حول مسألة “العدالة الاجتماعية” في سوريا
فصل ضمن كتاب: العدالة الاجتماعية: المفهوم والسياسات بعد الثورات العربية
طرحت الثورات العربية منذ انطلاقها من تونس مشكلة انعدام المساواة والعدالة الاجتماعية كمشكلة أساسية في عالمنا العربي، تتفاوت حدتها بين بلد وآخر، ويختلف التعاطي معها باختلاف طبيعة نظام عن آخر. بحيث بدا واضحا أن الثورات كانت نتيجة خلل في توزيع الثروات، ناتج أصلا عن سياسات نهب وفساد، اتسمت بها هذه الأنظمة، ما أدى لتفاوت طبقي حاد، كان لا بد أن يؤدي تراكمه إلى انفجار شعبي كالذي حدث بدءا من تونس، وهي نتيجة طبيعية لسيرورة طويلة من سياسات الإفقار، والتجويع، والتجهيل من جهة. ومراكمة الثروات في ظل متغيرات عالمية، وهيمنة للشركات العملاقة العابرة للحدود، والتكتلات الاقتصادية الكبرى كالاتحاد الأوروبي وانعكاسات الشراكة معهما ومع غيرهما على الاقتصادات المحلية من جهة ثانية.
يشير تقرير صادر عن “المعهد العربي للتخطيط” في العام 2010، أي قبل انطلاق ثورات “الربيع العربي” بأشهر قليلة إلى أن متوسط الإنفاق العام للدول العربية في الفترة الزمنية من العام 2003 وحتى العام 2009، قد سجل أعلى نسبة له في مجال الخدمات الاجتماعية، والذي يبلغ (6.5%) من الناتج المحلي الإجمالي. بينما جاء بند الإنفاق على الأمن والدفاع في المرتبة الثانية بنصيب بلغ (5.7%) من الناتج الإجمالي المحلي.
الملفت للنظر، وبحسب نفس المصدر، أن معدل البطالة لعقد الثمانينيات من القرن الماضي في العالم العربي بلغ (10.6%) من حجم القوى العاملة. بينما وصل إلى (14.5%) في عقد التسعينيات. فيما وصل إلى (15.5%) في العقد الأول من الألفية الثالثة.
وفي الحديث عن سوريا، لا بد من التمييز بين مراحل ثلاث للسياسات التنموية والاقتصادية والاجتماعية. تبدأ من مرحلة حكم حافظ الأسد منذ العام 1970، وحتى استلام بشار الأسد للسلطة في العام 2000، وما آلت إليه أحوال المجتمع بعامة وعلى مختلف المستويات بعد انطلاق الثورة في مارس 2011 وإلى اليوم.
اعتمد النظام مبدأ الخطط الخمسية لإدارة وتنظيم موارد البلاد على كافة الصعد منذ قيامه، وقد تميزت فترة حكم حافظ الأسد بسيطرة “القطاع العام، عبر ما يسمى “الاقتصاد الموجه” الذي كفل للمجتمع السوري ضمانات بدعم العديد من السلع والمواد الأساسية كالخبز والدواء والمحروقات، والكهرباء، والنقل. إضافة للتعليم، والصحة المجانية، والحصص الغذائية الشهرية التي ساهمت إلى حد كبير بتوفير حد أدنى من المساواة، وتقليص، أو للدقة إخفاء الفوارق الطبقية بين أبناء المجتمع الواحد. ومع ذلك، فإن نسبة الأمية التي كانت توازي (50%) تقريبا في العام 1960، لم يستطع النظام تقليصها حتى العام 2000 لأكثر من (24%) بحسب المكتب المركزي للإحصاء. وبالطبع، يستثنى الأكراد من الشعب السوري، والذين مورس بحقهم أبشع أشكال التمييز، حيث تم تجريدهم من مواطنيتهم منذ العام 1962، فلم تحصل الأغلبية المطلقة منهم على أي حقوق تذكر.
يشار هنا إلى أن إنتاج سوريا من النفط حوالي (300) ألف برميل يوميا، كانت، وما تزال “شركة الفرات للنفط” والتي أسسها حافظ الأسد في العام 1985، ليديرها قريبه محمد مخلوف، هي الجهة الحصرية والوحيدة المخولة للتصرف بالنفط السوري الذي لم يستخدم أبدا في مجال التنمية والخدمات الاجتماعية، ولم يعرف أين تصرف عائداته على وجه الدقة.
