عن العدالة الاجتماعية المغيبة
ماذا يعني أن يُؤبد الإنسان في ذاته وعبر ثقافته العامة انعدام الجدوى والأمل من أي رخاء؟ ما الذي يدعو الإنسان في منطقتنا إلى الشعور بعدم الثقة في دوام حال الاستقرار والتنعّم بثروات الأرض؟
إعادة إنتاج الإحباط قبل بلوغ مراحل اليأس والفقر، مَن المسؤول عنه؟ التسابق في استدامة قهر الإنسان وهدر طاقاته وِزر مَن؟ الإصرار على الوسائل البائسة نفسها والحلول الضارّة نفسها والفاقدة للخيال، مَن يتحمل مسؤوليته؟ كل ذلك لا يستوجب علينا معاودة طرح سؤال العدالة الاجتماعية فحسب، بل والاستمرار في البحث فيها وسبر معوّقاتها، لأن بسط عدالة اجتماعية كافلة لحد لائق ومعقول من الحياة في منطقتنا، هو الضامن الأبرز لكرامة الإنسان واستقرار الأوطان.
ما التعريف؟
ليس من السهولة تقديم تعريف محدد وجامع لمفهوم العدالة الاجتماعية. فهي كغيرها من القيم الإنسانية الجذّابة والمغدورة وقعت في أسر الساسة المتعطشين للسلطة، وتناهشتها أبواق أصحاب رؤوس الأموال المسكونين بإدامة أرصدتهم وضمان هيمنتهم ونهبهم للثروات. والوطن العربي لم يكن استثناء من السياق العالمي لحركة رأس المال، ورحلته الظافرة للسيطرة والتحكم بمصائر الأفراد والدول.
ولأن المفهوم إشكالي وملتبس نظرياً وعملياً، فإن أغلب التيارات والأحزاب توظفه لمصلحة بقائها وتوسيع شبكات منافعها، متناسية أن محور العدالة الاجتماعية هو كرامة الإنسان، وأن نشدان هذه الكرامة يستوجب بالضرورة ضمان منابعها واستدامتها لمدد طويلة وراسخة.
الليبرالي على سبيل المثال لم يتجاوز النظر للعدالة الاجتماعية في أكثر من كونها وسيلة لتحسين معيشة الفقراء، داخل النظام الرأسمالي وداخل فكرة ديمومة هذا النظام والاطمئنان له. فهمٌ كهذا، ترجمته ممارسات التيارات القومية، وحتى الاشتراكية العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم.
وهي لم تبذل جهداً هيكلياً كما ينبغي لدحر الفكرة الأخطر للمستعمر الخارجي، الاستعباد الاقتصادي، القائمة على نهب الثروات وهيمنة الطبقات المالكة لرأس المال؛ على العكس تماماً، قامت بمهمة الوكيل المؤتمن والجندي المخلص للسادة المستعمرين وهم في مكاتبهم ومصانعهم في عواصمهم الأوروبية والأميركية.
وهنا بإمكاننا التدليل على ذلك بما حدث ولا يزال لزراعة القطن والقمح والزيتون في مصر والسودان والجزائر وسوريا، وبالثروة السمكية في المغرب، وبشكل أكثر وضوحاً للنفط والغاز في دول الخليج.
الإسلاميون لم يكونوا استثناءً من هذا المسار أيضاً، فهم لم يفعلوا أكثر من الإبقاء على التكوين القائم، والأخطر من ذلك أنهم سعوا إلى شراكته وضمان ثماره لتعزيز سيطرتهم السياسية والاجتماعية، رأينا ذلك في وعود حكومة “الحرية والعدالة” القصيرة بعد ثورة يناير 2011، في مصر، وبشكل أوضح في ممارسات وعلاقات وشراكات “النهضة” في تونس وقبلهما السلطة “الاسلامعسكريتارية” في السودان.
ويبدو من كل هذه الأمثلة أن العدالة الاجتماعية لا تزال من أبرز ضحايا الاستقطاب العربي المُعْضل والقائم على انشغال العرب وتطاحنهم الأيديولوجي والعسكري بين دولة مدنية لا تحترم التمدن ولا تشتغل على إقامته وحماية حقوقه وواجباته، وبين دولة دينية تعيش على أوهام خلافة خلت، وأمجاد دول مضت.. دون الاكتراث لواقع الإنسان البسيط، المطحون بسياسات اقتصادية تابعة لآلة رأسمالية عملاقة، عابرة للحدود، لا ترى في هذا الإنسان أكثر من أداة يُعاد تدويرها وامتصاص مواردها المحدودة. بينما لا يطمح هذا الإنسان، من كل ذلك في أكثر من عمل كريم يكفل له الخبز ويدرأ عنه الخوف.
