بداية الثورة السورية، لعب الطلاب دورا مهما وأساسيا بالحركة الشعبية. وكانت الجامعات مركزا للمقاومة ضد استبداد النظام. ولطالما شاهدنا عن الطلاب في جميع أنحاء سوريا، يخرجون من للتظاهر ضد النظام ويواجهون قوات الأمن، بينما استخدمت ميليشيات النظام “الشبيحة” العنف والقوة لتفريق المجموعات الطلابية.
على الرغم من غياب حركة عمالية مستقلة ومنظمة في سوريا مثل مصر وتونس، شاهدنا في سوريا أعلى مستوى التنظيم الذاتي. منذ بداية الثورة، تمثلت أشكال التنظيم الرئيسية في المجالس المحلية والتنسيقات على صعيد القرى والأحياء والمدن والمناطق. كانت تلك المجالس المحلية تشكل سنان رمح.
وأظهرت المظاهرات الشعبية العديدة في الأسابع الأخيرة استعداد السوريين الأحرار لانتهاز كل الفرص، حتى لهدنة جزئية من الضربات الجوية، لتأكيد مطالبهم والمطالبة بأهداف الثورة. وتذكر شعاراتهم الديمقراطية وغير الطائفية العالم برمته، مرة أخرى، أن ثمة بديل لنظام الأسد وللقوات السلفية الجهادية، طرفي الثورة المضادة والخاسرين في هذه التعبئة. البديل هو مئات آلاف السوريين والسوريات الأحرار الذين تظاهروا. وكما يقول شعار الثوريين: “بعد خمس سنوات من بدء الثورة، الشعب لا يزال يريد إسقاط النظام”.
بعد 2011، استمرار سياسات النيوليبرالية والفاسدة
بعد بداية الانتفاضة السورية، استمر النظام بسياسات النيوليبرالية والفاسدة لصالح رجال الأعمال المرتبطين بالنظام.
فكمثال على ذلك، في 13 كانون الأول، قامت الحكومة السورية بإنشاء مؤسسة جديدة: المجلس السوري للمعادن والصلب، أنيط بها مسؤولية تشجيع وتنظيم صناعة الحديد، ويبدو أنها ستكون أداة بيد كبار رجال الأعمال المرتبطين بالنظام لاستفادة من دمار سورية، وإعادة إعمارها.
بإنشاء هذا المجلس برزت مشكلتين: المشكلة الأولى، ترتبط بأهداف ومهمة المجلس. أما المشكلة الثانية، تكمن في تركيبة المجلس نفسه. فمن ضمن أعضائه الـ 17، هناك أربعة فقط يمثلون الحكومة، مقابل 13 عضواً يمثلون القطاع الخاص. ومن بين الأعضاء الـ 13، يوجد الكثير منهم، ممن يعتبرون من المقربين جداً من النظام السوري، مثل محمد حمشو، أيمن جابر، خالد مجذوب، ووهيب مرعي.
في شباط 2015، أعلن رئيس مجلس الوزراء السوري، وائل الحلقي، أن حكومته سوف تتبع استراتيجية اقتصادية جديدة سماها “التشاركية الوطنية”، التي ستحل محل نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي. وفي اجتماع عقد في مجلس الشعب السوري، قال الحلقي إن الوقت قد حان لاعتماد “الجيل الثالث من الاقتصاد السوري”، بعد “جيل القطاع العام” و”جيل اقتصاد السوق الاجتماعية”.
قانون التشاركية، الذي تمت الموافقة عليه، بعد أكثر من ست سنوات من صياغته الأولية، يخول القطاع الخاص إدارة الأصول المملوكة من الدولة وتطويرها في جميع القطاعات الاقتصادية، باستثناء عقود استكشاف واستثمار الثروات الطبيعية (النفط).
فمن المرجح أن الاستراتيجية الوطنية الجديدة هذه سوف تكون موجهة في الغالب إلى توفير أفضل الشروط لنقل الأملاك العامة الأكثر قيمة لعدد قليل من رجال النظام، وتجديد منظومة الفساد في سوريا.
دور اليسار الثوري
ما دور اليسار الثوري إذا في هذه الظروف؟ هل علينا ترك المعركة وانتظار ثورة اجتماعية خالصة، كما يفعل، وفعل، بعض من اليسار التقليدي؟ أو علينا أن نكون جزءا لا يتجزأ من هذه السيرورة الثورية وتوجيه قوانا كليا نحو هذا النضال لإطاحة النظام ولأجل تجذر مختلف عناصر هذه الثورة؟
أجاب لينين عن هذا السؤال من قبل:
”إن الاعتقاد بإمكان تحقيق الثورة (…) بدون تفجير ثوري لقسم من البرجوازية الصغيرة مع كل أحكامها المسبقة، وبدون بروز حركة جماهيرية بروليتارية وشبه بروليتارية غير واعية سياسيا تناضل ضد تسلط وقمع الأسياد الإقطاعيين ورجال الدين والملكية والنزعة القومية، الخ، هو اعتقاد يعني رفض قيام الثورة الاجتماعية. ويعني ذلك تصور أن جيشا سيقف في مكان معين وسيقول “نحن مع الاشتراكية”، وجيش آخر في مكان آخر، سيقول “نحن مع الامبريالية”، وهكذا ستتحقق الثورة الاجتماعية! (…) كل من يتوقع ثورة اجتماعية “طاهرة” لن يتمكن بأي وجه من العيش مدة طويلة ليراها. إنه ثوري قولا ولا يفهم بتاتا معنى ثورة حقيقية”. (لينين، الأعمال الكاملة، الطبعة الرابعة باللغة الفرنسية، المجلد 22)
لا تكتسي سيرورة ثورية لونا واحدا ولن تكون كذلك بأي وجه، وإلا فلن يمثل ذلك ثورة. ومن ناحية أخرى، فإن دور اليسار الثوري واضح: النضال ضد النظام وحركات الأصولية الإسلامية والعمل على تجذر الحركة الشعبية.
