حالة العدالة الاجتماعية بالمغرب

حالة العدالة الاجتماعية بالمغرب

فصل ضمن كتاب: العدالة الاجتماعية: المفهوم والسياسات بعد الثورات العربية

لقد شكل مطلب تحقيق العدالة الاجتماعية دافعا رئيسيا لخروج الشعوب العربية إلى الشارع قبل ثلاث سنوات، إلى جانب الإلحاح على شعاري الحرية والديمقراطية.

 إن الغرض من هذا المقال المقتضب هو عرض لتطور اشكالية العدالة الاجتماعية من زاوية السياسات العمومية بالمغرب مع التركيز على المرحلة الراهنة التي تتميز بوصول تيار الإسلام السياسي إلى الحكم بالمغرب بعد انطلاق الحراك الاجتماعي بمبادرة من حركة 20 فبراير 2011، وهي الصيغة المغربية لما سمي بالربيع العربي.

1-      مفهوم العدالة الاجتماعية

لقد ارتبط مفهوم العدالة الاجتماعية تاريخيا بتكافؤ الفرص في توزيع الدخل والثروة ومناهضة كل أشكال التفاوت الطبيعي والمجالي وإشاعة قيم التضامن والتكافل داخل المجتمع، كل هذا من أجل إحقاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لكل مواطن-ة. غير أن هذا التعريف العام ينقصه تحديد الميكانزمات والآليات التي تمكن من تفعيل العدالة الاجتماعية حتى تصبح واقعا ملموسا، وهذا يقتضي أولا: تحكم المجتمع في وسائل الإنتاج والتداول الإستراتيجية (الطرق والموانئ والسكك الحديدية والمطارات وطاقات القوى المحركة والسدود) وضع أسقف لملكية وسائل وأدوات الإنتاج لتأثير ذلك على تلبية الحقوق الاجتماعية، ثانيا: إعتماد سياسات عمومية في مجالات متنوعة كالإنتاج السلعي الرأسمالي والاستهلاكي وسياسات الأجور والأسعار وإعادة توزيع الدخل عبر السياسات المالية والاجتماعية المناسبة وتوفير الحماية الاجتماعية وإعادة تكييف السياسات الضريبية لتقليص الهوة بين الدخول والثروات والتشديد على التزام سياسات تعليمية تضمن تكافؤ الفرص أمام المواطنين والنهوض بالمساواة بين الجنسين.

2-      لمحة تاريخية عن تطور حالة العدالة الاجتماعية بالمغرب

غداة استقلال المغرب سنة 1956 أدى الصراع على السلطة بين أحزاب الحركة الوطنية والقصر إلى انفراد الملك الحسن الثاني بالحكم وقمع معارضيه. لقد حال هذا العامل السياسي الأساسي دون أن تحتل إشكالية العدالة الاجتماعية موقعا متقدما ضمن اهتمامات الدولة والمجتمع. ذلك أن طبيعة الحكم السياسي وانعدام المراقبة الشعبية للنشاط الحكومي مكنا فئة قليلة من المحظوظين والمتنفذين من الاستحواذ على الثمار الناتجة عن المبادرات والاستثمارات العمومية.

وإذا كانت سنوات السبعينيات قد شهدت اهتماما محدودا بالمسألة الاجتماعية –خاصة قطاع التعليم– بفضل الارتفاع المحسوس لأسعار الفوسفات بالسوق العالمية والانفراج السياسي الذي صاحب استرجاع المغرب للصحراء الغربية. فإن هذا الاهتمام اختفى تماما خلال الثمانينيات والتسعينيات نتيجة تطبيق سياسات التكيف الهيكلي واعتماد النموذج النيوليبرالي المبني على ثلاثية لبرلة الاقتصاد والخصخصة والتقشف على صعيد مالية الدولة.

