ملاحظات المفكرة القانونية حول قرار الدستوري بشأن الإيجارات القديمة: أي توازن بين حقي الملكية والسكن؟
(1)
فيما اتفق أعضاء المجلس الدستوري على الموازنة الحاصلة في القانون بين فئتي المالكين والمستأجرين القدامى، فإنهم انقسموا بالمقابل بخصوص المواد المتصلة بإنشاء اللجنة الخاصة لتحديد بدل المثل للمآجير أو لبتّ مدى أحقية المستأجر القديم للاستفادة من مساعدة مالية. فهل هذه المواد مطابقة للدستور؟ وما هي الضمانات التي يقتضي إحاطة تعيين أعضاء اللجنة بها؟ وبشكل أعم، ما هي ضمانات المحاكمة العادلة الواجب توافرها وفق الدستور في عمل هذه اللجان وهل هي متوافرة فعلياً؟ وهل يشكل حرمان المتقاضين أمامها من حق الطعن في قراراتها مخالفة دستورية عملاً بحق التقاضي على درجتين؟ أمام هذه الأسئلة، نحت أكثرية أعضاء المجلس (سبعة) الى إعلان بطلان هذه المواد لعدم دستوريتها، فيما اتفق ثلاثة من أعضاء المجلس على تحرير مخالفة من سبع صفحات، تأكيداً على خلوّ هذه المواد من أي مخالفة دستورية. واللافت أن الخلاف بين الفريقين، لم يقتصر على كيفية تفسير النصوص أو المبادئ الدستورية أو تطبيقها، بل تعداه ليشمل النصوص أو المبادئ المرجعية المعتمدة منهما. فضلاً عن ذلك، جاءت المخالفة المحررة من قبل الأقلية لإثبات دستورية المواد مفعمة بتناقضات ونواقص، الى حد يشي بانحياز واضح.
اختلاف حول ماهية القواعد الدستورية الملزمة
وفي هذا المجال، بدا الطرفان، الأكثرية كما الأقلية، وكأنهما يقرآن في دستورين مختلفين.
فالأكثرية بنت تحليلها على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من الدستور وعلى المادة الثامنة منه الخاصة بحق اللجوء الى محكمة[1]، وعلى المبادئ العامة الدستورية. وهي بذلك توسعت بوضوح في إضفاء المرجعية الدستورية على المبادئ المتصلة بالمحاكمة العادلة وبضمانات التقاضي، على نحو يسمح للمجلس الدستوري بفرض رقابة واسعة على الأحكام القانونية المطعون فيها وفق ما نتناوله أدناه.
بالمقابل، ذهبت الأقلية في اتجاه معاكس تماماً. فهي حصرت درسها لدستورية المواد المطعون فيها في محل واحد، وهو مدى مخالفتها للمادة 20 من الدستور الخاصة باستقلالية القضاء، من دون أن تتطرق من قريب أو بعيد الى “المبادئ العامة الدستورية” التي ارتكزت عليها الأكثرية. وقد رأت انطلاقاً من ذلك “أن الفرق ساطع بين السلطة القضائية المنصوص عليها في الدستور (مادة 20) وبين الصفة القضائية للجنة إدارية أعطاها المشرّع بسلطته التقديرية حق بت نزاعات تنشأ عن العلاقة التأجيرية”. فكأن بإمكانها مخالفة حجج الأكثرية من دون الاستماع اليها أو مناقشتها ومن باب أولى من دون إيلاء أي جهد تحليلي لدحضها. وقد بدت الأقلية من خلال ذلك وكأنها تعمد الى تضييق هامش رقابة المجلس على التشريع وذلك في اتجاه معاكس تماماً لما قامت به الأكثرية. ونقرأ ذلك ضمناً في عدد من الحيثيات الواردة في متن المخالفة حيث جاء أنه “لا يسوّغ المجلس الدستوري تخطي حدود اختصاصه التي تقف عند حد مراقبة أعمال اللجان لناحية ائتلافها مع نصوص الدستور” وأيضاً أن “الرقابة الدستورية تتجلى عند تعارض النص القانوني والنص الدستوري”. وبذلك، تكون الأقلية قد حصرت دور المجلس الرقابي بـ”النص الدستوري” (وتحديداً المادة 20) وأهملت تبعاً لذلك ليس فقط الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمبادئ العامة الدستورية ولكن أيضاً العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بما تضمنه من مبادئ هامة على صعيد مبادئ المحاكمة العادلة. إلا أن إعلان هذا الموقف من دون تعليل يجعله أقرب الى موقف براغماتي يرمي الى تحصين قانون تحرير الإيجارات القديمة منه الى موقف مبدئي بشأن حدود الرقابة الدستورية. وما يؤكد هذه القراءة هو أن الأقلية نفسها قد وافقت الأكثرية بشأن الحيثيات المتصلة بالموازنة بين المالكين والمستأجرين القدامى، والتي استندت في أجزاء كبيرة منها الى مفاهيم وردت في مقدمة الدستور مثل الإنماء المتوازن والعدالة الاجتماعية الخ..
