جامعي: فداحة الفوارق الاجتماعية تضعف السلطة وتمهد للانتفاضة
ظل الإسلام الشعبي، منذ زمن بعيد، يشكل درعا واقيا لتمثلات السلطة بالمغرب، حيث متحت الجماهير المقهورة من الخَزّانات الدينية الشعبية استعاراتها لقبول حياة الكفاف والعفاف، والرضا بالقليل، تلك استعارات تحيا بها الجماهير لمكابدة ضنك العيش، واستيعاب معاناة صراعها من أجل البقاء. لقد ابتعد مغاربة ما بعد الاستقلال، جيل الآباء عموما، عن الانشغالات السياسية، خصوصا سكان المناطق النائية، حيث لم يكن يعلم المغربي البسيط من يختاره الملك عاملا أو وزيرا، وحتى من فُرض عليه امتحان الانتخابات، لم يكن مستعدا لفهم قواعدها، إذ من الأعضاء الاجتماعيين من باع صوته، وهناك من انتخب بوازع ديني أو قبلي، فظلت السلطة الحاكمة تتمتع بهيبة وقداسة مُؤسطرة فوق الشعب.
ويعد الحسن الثاني في هذا الباب نموذج الهيبة السلطانية التي جسدت مواكبها الرسمية مسرحة للسلطة التقليدانية إلى درجة اقشعرت لها الأبدان، وأصيبت الجماهير بنتوء الجلد عند مرور المواكب الملكية، فانتصبت شعيرات الرأس إعجابا وخوفا من “محلة” الملك.
عاش آباؤنا عزوفا عن السياسة خوفا من سطوة المخزن، كما أسهمت نسبة الأمية المرتفعة وعدم إدراك “الدهماء” لماهية الحكم وتأثيره على الحياة اليومية في ابتعادها عن النقاش السياسي، حيث اعتمد العضو الاجتماعي، في حياته اليومية، على ثقافته الدينية الشعبية المليئة بالبقايا الوثنية، والمعتقدات المارابوتية ما وراء الطبيعية، والممارسات السحرية لتفسير مشاكله الاجتماعية ومحاولته السيطرة الخرافية على المصير.
هكذا، وفرت الثقافة الشعبية تربة خصبة وموارد دلالية غزيرة متح منها لتفسير ظروفه الاقتصادية والاجتماعية؛ وهو ما مكن قوى الاستغلال الرأسمالية العثور على موطئ قدم سهل لإحكام قوتها على جماهير يد عاملة مُمَغنطة مارابوتيا، فتم استغلالها بأثمنة بخسة دون مقاومة على الرغم من وجود بوادر نقابات ومؤسسات حقوقية.
أسهمت القناعات الدينية في تليين الفوارق الاجتماعية وترويضها في ذهنية المجتمع، حيث اقتنع الكثير من آبائنا بأن الفوارق الاجتماعية ثابتة من صنع الخالق، كما اعتُبرت العدالة الاجتماعية هبة وهدية من القوى الغيبية، وليس حقاً ينتزع بالمطالبة المؤطرة والنضال. وهكذا، التجأ الكثير من الناس إلى المزارات والزوايا باعتبارها مراكز لتوزيع البركة وإنصاف المظلومين وحماية المضطهدين، وللبحث عن الخلاص من عتمة المصير. لقد خلقت الثقافة الدينية تمثلات حول معاني الأرزاق والعدالة الإلهية، وكذلك حول تدخل القوى ما فوق الطبيعية في تقسيمها. اقتنع الناس، وما زالت التمثلات راسخة لدى الكثير، بأن الله يخلق الغني والفقير، وبأن الأرزاق هبة ربانية، لا علاقة لها بالعدالة الاجتماعية..
هكذا، تداخل المجال الديني بالاقتصادي من خلال نقل التمثلات الثقافية من السياقات الدينية إلى مجال السلطة والرأسمال، فظلت الجماهير الكادحة التي تقبع في أسفل الهرم الاجتماعي تكابد عتمة المصير في صمت وخنوع، معتقدة أن كل من احتج فهو لاغ، ومن لغا فلا جمعة له. لقد استبطن أسفل الهرم الاجتماعي التوزيع المهيمن للثروات، وتكلست الفوارق الاجتماعية، حتى أصبحت تبدو طبيعية في المخيال الشعبي. وهكذا، يواجهك رجل أعمال بلغة تستقي مشروعيتها من المقدس لتبرير الفقر، قائلا: “راه الله بغاهم هكاك، ما عندهومش، آو نضاربوا مع الله!”.