لقد دفعت الطبقات الكادحة وفئات عريضة من الطبقة المتوسطة ثمنا غاليا من جراء تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي المزعوم، فبالإضافة إلى تفاقم ظاهرة البطالة اتسعت مظاهر التهميش والفقر، وعرف القطاع غير المنظم توسعا ملحوظا، كما عانت القطاعات الاجتماعية، خاصة التعليم والصحة من الضغط على الإنفاق العمومي، ويبقى رفع الدعم عن المواد الأساسية أو تقليصه من الأسباب المباشرة لتدهور القدرة الشرائية لفئات واسعة من المواطنين وانتشار الفقر والتهميش، مما أدى إلى اندلاع انتفاضات شعبية اجتماعية خلال الثمانينيات وبداية التسعينيات. ولم تنفع شبكات الحماية الاجتماعية الهادفة إلى تلافي أو تقليل الآثار السلبية لبرامج التكيف الهيكلي في الحد من الأضرار التي تكبدها الفقراء. وهذا راجع إلى الطابع الهامشي لهذه التدخلات وقلة الإمكانات المالية المرصودة لها وتعدد البرامج وضعف القدرات التدبيرية.

في نهاية التسعينيات ستعرف معالجة إشكالية العدالة الاجتماعية نوعا من الاهتمام بعد وصول المعارضة, المشكلة من أحزاب الحركة الوطنية إلى الحكم من خلال ما سمي (بحكومة التناوب التوافقي). وإذ بقيت هذه الأخيرة وفية للمرجعية الاقتصادية النيوليبرالية. إلا إنها وضعت إستراتيجية اجتماعية مندمجة تتضمن توسيع الولوج إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية لفائدة الشرائح الفقيرة من المجتمع، خاصة بالأرياف (إصلاح نظام التربية والتكوين، وتشغيل الشباب، ومحو الأمية، وتحسين وضعية الأشخاص المعاقين والطفولة، وتوسيع التغطية الاجتماعية، وإنعاش السكن الاجتماعي، الخ…).

ويهمنا التأكيد على أهمية مشروع (خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية) الذي اعتمد مقاربة حقوقية لقضية المساواة بين الجنسين، بعيدا عن المقاربة الإحسانية و(الاجتماعية) التي كان معمولا بها في السابق. وتضمن هذا المشروع أربعة محاور أساسية همت ميادين التربية والتكوين ومحاربة الأمية والصحة الإنجابية، وتعزيز الدور الاقتصادي للمرأة، والتمكين السياسي والقانوني للنساء، وخاصة عبر إصلاح عميق لمدونة الأحوال الشخصية.

ودون إنكار منجزات حكومة التناوب في مجال تعليم الأطفال وتعبيد الطرق والربط بشبكة المياه والكهرباء والشروع في إقرار نظام وطني للحماية الاجتماعية، والتمكين الذاتي للمرأة المغربية، فإن إشكالية العدالة الاجتماعية لم يتم معالجتها بشكل جوهري كما يدل على ذلك ترتيب المغرب في سلم التنمية البشرية (تراجع المغرب الى المرتبة 124 سنة 2004) بعد أن سجل تحسنا مؤقتا سنة 2001 بالارتقاء إلى المرتبة الـ112 في حين احتل المرتبة الـ15من بين 20 دولة عضوة في جامعة الدول العربية.

خلال السنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة، وبعد طي صفحة “حكومة التناوب”، اختارت السلطات بالمغرب التركيز على النمو الاقتصادي كهدف إستراتيجي مع إحداث آلية جديدة لمحاربة الفقر تحت اسم “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”. تتكون هذه المبادرة من عدة برامج: برنامج محاربة الإقصاء الاجتماعي بالوسط الحضري، وبرنامج محاربة الفقر بالأرياف، وبرنامج محاربة التهميش، وبرنامج أفقي للتنمية البشرية، وتعتمد مقاربة تشاركية مع جماعات الحكم المحلي والمجتمع المدني والقطاع الخاص.

بالرغم من الانجازات التي حققتها هذه المبادرة حيث تم تشييد أو اطلاق العديد من المشروعات لمحاربة الفقر، إلى أنها أظهرت مكامن قصور عديدة من بينها: محدودية الإمكانيات المالية مقارنة مع حجم المخصصات الاجتماعية، هيمنة الدولة على المشروعات وتهميش جماعات الحكم المحلي ومؤسسات المجتمع المدني، عدم تحقيق التقاء بين القطاعات والفاعلين المتدخلين في المبادرة، ثقل النظم الإدارية، اختلاسات وتلاعبات بالمال العام من طرف بعض الجمعيات واستغلال المشروعات المنجزة في إطار الحملات الانتخابية، عدم توفر عناصر الاستدامة المالية للعديد من المشروعات المساهمة المحدودة للنساء في المبادرة، إلخ.