ما يحدث اليوم من تخبط تقوده السلطات المركزية المحتكرة لصناعة القرار في بلداننا لن يخرجها من المأزق إلا لتوريطها في مآزق أخطر ومزالق أعمق. فالطريق إلى العدالة الاجتماعية والحياة الآمنة المستقرة لا يمر عبر بوابة منظمة التجارة الدولية ولا عن طريق اتباع وصفات الصندوق والبنك الدوليين. على العكس تماماً، فهذه المؤسسات ما هي إلا الوجه الجديد للاستعمار القديم الذي خرج من الباب ودخل من النوافذ. المُنقذ، في المقابل، ليس مستحيلاً، لكنه صعب. صعوبته أيضاً ليست مكلفة مقارنة بعواقب إهماله أو الإبطاء به وتسويف بلوغه. بكلمة بسيطة، المنقذ هو تمكين الشعوب من قرارها ومصائرها.
وبما أن حال السيطرة والاحتكار والتحكم بمصائر وأرزاق الناس قد أوصلنا إلى هذه المرحلة، مرحلة الأفق المسدود، وبالأثمان الباهظة، فلِمَ لا “نجرب” الحل الآخر الذي لطالما هربنا منه، إما خوفاً من السيف أو طمعاً في الذهب. نجرّبه بمعنى ننحاز إليه بداية، ونقتنع به. لماذا لا زلنا نُصّر على حماية الفساد، ونبخل على بناء شبكة أمان اجتماعي؟ لماذا نتمنن على الناس في الإنفاق على تجويد الخدمات العامة كالتعليم والصحة، وهما الحد الأدنى من الحقوق؟ لماذا لا نضبط النظام الضريبي ونتتبع تسريباته واستثناءاته؟ لماذا لا نؤطر كل ذلك في مفهوم حق المواطَنة الممارَس على شكل رقابة ومحاسبة برلمانية وشعبية؟
لا يمكن أن تقبل السلطات القائمة كل ذلك، وتراه جارحاً لكبريائها ومنافساً لسطوتها. فلننتظر إذاً الحلول الجاهزة لصندوق النقد والبنك الدوليين، والتي أخبرتنا التجربة بأنها لم تُفضِ إلا إلى نتائج كارثية في مصر وتونس واليمن في مرحلة ما قبل الربيع العربي. هذه الحلول التي لا تعرف إلا جيوب البسطاء والفقراء والمعدمين، وتضرب صفْحاً عن الطبقات المالكة لرأس المال، بل وتعزز مكانتها وهيمنتها. وتتنصل من أي مسؤولية أمام الثورات الغاضبة والاحتجاجات الساحقة (كما حدث في دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي). هذه الحلول لا تصيب الدول إلا بالمزيد من العجز وتوسع الاقتراض الخارجي والارتهان للقوى الكبرى (كما عانت منه وتعاني جُلّ دول أميركا الجنوبية).
وهي لا ترى أبعد من فرض قوانين التقشف وامتصاص ما تبقى من ثرى من فم العطشان، وتُقلّص الدعم على التعليم والصحة والوقود، لنستمر نحن، كدول “متأخرة” في إعادة إنتاج الجهل والمرض وتقييد حركة التنقل وتبادل الأفكار والبضائع.
هذه الحلول لا توصي بأبعد من توسيع أسعار الفائدة، ولا همّ لها إلا توحيد سعر الصرف لضمان وجود آمن للعملات الأجنبية واقتصادياتها الضخمة.. ومهمومة منذ القدم بإزالة القيود التجارية، وتقليل التعرفة الجمركية، وفتح البلدان للاستثمار الأجنبي المباشر وغير المشروط، وإتاحة المجال للمضاربات المالية العابرة للحدود، للسماح بالمزيد من التبعية. وهي لا ترى أبعد من خصخصة القطاع العام دون الاكتراث للصوت الشعبي الداخلي الحريص على تطوير ممكنات الرقابة والمحاسبة والضبط الصائن للمال العام وللأمل.
هنا بالتحديد تبرز أهم ملامح العدالة المنشودة في حدها الأدنى الذي يتطلب وجود دولة مستقلة القرار، مؤمنة بالإنسان، مُمكِّنة له ومستثمرة فيه، تبني اقتصاداً قائماً على الإنتاج، وتضمن فرص العمل والتشغيل بشكل خلّاق، وتربط مقادير الأجور والرواتب بحركة الأسعار لتجنيب مواطنيها الوقوع بين فكي التضخم أو الكساد، وتشتغل على ضمان مجانية وفاعلية وكفاءة أنظمة التعليم والصحة والسكن والضمان الاجتماعي، كاستثمار في المستقبل.
عندها لن يكون الإنسان حقلاً بائراً ولا ناضباً، وبالتأكيد لن تكون المنطقة رِبْعاً خالياً.