من أين تستمد خطاطات السلطة شرعيتها؟ إنها تستقي مشروعيتها من موروثها الإيديولوجي البتريمونيالي وعقيدتها المخزنية التي تتأسس على طقسنة المقدس وأسطرته في المخيال الشعبي، حيث عاش آباؤنا وأجدادنا بفكر إيديولوجي مخزني وتقاليد مرعية تقدس الأب والولي والسلطان، وتسبّح بحمدهم، ورسخت هذه المعتقدات التقليدانية خطاطات ثقافية جاهزة لقبول عنترية السلطة ووجودها فوق المجتمع عبر إعادة إنتاج علاقات اجتماعية تراتبية هرمية في ثنائية اصطلح عليها عبد الله حمودي “الشيخ والمريد”، وهي ثنائية ثابتة في المخيال الشعبي، كما تقبل بها الحاضنة الثقافية على الرغم من التحولات التي قد تتعرض لها قشور بنية النظام المخزني بالمغرب إثر الديناميكية التاريخية؛ فالمخزن يتطور، لكنه لا يتغير، بغض النظر عن بذور المقاومة والتصدي التي بدأت تكتسح أهل القاع.
ما يساعد في تثبيت جذور السلطة التقليدانية بالمغرب هو تشبث أسفل الهرم الاجتماعي بالسيطرة الخرافية على المصير، إذ عوض المطالبة بحقها في الثروات الاقتصادية ترضى الجماهير المقهورة بالفوارق الاجتماعية “الطبيعية”، وتلجأ إلى ميكانيزمات الخلاص السحري الذي تَجُود به الثقافة المارابوتية، حيث يضمد أهل القاع جراحهم بأوهام مفادها أن الصبر جميل، والله مع الصابرين، أولئك هم الضعفاء، ملوك الجنة، استعارات تلطيفية تشكل الغمامتين التي تحجب الجماهير المقهورة عن رؤية الوجه المستغل المظلم للسلطة والمحن الاجتماعية المترتبة عن اختياراتها. تحجب هذه الاستعارات المعاني الأساسية التي تحكم علاقات الهيمنة ، كما أنها تشجع المواقف القدرية غير المتفحصة اتجاه الممارسات القمعية للسلطة، وما قد تترتب عنها من معاناة.
في هذا السياق الثقافي الشعبي، يفسر عادة العضو الاجتماعي الذي يقبع في قاع المجتمع فشله بوجود عوائق تعترض طريق نجاحه، ويصطلح عليها مدلول “العْكْس”؛ وهو تعبير ثقافي يحيلنا إلى وجود آخر مجهول الهوية يحاربه في مسيرته نحو النجاح. هذا مصطلح تم ابتكاره كذلك للدلالة على كائن جني يسمى “التابعة” أو “القْرينة” (من الجن القرين) باعتبارها مشجب الغير الذي تُعلَّق عليه مصائب وفشل الأنا القابعة في أسفل الهرم الاجتماعي، إذ يُعتقَد أن لهذه الكائنات الغيبية القوة بأن تعبث بمصائر البشرية بشتى الطرق في اتجاهات متعددة. ولصد سوء الحظ، وعتمة المصير الناتج عن الانزلاقات الخطيرة والمتقلبة لعجلة القدر، يحتمي العضو الاجتماعي بمنطق التدين الشعبي. هذا الامتلاك الجني هو شكل من أشكال المقاومة والاحتجاج؛ لأنه يعبر عن إحباطات فئات اجتماعية تعاني أشكالا مختلفة من الهيمنة. كما تعتبر هذه الممارسات الغيبية شكلا مقبولا اجتماعيا، ما دامت لا تهدد النظام الاجتماعي؛ بل على العكس، قد تسهم في تثبيته بتشكيلها لقناة تفريغ وتحرير الذات من القيود لفترة وجيزة، تتم بعدها العودة بحيوية ونشاط إلى رتابة الحياة اليومية بشتى أشكالها من خنوع وطاعة وتسليم بالقدر، مما يسهل مهمة السلطة في إحكام قبضتها على الجماهير المُمغنَطة بالسيطرة الخرافية على المصير.