واللافت أن هذا الاختلاف الكبير لا يحصل بشأن مسألة هامشية بل بشأن إحدى أهم وأخطر المسائل أي ضمانات التقاضي واستقلال القضاء، وأنه يحصل بشأن مسألة حسمها المجلس الدستوري الذي أقر مفهوم المبادئ العامة الدستورية في قراره الصادر في 27-6-2000.
لجنة إدارية ذات صفة قضائية، أي ضوابط دستورية؟
هنا، اتفق الطرفان على توصيف اللجنة على أنها لجنة إدارية ذات صفة قضائية وعلى أن للسلطة التشريعية أن تنشئ لجاناً مشابهة. إلا أنهما اختلفا تبعاً لاختلافهما على المرجعية الدستورية، بشأن المواصفات والضمانات الواجب توافرها فيها لتخويلها الفصل في نزاعات ذات طابع قضائي، كما حصل في هذا القانون.
وفي هذا السياق، رأت الأكثرية أنه يتعين على السلطة التشريعية أن تحيط اللجان المشابهة التي تنشئها بضمانات لجهة كيفية تعيين أعضائها أو الإجراءات المتبعة منها، منعاً لإهدار الحق بالتقاضي. وكان من اللافت في هذا الإطار أن تحدثت الأقلية عن “تمادي السلطة الاشتراعية في إنشاء لجان تمنحها الصفة القضائية، دون التقيد بالشروط المطلوبة لذلك”، معتبرة ذلك “انتهاكاً لمبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها”. ومن المآخذ التي سجلتها الأكثرية هو أنه ما خلا عضو اللجنة الذي هو قاض عامل أو قاض متقاعد، تبدو ضمانات استقلالية سائر الأعضاء موضع شك: فهنالك عضوان منتدبان من وزارتي المالية والشؤون الاجتماعية من دون أي ضمانة لناحية استقلاليتهم.أما ممثلا المالكين والمستأجرين المشار اليهما، فلا يحدد القانون كيفية تعيينهما أو انتخابهما كما لا يضمن بأي شكل استقلاليتهما. وقد خلصت انطلاقاً من ذلك الى القول بأنها لجنة غير محصنة. كما سجلت خلو القانون من تحديد الإجراءات المعتمدة منها ما خلا كيفية تبليغ الأشخاص المعنيين بالنزاع العالق أمامها. وبذلك، لا نعلم إذا كان يتعين على اللجنة تعليل أحكامها أو ضمان مبدأ الوجاهية وحق الدفاع للمتقاضين.
بالمقابل، اكتفت الأقلية بالقول بأن هذا النوع من اللجان يخرج عن مفهوم السلطة القضائية المنصوص عليها في الدستور، فلا يكون للمجلس تالياً البحث في مدى توافر استقلالية أعضائها أو الضمانات القضائية. وهي بدت وكأنها تشرّع من خلال ذلك انتهاك ضمانات المحاكمة العادلة بمجرد إناطة صلاحية بت النزاع بلجان إدارية. وفيما لم تعر الأقلية أي اهتمام للمبادئ الواردة في مقدمة الدستور، فإنها اكتفت بوضع ضابط دستوري واحد على اللجان الإدارية ذات الصفة القضائية مفاده أن “قرارات اللجنة نافذة ولا تخضع لمصادقة السلطة الإدارية أو سواها”، ما يقوّض أي تهمة بوجود فصل للسلطات. والأغرب من ذلك هو أنه رغم أنها اعتبرت المجلس غير صالح لإجراء تقييم بشأن توافر ضمانات المحاكمة وأنها امتنعت فعلياً عن أي تقييم مماثل، فإنها انتهت الى التأكيد من دون أي تعليل يذكر على أن “الضمانات متوافرة كلياً للجنة وأعضائها وللمتقاضي الذين هم مؤجر ومستأجر”. ومن خلال هذه العبارة، بدت الأقلية وكأنها لا تجد مانعاً في إطلاق العنان لتأكيدات لا تستند الى شيء، أو عملياً في الظهور مظهر المنحاز. وما يزيد الأمر خطورة هو أنها استمدت من مخالفات التشريع السابقة (إنشاء هيئة التحقيق الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وسائر اللجان المعينة) حجة لتبرير التشريع الحالي، بدل استغلال مناسبة الطعن بقانون الإيجارات لوضع ضوابط لإنشاء لجان مماثلة. ومن يقرأ هذه المخالفة، يخرج تالياً بانطباع عبثي مفاده أن مبدأي استقلال القضاء وفصل السلطات يرتبطان بجهاز عضوي (قاض أو محكمة) أكثر مما يرتبطان بوظيفة الفصل في النزاعات، وأنه بإمكان المشرّع تجاوزهما في أي حين من خلال اللجوء الى تقنية اللجان الإدارية ذات الصفة القضائية.