في العام 2000، وبعد وصول بشار الأسد للسلطة، تغيرت السياسات الاقتصادية لكن تحت نفس الشعارات التي أطلقها “حزب البعث العربي الاشتراكي” منذ تأسيسه في العام 1963، ففيما كان يرفع شعار “الاشتراكية” كواحد من أهدافه، ذهب باتجاه تحرير الأسواق وفتحها لرؤوس الأموال الأجنبية، بما يتوافق وسياسات “نيوليبرالية” تجلت بداية بسحب الامتيازات والمكتسبات التي حصل عليها الشعب السوري في فترة حكم والده. مثل رفع الدعم عن العديد من المواد الأساسية كالمحروقات، وتقليص الحصص الغذائية الشهرية، وضرب التعليم الرسمي في خطوة على طريق خصخصته، فقد رخص لـ(22) جامعة خاصة، دخلت (11) منها حيز العمل الفعلي، تعود ملكية أغلبها لرجال أعمال مقربين من دائرة القرار. وعدد لا يحصى من المدارس الخاصة لكافة المراحل. إضافة للمستشفيات الخاصة في ظل تدهور أداء مثيلاتها في القطاع العام. وفي العام 2004، وقع النظام (52) اتفاقية مع الحكومة التركية في كافة مجالات التجارة، والصناعة، والسياحة، والزراعة، ليبلغ حجم التبادل بين البلدين أكثر من مليار دولار بعد أن كان أقل من (300 مليون) دولار في العام الذي سبقه. كانت نتائج هذه الإتفاقيات كارثية بحيث استفاد منها عدد من رجال المال والأعمال الجدد، فيما تضررت الفئات والشرائح الاجتماعية الدنيا بعد القضاء على العديد من الحرف والصناعات الصغيرة التي لم تستطع الصمود أمام منافسة البضائع التركية.
أما في المجال الزراعي، فقد كانت الكارثة أكبر بسبب الفساد وسوء إدارة هذا القطاع الأساسي، ففي العام 2004، هاجر من المنطقة الشرقية، والشمالية الشرقية أكثر من نصف مليون نسمة، وهو ما لم يحصل منذ العام 1920، أي بعد توقيع اتفاقية “سايكس – بيكو”، بسبب تصحر مساحات واسعة من الأراضي بعد سياسات الري الخاطئة التي اعتمدتها الحكومة (الري بالغمر) مما أدى لتملح التربة. إضافة لحفر الآبار غير الشرعية بعد دفع الرشى، وعدم اكتراث النظام بمحاسبة المسؤولين، وهو ما قلص حجم المياه الجوفية في المنطقة. عدا عن الأمراض التي استفحلت في بعض الزراعات الإستراتيجية “كصدأ القمح” والذي فشلت الحكومة في معالجته، لتتوقف هذه المنطقة عن زراعته. فتحولت سوريا من مصدر، لمستورد لهذه المادة.
إذن، فساد، وسياسات خاطئة، أدت لتفارق طبقي غير مسبوق كان من نتائجه بحسب “المعهد العربي للتخطيط” أن يستهلك (20%) من الشرائح الدنيا في المجتمع السوري ما نسبته (7%) من حجم الإنفاق العام. بينما يقابلهم (20%) من أثرياء هذا البلد، استهلكوا (45%).
هذه السياسات وغيرها، التي عوضا عن أن تقلص الهوة الطبقية، زادتها. أدت لتفارق طبقي ملحوظ، فها هو نائب رئيس مجلس الوزراء السابق، ووزير “حماية المستهلك” قدري جميل يعلن قبل اندلاع الثورة بأشهر قليلة أنه “حتى يعيش المواطن حياة حرة كريمة، يجب أن يكون الحد الأدنى للأجور بين 30 و40 ألف ليرة”، أي ما يعادل: من 600 إلى 800 دولارا أميركيا. فيما صدر مرسوم تشريعي يحمل الرقم (38) بتاريخ 22 يونيه 2013، ينص على تحديد الحد الأدنى للأجور بـ(6070) ليرة سورية أي ما يعادل (121 دولار) في ظل تضخم وصل خلال الأزمة لمستويات غير مسبوقة إذ بلغ في نفس العام أكثر من (117%)، وارتفاع في أسعار السلع الاستهلاكية بلغ حدود (491%).
جدير بالذكر هنا، أن “منظمة اليونيسكو” كانت قد أعلنت في 16 يناير 2014، أن هنالك (60%) من الأطفال السوريين في الأردن وحدها لم يلتحقوا بمدارسهم. وهو ما ينبئ بكارثة أخرى في ظل انعدام الخطط والسياسات لمواجهة هذه الكارثة من قبل جميع الأطراف، الداخلية (نظاما ومعارضة)، والخارجية كالمنظمات ذات الصلة والدول الشقيقة.
في الخلاصة: تحالف سياسات الهدر والفساد مع المنظومة الأمنية في سوريا، أخفى شعار العدالة الاجتماعية والمساوة، بعد تدمير المجتمع، وإعاقة تقدمه إلى اللحظة التي ما كان لهذه الشعارات إلا أن تنفجر في ثورة شعبية، كانت وكأنها بحاجة لشرارة تشعلها. هذا ما حصل بعد انطلاق الثورة من تونس إلى باقي بلدان الربيع العربي. وهو ما لم تعه هذه الأنظمة، لتغير من نهجها، وتعدل من سياساتها الاجتماعية بسبب عدم قدرتها على انتهاج سياسات إصلاح تستفيد فيها من التجارب الرائدة لدول الجوار في هذا المجال، فتؤخر الثورة عليها ولو إلى حين.