لماذا يتشبث الإنسان البسيط بالتفسير الغيبي لإحباطاته الاجتماعية؟ ذلك لأنه لا يتوفر على مؤهلات تحليلية بديلة تمكنه من استيعاب البنيات الفوقية والقوى الاجتماعية التي تتحكم في مسار حياته من خلال نُظُمها وقواعدها التجريدية. لهذا، فهو يختزل هذه القوى في كائن جني لطي -عنيف – ذي تمثل ملموس مقبول- يتمكن من صرعه ومحاورته وإبرام عقد هدنة معه إلى حين.
يعقد العضو الاجتماعي البسيط الأمل في ملاذ السلطة التي يعتبرها امتدادا للمقدس ومركزا لتوزيع البركة، حتى تقيه من التقلبات والدوران غير المستقر لعجلة القدر. ويكمن هذا في بحثه عن “سخاء” رموز السلطة، كالسلطان، أو الولي أو الشريف (سليل النبي)، فتبدو التبعية حتمية في هذا السياق، إذ إن العضو الاجتماعي الذي يتقمص دور المطيع المتوسل، يظهر ولاءه للسلطة، لكي يجني حتما منافع مادية من وراء ذلك.
إن قبول الأدوار الاجتماعية الذليلة المتمثلة في محاكم الآخر القوية، وأداء فروض الطاعة لأولئك الذين يمتلكون الثروة، قد يعود على الذات الاجتماعية في المقابل ببعض البركة، وذلك بانخراط رجال السلطة في إعادة إنتاج خطاطة الشيخ والمريد.
ينبني التعاقد بين العضو الاجتماعي وبين السلطة على نموذج ثقافي محلي معقد، يرتبط بمفهوم الخير والبركة ومنطق تبادل الهدايا؛ فمن وجهة نظر المحكوم، ليست السلطة حكما اقتصاديا سياسيا أو قانونيا مؤسساتيا فقط، بل هو عقيدة اجتماعية ثقافية شريفة مقدسة، ذات منظومة عقائدية ملزمة، هذا النموذج الثقافي لتبادل الهدايا والولاءات، يتميز بتوقير السلطة التي توفر الحماية الاجتماعية واحترامها: “لا يجب أن تعضّ اليد التي تطعمك”، هكذا نشأ آباؤنا وأجدادنا في بيئة بتريمونيالية تقدس مركز توزيع البركات، وما زالت التمثلات قائمة، تقدس الروابط الأخلاقية والدينية والثقافية، وتوليها الملكية أهمية قصوى.
لكن السؤال الذي يطرح اليوم بإلحاح أمام تنامي حدة التوتر الاجتماعي، وتزايد وتيرة الاحتجاجات بمختلف مناطق المملكة، كيف ستصمد هذه التمثلات التقليدانية وتستمر في تشكيل خزان ثقافي يصنع الذهنية الشعبية للسلطة في إطار انفتاح الناشئة على عصر عولمة السلطة الاقتصادية الإمبريالية ولا مركزة السلطة السياسية والدينية للمجتمع، وظهور حركات يمينية متطرفة، وانهيار النظريات/ السرديات الكبرى؟
يلاحظ جليا اليوم كيف بدأت السلطة التقليدانية في فقدان وزنها السابق، إذ تتآكل أقنعتها يوميا، وتتفكك أساطيرها أمام تحرير الذات الاجتماعية عبر الشابكة، وتوالد البدائل والخطابات المتمردة في التحليل والقراءة للواقع السياسي المحلي.
لقد تهافت الكثير من شباب اليوم على الاطلاع على نماذج سياسية من مختلف بلدان العالم، حيث على الرغم من ارتباطهم بالإدارات المحلية، هذا لا يكفي طبعا لتحديد انتماءاتهم السياسية أو هوياتهم الاجتماعية، فالعديد منهم قد يسكن بيوتا في المغرب؛ لكن أذهانهم هاجرت بهم إلى أوطان متخيلة أخرى.
إن ما يدفعنا إلى هذا الاستنباط هو ملاحظتنا اليومية كيف يستقي الشباب تمثلاتهم للأوطان والتمثيل السياسي من الأفلام والنقاشات والمرئيات في الفضاء الأزرق؛ وهو ما قد يحول بذور المقاومة المحتملة التي لا تزال كامنة في الأرضية الثقافية المارابوتية إلى مقاومة حقيقية لظلم السلطة واستغلالها، حين تتلاشى أقنعة الزيف، وتزول الغمامتان على استفحال الفساد في الإدارة المغربية.