التقاضي على درجتين: مبدأ دستوري؟
هنا أيضاً، برز خلاف أساسي بين الفريقين، علماً أن كلا الموقفين يقبلان النقد.
فالأكثرية اعتبرت أن للمجلس أن يقدّر ما إذا كان المشرّع قد أخل بضمانات التقاضي في حال حصر التقاضي بدرجة واحدة. فأي تجاوز لقاعدة التقاضي على درجتين يجب أن يكون مسنداً الى “أسس موضوعية تمليها طبيعة النزاع وخصائص الحقوق المثارة فيه، وأن تكون الدرجة الواحدة محكمة أو هيئة ذات اختصاص قضائي متوافرة فيها الضمانات”. وقد خلصت الأكثرية الى إعلان وجود مخالفة معتبرة أن القانون “حصن قرارات لجنة غير محصنة أساسها بجعلها قرارات نهائية وغير قابلة لأي طريق من طرق المراجعة”. وبمعزل عن النتيجة التي وصلت اليها، إلا أنه من المؤسف أن الأكثرية تركت هامشاً واسعاً لتجاوز هذا المبدأ من خلال إحالتها الى مفاهيم مطاطة (أسس موضوعية، خصائص الحقوق، ..) وأنها فوّتت فرصة الطعن المقدم الى المجلس لوضع ضوابط أكثر دقة. كما أنه من المؤسف أن لا تذكر الأكثرية المجالات التي لا يجوز فيها التنازل مطلقاً عن حق المراجعة كما هي الحال بالنسبة الى المحكومين بجناية مثلاً (المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية)[2]. والمؤسف أكثر أن المجلس قد ذهب الى تشريع مخالفة دستورية مجاناً في سياق تعليله. فبعدما ذكر أن المجلس كرّس المبدأ بما يتصل بالأحكام التأديبية الصادرة بحق قضاة عدليين حين رفض غياب أي مراجعة قضائية في قراره المؤرخ في 27-6-2000، فإنه عاد وأعطى شهادة مجانية للمشرّع الذي انتهى وفق القرار “الى وضع أصول مناسبة بهذا الخصوص”. وهذه الشهادة تأتي لتدحض من دون أي تعليل مجموعة من الآراء التي تؤكد أن المشرّع قد عاد وخالف القرار المذكور حين جعل المرجع الاستئنافي للقرارات التأديبية تلك أمام هيئة عليا تنبثق كما هيئة التأديب الابتدائية عن المرجع نفسه الذي هو مجلس القضاء الأعلى[3].
بالمقابل، فإن الأقلية رأت أن المشرّع غير مقيد دستورياً بأشكال إجرائية محددة، وبالتالي غير مقيد بأن تنظر نزاعات المواطنين في أكثر من مراجعة واحدة من درجات التقاضي، فالتقاضي على درجة واحدة جائز دستورياً كلما استدعت الخصومة واقتضت السرعة في إنهاء صور من المنازعات بالنظر الى طبيعتها. وهذه العبارة تستدعي ثلاث ملاحظات:
– أولاً أنها تضرب عرض الحائط بالقرار الصادر عن المجلس نفسه في 27-6-2000 كما تضرب مجمل النصوص الواردة في المواثيق الدولية لهذه الجهة،
– أن الأقلية ناقضت نفسها. فهي من جهة تقول بانعدام أي قيد أمام المشرّع لتسارع الى القول بأن له القيام بذلك إذا اقتضت السرعة ذلك، وهو شرط متوافر بحسب رأيها لضرورة حسم عدد الدعاوى الكبير بين المستأجرين والمالكين في هذا الخصوص، ولا سيما أن سريان بدل المثل يبقى وقفاً على انتهاء النظر في أحقية المستأجر بالمساعدة المادية،
– أن الأقلية بدت وكأنها تحقّر من أهمية التقاضي على درجتين، من خلال القول إن الدستور اللبناني قد خلا من أي نص يجعل الخصومة على أكثر من درجة واحدة، لأن حرصه في المادة 20 كان منصباً على تأمين محاكمة منصفة وعادلة يؤمنها قضاة مستقلون ضمن نظام يحفظ لهم وللمتقاضين الضمانات اللازمة.