اننا نعارض سياسات وممارسات من جانب واحد ايران وروسيا وحزب الله وعلى الجانب الآخر دول الخليج وتركيا في نشر الدعاية الطائفية والعنصرية وأيضا مع أقسام المعارضة السورية، الداعمة لهذا النوع من الخطاب ومثل الإئتلاف.
يدعم الإئتلاف نفس السياسات النيوليبرالية كالنظام في تناقض مع مصالح الطبقات الشعبية. ويمثل مصالح البرجوازية السورية مرتبطة مع ممالك الخليج وتركيا. لهذا السبب صمت أو شجع في أوقات عديدة خطابات العنصرية والطائفية هذه الدول.
لطالما دافع الائتلاف الوطني عن جبهة النصرة وأحرار الشام وجيش الاسلام، على الرغم من طبيعة وسلوك هذه المنظمات التي تهدد السيرورة الثورية. حيث هاجمت هذه المنظمات وخطفت واعتقلت، وقتلت ثوارا ديموقراطيين.
دورنا، كيساريين أن نعارض مختلف قوى الثورة المضادة، من ممثلي النظام القديم وصولا للقوى الإسلامية الرجعية والأصولية، هاجمت هاتين القوتين الحركات الشعبية والمناضلين والمجموعات التي تحمل أهداف الثورة.
يتعلق الأمر بقوتين معاديتين للثورة وهذا رغم اختلاف الخطاب السياسي. يقدم ممثلو الأنظمة القديمة أنفسهم بما هم مدافعون عن الحداثة، ومنقذو وحدة الوطن وأبطال محاربة “الإرهاب”. وتقدم القوى الإسلامية الرجعية والأصولية نفسها من جهة بما هي المسؤولة عن الدين الإسلامي والأخلاق وأصالة الهوية الإسلامية والعربية، بإقامة علاقة مع “الأمة” الإسلامية.
لافتة ثورية في حلب قبل أسبوع مثلت هذا الصراع ضد قوتين الثورة ألمضادة: “أنا سوري طلبت بالحرية، قتلت مرتين، مرة بإسم الوطن ومرة بإسم الدين”.
هاتين القوتين هذه حي ضمانات للنظام الرأسمالي والسلطوي والأبوي، الطائفي والعنصري.
دورنا في بناء جبهة مستقلة عن هذين الشكلين من أشكال الرجعية والانخراط في النضال على أسس ديمقراطية واجتماعية ومعادية للامبريالية والتصدي لكل أشكال التمييز والعمل من أجل تغيير المجتمع جذريا في إطار دينامية من أسفل تجعل من الفئات الشعبية الفاعل في التغيير.
بخصوص المسألة الكوردية في سوريا، ندعم التقرير المصير للشعب الكوردي في سوريا وفي الدول الأخرى. وهذا لا يعني، أن لا نلقي نظرة ناقدة على تصرفات الحركات الكوردية، من حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) أو أي حزب كوردي أخر. يبدو من الضروري أن نكرر أن أي احتمال لتقرير المصير للشعب الكوردي وتحسين الظروف المعيشية للشعب الكوردي، أو الأقليات العرقية أو الدينية الأخرى في سوريا وبالمنطقة، يرتبط بتعميق وبانتصار للسيرورة الثورية السورية وتحقيق أهدافها ضد نظام الأسد والقوى الإسلامية الرجعية. هزيمة الثورة السورية والحركة الشعبية ستمثل نهاية تجربة روجافا والعودة إلى العصر القمعي للكورد في سوريا، مثل بقية الشعب السوري.
في الختام، وحدة واستقلال الطبقة العاملة دون تمييز عرقي وطائفي وغيرها في سوريا وأماكن أخرى هي السبيل الوحيد لتحرير وتحرر جميع الشعوب، بما في ذلك الكورد.
كما كتب الثوار في كفرنبل:
تعدد الأعداء
الثورة واحدة ومستمرة
—
* كلمة الرفيق جوزف ضاهر خلال ندوة نظمها المنتدى الاشتراكي يوم 9 نيسان، يمكن الاستماع إلى كامل الندوة عبر الضغط على الرابط هنا