إذا استمر الرصيد الإيديولوجي للسلطة في التآكل، وانكشفت حيله في استغلال ثروات المجتمع، ستُنزع عنه شرعيته الثقافية والتاريخية عاجلا أم آجلا، إن لم تسابق السلطة الزمن وتتدارك الوتيرة التي يسير بها فأس الهدم، حتى تتمكن من تجديد أساليبها في الحكم وتفكيك عقيدتها المخزنية، بإحداث تغيير سياسي حقيقي، يؤسس لثقافة ديمقراطية تربط المسؤولية بالمحاسبة، وتهتم بتكوين الموارد البشرية وتأهيلها للعمل السياسي.
إن إفلاس النخب وافتضاح الوجه المظلم للسلطة سيعرض المجتمع لخطر هزات ونزاعات اجتماعية غوغائية عنيفة، تفتقد تأطيرا حقوقيا أو سياسيا؛ وهو ما يشكل تهديدا حقيقيا للاستقرار السياسي بالمغرب، وقد تتحول الموارد الثقافية التقليدية إلى مقاومة وتمرد، تلك ردود أفعال اجتماعية محتملة، بدأت إرهاصاتها منذ 2008 بسيدي إفني، مرورا بحركة 20 فبراير سنة 2011، ووصولا إلى الحسيمة الآن التي ما زالت منتفضة حتى كتابة هذه السطور.
إن الانتفاضات الشعبية الآنية والمقبلة في مجموعة من مناطق المغرب، بدءا من تلك التي تعاني الهشاشة والإقصاء لعقود، لن تأخذ شكل احتجاجات عادية مؤطرة ناتجة عن تظلم اقتصادي بمفهومه الغربي المألوف، تحتج ضد سياسات حكومية خاطئة بشكل منظم؛ بل ستأخذ أشكال انتفاضات عنيفة في وجه الخيانة العظمى، لأنها تنطلق من مشاعر عميقة بنكث العهود وغياب “الكلمة” والرجولة. ولعل كلمات الزفزافي خير دليل على ما نقول يوم وصف ساسة هذا البلد بالدمى “البيادقة” في قبضة المخزن “العُروبي”.
إن الانتفاضات الشعبية الآتية سيحكمها مبدأ خيانة العقد الاجتماعي المؤسس على الولاء والشرعية المقدسة، وهذا ما قد يشكل خطرا قاتلا لاستقرار البلد.
إن ما يتخلل حراك الحسيمة من غضب وحقد ضد السلطة بحمولته التاريخية المحتقنة يفصح لنا عن حقيقة جيل من الشباب منهمك في فك ارتباطه بالرصيد الإيديولوجي البتريمونيالي للسلطة، إذ لا يرى سوى عورة نظام مستغل لا يقوم بتوزيع الثروات بشكل عادل، مما قد يكسر مرآة القداسة، ويحطم التمثلات الدينية السالفة الذكر، لتنكشف صورة نظام سياسي يستغل الجماهير بعقيدة مخزنية تكدس الثروات في يد النخب بعيدا عن شعارات العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات.
إذا استمر الشعب في الاحتقان بسبب هذه الفوارق الاجتماعية الصارخة من جراء سياسات التهميش والإقصاء لن تمر الاحتجاجات المستقبلية على مجتمعنا بسلام؛ لأن المشكل لا يكمن في نظر هؤلاء الشباب في محاسبة حكومات على سياساتها الفاشلة، ولكنه يكمن في أزمة أعمق، تتجلى في نقض العهود وخيانة ثقة الشعب، مما قد يولد مشاعر بعدم الانتماء أو التشكيك حتى في ثوابت الوطن.
لنتأمل ردود الفعل الفردية الآنية، وما تؤشر به من فك الارتباط، إذ هناك اليوم من الأعضاء الاجتماعيين من ينتقم من المجتمع عن طريق النهب والإجرام والغش في العمل وتخريب الممتلكات العمومية، كيف يمكن استقراء هذه المؤشرات؟ إنها علامات إفشاء غياب قيم المواطنة بين الحاكم والمحكوم، ونشوء أزمة علائقية في ممارسة السلطة، حيث يتم اختزالها الآن في تمثلات ثقافية بالقمع والهيمنة والاستغلال الفاحش للثروة، مما قد يضعف هيبة السلطة، ويمهد الطريق نحو انتفاضات شعبية ملتهبة قادمة.