نشر في العدد العشرين من مجلة المفكرة القانونية
(2)
منذ بدء النقاش حول قضايا الإيجارات، بدا المجلس التشريعي وكأنه يسعى الى إيجاد حل ما بين فئتين اجتماعيتين متصارعتين، وهما تباعاً فئة الأشخاص الذين يشغلون عقارات على سبيل إيجارة تمتد بحكم القانون منذ ما قبل 1992 والأشخاص الذين يملكون تلك العقارات. وفي هذا المجال، لا بد من تصحيح خطأ شائع، ربما يقصده البعض، مفاده اختزال هاتين الفئتين بفئتي المستأجرين والمالكين القدامى. ومرد الخطأ هو أن العديد من المالكين الحاليين هم حديثو الملكية، بمعنى أنهم اشتروا أبنية مؤجرة كلياً أو جزئياً على سبيل المضاربة أو للقيام بمشاريع إعادة بناء. كما أن العديد من المستأجرين قد دخلوا الى المآجير كخلفاء لمستأجرين قدامى. ورغم أهمية الأرقام هنا، فإن الباحث لا يجد أي رقم بهذا الشأن. والأهم من ذلك هو أن هذا البحث عن حل بقي طوال السنوات الماضية بمنأى عن أي معايير قانونية ضابطة أو مؤثرة بطريقة أو بأخرى.
ومن هنا، كان أمام المجلس الدستوري فرصة استثنائية لوضع ضوابط قانونية في هذا المجال، وعملياً للتفكير بشأن المسائل القانونية التي من شأنها أن تحكم مسألة الإيجارات القديمة. إلا أنه، هو أيضاً بدا وكأنه يؤثر تجنب الخوض في عمق هذه المسألة. وقد بدا ذلك واضحاً جداً حين أصدر قراره في 13-6-2014 بإبطال الطعنين الأولين لأسباب شكلية كان بإمكانه تجاوزها وفق ما نقرأ في المخالفة التي حررها عضو المجلس أنطوان مسرة. وفيما أسهب في قراره الثاني في تقييم حقي الملكية والسكن وما يرتّبانه من نتائج، فقد بدا جدّ مقلّ عندما قارب جوهر المسألة أي المعايير الملائمة للموازنة بين هذين الحقين. فبقي قراره غامضاً بل خالياً من أي معيار في هذا الخصوص، مكتفياً بالقول إنه وجد أن مواد القانون تلبي من منظاره شروط هذه الموازنة. بالمقابل، فقد وجد في شروط تعيين اللجنة التي أناط بها بعض المهام كتحديد بدل المثل وبتّ أحقية المستأجر بالمساعدة المالية، حجة كافية لإبطال مواد القانون المتصلة بها لتعارضها مع ضمانات التقاضي، علماً أن ثلاثة من أعضاء المجلس أعلنوا مخالفتهم لهذا الأمر.
والمفكرة هنا تسجل عدداً من الإيجابيات والسلبيات في قرار المجلس المتصل بالموازنة بين حقوق المالكين وحقوق المستأجرين، تبحثها هنا، على أن تخصص بحثاً منفصلاً للمسائل المتصلة باللجنة ذات الصفة القضائية
الإيجابيات
في هذا المجال، يسجل للمجلس عدد من المواقف المبدئية الهامة.
الأول، هو تأكيده على الطبيعة الدستورية للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، ومنها حق السكن. وهذا الأمر يتأتى ليس فقط عن “الشرعات الدولية” (التي وردت الإشارة اليها عموماً دون تحديد النصوص المعنية ومنها المادة 11 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) و”اجتهادات دستورية مستقرة” (الأرجح أنه يشير الى اجتهادات في القانون المقارن) بل أيضاً من طبيعة الجمهورية وأهدافها وفق ما جاء في مقدمة الدستور، وخصوصاً لجهة التأكيد على النظام الديموقراطي وعلى العدالة الاجتماعية وعلى مبدأي المساواة والإنماء المتوازن كما جاء في الفقرتين “ج” و”ز”. فـ”الديموقراطية لا تقتصر على الحقوق السياسية والمدنية إنما يتطلب تحقيقها توافر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أيضاً للمواطنين” (كل العبارات بين قوسين في هذا المقال مأخوذة من القرار). و”الغاية من الإنماء المتوازن للمناطق تحقيق العدالة الاجتماعية وتعميمها على جميع المواطنين وتوفير العيش الكريم لهم”. و”العدالة الاجتماعية تقتضي العمل على إيجاد مسكن لائق لكل مواطن”. والغاية من الدستور هي “تنظيم العلاقات في مجتمع الدولة بما يضمن العيش الكريم للمواطنين والاستقرار والأمن”. ونلحظ هنا أنه استنتج دستورية حق السكن من مجموعة من البنود الواردة في مقدمة الدستور (الديموقراطية، المساواة، الإنماء المتوازن، العدالة الاجتماعية..) وعلى مجموعة من الحقوق (الحق بمسكن لائق والحق بتأسيس عائلة). بل وصل الى حد القول بأن المسكن عامل استقرار نفسي واجتماعي وعامل أمان وشرط أساسي لتحقيق الأمن الاجتماعي.
الثانية، هو تأكيده على أن تحقيق الحقوق المذكورة، وفي مقدمها حق السكن، يشكل هدفاً ذا “قيمة دستورية ينبغي على السلطتين الاشتراعية والإجرائية رسم السياسات ووضع القوانين الآيلة الى تحقيق هذا الهدف”. وانطلاقاً من ذلك، وضع المجلس الدستوري على عاتق هذه السلطات “اعتماد سياسات عامة اجتماعية واقتصادية في الإسكان والتنمية المتوازنة والنقل، وبخاصة في لبنان حيث يساهم نقل مشترك منتظم بتشجيع السكن في مختلف المناطق”. وقد انتهى الى التأكيد أن القوانين تبقى “خاضعة لرقابة القضاء الدستوري من أجل الحفاظ على هذه الضمانات (أي الضمانات التي نص عليها الدستور)”.
الثالثة، أنه كرّس نظرية الحق-الوظيفة، بحيث أعلن أن “لكل حق حدوده وبالتالي يشمل التعسف أو التجاوز في استعمال الحق abus de droitكل حق دون استثناء”. وبذلك، فتح الباب أمام التفكير بوظائف الحقوق المكرّسة على نحو لا يتعارض مع المصالح العامة.
السلبيات
عند قراءة القرار، نخال فوراً أن ثمة انفصاماً بين حيثياته، بين سلبياته وإيجابياته، أو كأن ثمة تسوية حصلت بين أعضائه وأدت الى جمع حيثيات ذات خلفيات وأبعاد متناقضة في سياق واحد. وهذا ما سنعود اليه أدناه.
السلبية الأولى: فصل موجبات الدولة بخصوص “حق السكن” عن العلاقة بين المستأجر والمالك
على الرغم من تأكيد القرار أن على السلطات اعتماد سياسات عامة في مناح عدة (إنماء ونقل مشترك وسياسة إسكانية) لضمان حق السكن من دون الاكتفاء بتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، فإن المجلس الدستوري أقر دستورية تحرير عقود الإيجارات في الظروف الحالية، رغم قصور المشرّع عن اتخاذ أي سياسة بهذا الخصوص، أي رغم انعدام أي خطة لضمان مسكن لائق للمستأجرين القدامى الذين قد يُرغمون على مغادرة منازلهم بعد رفع بدلاتها رفعاً ملحوظاً أو تحرير إيجاراتهم بالكامل. كما أنه بخلاف قرارات سابقة له، لم يجر أي تقييم للمساعدة المالية التي نص عليها القانون للمستأجرين القدامى الذين تقل مداخيلهم عن حد معين، وتحديداً في ما إذا كانت تشكل ضمانة بديلة كافية لحق السكن اللائق. وبذلك، بدا المجلسوكأنه يكتفي بإعلان موجب فعل على الدولة بتأمين ضمانات بديلة للسكن اللائق مستقبلاً، من دون أن يشترط إقرارها فعلياً كشرط مسبق لإلغاء الضمانات المتوافرة حالياً. وهو بذلك استبدل عملياً موجب عدم فعل على السلطات العامة خاضع لرقابته بموجب فعل في ذمة هذه السلطات ليس له عليه أي رقابة. ومن هذا المنطلق، بدت حيثيات المجلس متضاربة في ما بينها، إذ هي تعلن دستورية قانون من شأنه المسّ بحقوق دستورية من دون أن تتوفر أية ضمانة بديلة لتأمين هذه الحقوق، ما قد يؤدي عملياً الى ضياع هذا الحق، ومن الناحية الاجتماعية، الى نتائج كارثية بكل ما للكلمة من معنى. وبالطبع، يتعارض هذا الموقف جذرياً مع مواقف المجلس السابقة التي أشار فيها صراحة الى أنه: “عندما يسن المشترع قانوناً يتناول الحقوق والحريات الأساسية فلا يسعه أن يعدل أو يلغي النصوص النافذة الضامنة لهذه الحريات والحقوق دون أن يحل محلها نصوصاً أكثر ضمانة أو تعادلها على الأقل فاعلية وضمانة” (قرار المجلس الدستوري، 27-6-2000).
السلبية الثانية: تحرير المالك من أي موجب واضح تجاه المستأجر
هنا، ورغم أن المجلس أعلن نظرية الحق الوظيفة droit-fonction، فإنه سرعان ما حرر المالك من أي موجب تجاه المستأجر. بل أسوأ من ذلك، جازف المجلس بتعداد اعتبارات المصلحة العامة التي من شأنها أن تحدّ من حق الملكية مع التأكيد على أنه يوردها على سبيل الحصر وليس على سبيل المثال. وهذه المسائل هي الآتية: “القواعد العقارية والهندسية في الفرز والضم والبناء، والاستملاك لقاء تعويض عادل ولمصلحة إنشاءات عامة، وقواعد التنظيم المدني والسلامة العامة وحماية الإرث المعماري والثقافي والتقيد بالأنظمة البلدية في الصيانة والترميم”. وبذلك، يكون المجلس قد استبعد إمكانية الحد من حق الملكية عملاً بأي اعتبار آخر، كحماية البيئة أو ضمان حق التمتع بها مثلاً؛ لا بل إن هذا التهور في إعلان الحصرية أوقعه في تناقض واضح وصريح مع قرار سابق له (قرار 10-5-2001) أعلن فيه “أن المصلحة العليا يمكنها أن تبرر أي قيد لحق الملكية، حتى في ما يتعلق بالمواطنين أنفسهم، على الرغم من أن الملكية .. هو حق مصان دستوراً”. كما أنه، في السياق نفسه، استبعد صراحة أن يتم الحد من حق الملكية في العلاقة بين المالك والمستأجر. فالحد ليس من “المبادئ التعاقدية وحرية التعاقد والتوازن في النظرية العامة للعقد”. وقد أكمل المجلس تحليله في هذا المجال من خلال القول بأن الحق في سكن لائق استناداً الى الشرعات الدولية يفرض موجباً ليس على المالك، بل على السلطات العامة وحدها. وانطلاقاً من ذلك، توصل المجلس الى اعتبار القانون المطعون فيه منسجماً “مع القواعد الدستورية لجهة استعادته مبادئ حق الملكية لمصلحة المالكين القدماء واستعادته المبادئ العامة لنظرية العقد”.
وعدا أن هذه الحيثيات تتعارض مع نظرية الحق-الوظيفة، فإنها تتعارض أيضاً مع حيثيات أخرى للمجلس الدستوري وردت في ما بعد ويستشف منها بوضوح أنه بإمكان المشرّع في ظروف معينة الحد من حق الملكية لضمان حق السكن. وهذا ما نقرؤه في الصفحة 16 من القرار حيث جاء أن: “على السلطة الاشتراعية التوفيق بين الحق بالملكية والحق بالسكن” و”أن تباين الوضع بين المالك والمستأجر هو في طبيعته ووزنه يبرر التباين في المعاملة” و”أن القانون المتوازن بين مصالح متباينة قد يحد من حقوق دستورية ولكن لهدف رشيد وضروري انطلاقاً من قيم ومرجعيات ومن خلال مقاربة متوازنة”. وبذلك، بدا المجلس في إحدى حيثياته وكأنه يعد أي مس بحق الملكية غير جائز، ليعود ليجوّز ذلك في حيثية أخرى من باب التوازن بين المستأجر والمالك، موقعاً نفسه وقراءه في تناقض كبير. ولكن، أهم من ذلك، هو أن حديثه عن وجوب التوازن في العلاقة بقي عاماً: فبعدما نص عليه، انتهى الى تأكيد حصوله في القانون المطعون فيه، من دون أن يبين ماهية التوازن المطلوب أو المعايير الضامنة لحصوله أو لقياسه.
والتناقض نفسه نلمحه في تقييم القوانين الاستثنائية بتمديد الإجارة التي بدأ العمل بها أثناء الحرب العالمية الثانية. ففي إحدى حيثياته، بدا المجلس وكأنه يدين مجمل هذه القوانين السائدة منذ سبعين سنة، حيث أورد في الصفحة 12 أن “ما حصل طيلة سبعين سنة هو تعسف مستمر في الحد من حق الملكية من خلال قوانين استثنائية متمادية التعرض لحرية التعاقد”. وفي حيثية أخرى، عاد المجلس ليذكر أن هذه القوانين بدأ العمل بها استثنائياً بسبب النقص في الأماكن السكنية وانخفاض العرض، من دون أن ينظر في ما إذا كانت الظروف الحاضرة تتوافر فيها حالة الاستثناء، على نحو يبرر تمديد الإجارة قانوناً، بالنظر الى وفود أعداد هائلة من اللاجئين وتفاقم الطلب الهائل على المساكن. والواقع أن المجلس أخطأ من خلال المزج بين قوانين الإيجار الاستثنائية الحاصلة قبل الحرب الأهلية والتي تمثلت بتوازن معين بين حقوق المستأجر والمالك فحمت المستأجر من تبعة نقص العرض وارتفاع بدلات الإيجار نتيجة المضاربة من دون حرمان المالك من البدل العادل، وتلك الحاصلة ما بعد هذه الحرب والتي أدت الى تمديد حق السكن بما يخل تماماً بتوازن العقد ويصيب حق الملك بضرر بليغ.
وبذلك، وبدل أن يستوحي المجلس الدستوري من الاجتهادات الدولية ما يسمح باعتماد معايير توازن بين المستأجر والمالك، اكتفى بالتحدث عن توازن بلغة عمومية وعلى نحو لا يخلو من الالتباس. وبذلك بدا تعليله مفقوداً وإلا منقوصاً الى حد كبير. والواقع أن نظرية تمديد عقود الإجارة تستند في عمقها الى مفهوم الحاجة المشروعة الى مسكن لائق ببدل إيجار يتناسب مع المداخيل العامة، وأنها من هذا المنطلق تسمح بالحد من حق الملكية لجهة منع المالك من الاستفادة من ندرة المساكن لفرض بدلات باهظة، من دون أن تسمح باستباحته. وهذا ما نصت عليه صراحة التعليقات على المادة 11 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي تسمح باتخاذ تدابير لحماية المستأجر إزاء البدلات الباهظة التي قد يفرضها السوق[1]. وهو بهذا المعنى، يرتب مبدئياً نتائج أكثر مما توحي به فئة المستأجرين، وبالمقابل نتائج أقل مما تطلبه فئة المالكين. فكما أنه من الخطأ القول بحق مكتسب للمستأجرين يمنع تحرير الإيجارات، فإنه من الخطأ أيضاً القول بأن حق المالكين يوجب تحرير الإيجارات من دون أي ضوابط.
وما يزيد الأمر خطورة هو أن المجلس لم ينظر في مدى دستورية النص الخاص بمنح مساعدة للمستأجرين من مداخيل متدنية، وتحديداً الى غياب أي موجب على الدولة بتمويل هذه الصناديق، ما قد جعل هذه المساعدة نظرية بحتة.
السلبية الثالثة: التمييز بين المواطنين لجهة مساهمة الدولة في ضمان تمتعهم بحق السكن
الحق بالسكن اللائق يفرض على الدولة التدخل كلما كانت مداخيل المواطنين لا تسمح لهم بالتمتع به فعلياً. وهذا الأمر لا يعني فقط شاغلي الإيجارات القديمة أو فقط المستأجرين، بل يعني أيضاً وخاصة الشباب الذين يتهيؤون للاستقلال عن منازل ذويهم ويبحون عن أماكن للإجارة ببدلات تتناسب مع مداخيلهم. وهذا الأمر إنما يرتب على الدولة أن تعتمد سياسة إسكانية شاملة وألا تكون سياستها في مساعدة فئة من هذه الفئات تمييزية ومخالفة لمبدأ المساواة. وبالطبع، لها أن تضبط حق الملكية على أن يكون البدل عادلاً، وعليها أن تتخذ ما تراه ضرورياً من تدابير أخرى لتأمين مساكن ملائمة للجميع. وبالطبع، تزداد مسؤوليات الدولة في هذا الإطار، بقدر ما تتجاوز الحاجة الى المساكن عدد المساكن المعروضة للإيجار.
ولعل إحدى أهم الثغرات في القرار الدستوري، هي خلوه من أي تقييم لمواد القانون المتصلة بإنشاء صندوق لتقديم مساعدة مالية للمستأجرين الذين تقل مداخيلهم عن حد معين. فقد بقي القانون خالياً من أي ضمانة لجهة ضمان ملاءة هذه الصناديق التي يخشى أن تبقى صناديق فارغة كما حصل مع عدد من الصناديق المنشأة بموجب قوانين سابقة، منها قانون حقوق المعوقين (2000) وقانون حماية البيئة (2002) وحديثاَ قانون حماية المرأة وأفراد الأسرة من العنف الأسري (2014).
السلبية الرابعة: الوئام الاجتماعي ليس مسألة تقنية وحسب
أمر آخر بدا فيه المجلس الدستوري وكأنه يقرأ القانون ويقيّمه بعين واحدة. فتأييداً لتحرير الإيجارة القديمة، رأى أن من شأن فك الترابط بين المالكين والمستأجرين أن يؤدي الى التخفيف من فرص النزاعات الاجتماعية. فـ”خرق المبادئ العامة في التعاقد في قضية حياتية يومية متعلقة بالملكية والسكن هو مصدر نزاعات بين المواطنين ومصدر توتر في علاقات الجوار، وتشكل بالتالي مصدر تهديد بالعمق للسلام الاجتماعي”. بالمقابل، فإن قراره بقي خالياً من أي إشارة الى التعقيدات القانونية الواردة في متن القانون والممهدة لفك هذا الارتباط والتي من شأنها واقعياً أن تولّد نزاعاً في كل علاقة تأجيرية قديمة. وهذا ما نستشفه من القواعد المعقدة لتحديد بدل المثل من خلال خبراء يعيّنهم المالك وآخرين يعيّنهم المستأجر، وفي حال النزاع من خلال لجنة إدارية ذات صفة قضائية، وأيضاً من القواعد المعقدة لتحديد أحقية المساعدة المالية. وكان من الممكن تلافياً لذلك زيادة البدلات نسبياً وتلقائياً سنوياً توفيراً لما قد يسببه هذا النزاع من تعقيدات وأكلاف. وأهم من ذلك، هو أن الحديث عن الوفاق الوطني لم يتطرق إطلاقاً الى ما قد يسببه تحرير الإيجارات من كوارث اجتماعية في ظل الظروف الراهنة.
بالتالي مصدر تهديد بالعمق للسلام الاجتماعي”. بالمقابل، فإن قراره بقي خالياً من أي إشارة الى التعقيدات القانونية الواردة في متن القانون والممهدة لفك هذا الارتباط والتي من شأنها واقعياً أن تولّد نزاعاً في كل علاقة تأجيرية قديمة. وهذا ما نستشفه من القواعد المعقدة لتحديد بدل المثل من خلال خبراء يعيّنهم المالك وآخرين يعيّنهم المستأجر، وفي حال النزاع من خلال لجنة إدارية ذات صفة قضائية، وأيضاً من القواعد المعقدة لتحديد أحقية المساعدة المالية. وكان من الممكن تلافياً لذلك زيادة البدلات نسبياً وتلقائياً سنوياً توفيراً لما قد يسببه هذا النزاع من تعقيدات وأكلاف. وأهم من ذلك، هو أن الحديث عن الوفاق الوطني لم يتطرق إطلاقاً الى ما قد يسببه تحرير الإيجارات من كوارث اجتماعية في ظل الظروف الراهنة.
نشر في العدد العشرين من مجلة المفكرة القانونية
للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط هنا
يقتضي حماية المستأجرين بتدابير ملائمة ضد بلوغ البدلات أو زيادتها بشكل غير منطقي.