3-      المرحلة الراهنة: التقشف “الى حساب العدالة الاجتماعية

أدت الانتفاضات الشعبية في منطقتنا العربية إلى الإطاحة بعدد من رموز الفساد والاستبداد وانعشت آمال الشعوب في تحقيق الكرامة والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وكما كان متوقعا انخرط المغرب بدوره في هذا الحراك العربي عبر حركة 20 فبراير حيث تعبأ الشباب المغربي مساندا بفئات اجتماعية واسعة رافعا نفس الشعارات ومطالبا بالقضاء على الاستبداد والفساد وزواج المتعة بين السلطة والمال.

 لقد نجم عن هذا الحراك المجتمعي تبني المغرب دستورا جديدا متقدما نسبيا عن سابقيه، لكنه أفضى في المقابل إلى وصول التيار المتأسلم إلى السلطة.

لقد كان من تبعات هذا التحول السياسي لصالح اليمين الديني تكريس الاختيارات النيوليبرالية التي كانت سائدة فيما قبل بل وتعميقها. ذلك أن الحكومة الجديدة اختارت اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للمساعدة على مواجهة الاختلالات الماكرو اقتصادية الداخلية والخارجية والتقلص الكبير في احتياطي العملة الصعبة. فتم تبني سياسات تقشفية صارمة بهدف تقليص عجز الموازنة العامة إلى 3% بحلول عام 2016, ودلك على حساب الاستثمار والتشغيل والعدالة الاجتماعية. وهذا يؤشر على دخول المغرب مرحلة جديدة من مراحل التكيف الهيكلي تشبه الى حد بعيد مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي. تتجلى أهم السياسات التي اعتمدتها الحكومة الإسلامية المحافظة في الالغاء التدريجي لدعم المواد الأساسية والضغط على الإنفاق العمومي، خاصة شقه الاجتماعي، كما تم تبني بعض الإجراءات الإيجابية كالتعويض عن فقدان العمل وتوسيع التغطية الصحية وعمل صندوق للتضامن الاجتماعي.

وقد شرعت الحكومة في التحرير التدريجي لأسعار الطاقة حيث ارتفع سعر البنزين بأكثر من 30 بالمائة مثلا منذ 2012، وتتوقع المندوبية السامية للتخطيط أن تؤثر هده الزيادات في الأسعار سلبا على الطلب الداخلي والنمو والتشغيل إذ سينخفض معدل النمو بـ0.15 بالمائة سنة 2013 و0.48 بالمئة سنة 2014، وستسجل أسعار الاستهلاك الداخلي زيادة بنسبة 0.37 بالمئة و1.1 بالمئة بالنسبة لنفس الفترة، بالمقابل سيتراجع معدل عجز الموازنة العامة بـ0.18 بالمئة سنة 2013 و0.58 بالمئة سنة 2014.

وجدير بالملاحظة إن الحكومة تراجعت عن وعودها بشأن استهداف الفئات الاجتماعية الأكثر فقرا لحماية قدرتها الشرائية من جراء تحرير أسعار الطاقة، ودلك يجعلها تستفيد من التحويلات النقدية الموجهة، بالمقابل سيتواصل مسلسل إفقار الطبقات الوسطى جراء رفع الدعم عن المواد الأساسية.

إن سياسة ما يسمى بإصلاح صندوق المقاصة تشكو في العمق من النظرة الاقتصادوية الضيقة التي تركز على التوازنات الماكرو اقتصادية على حساب التوازنات الاجتماعية، فالأولوية حسب خبراء المؤسسات المالية الدولية يجب أن تنصب على استرجاع ثقة المستثمر وتسديد الدين ولو على حسب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن-ة. فقيم العدالة والتضامن والتآزر وعدم التمييز تبقى عصية على التفكير الاقتصادوي الضيق الذي لا يؤمن إلا بالفرد كفاعل اقتصادي يبحث على تعظيم الملذات والربح في إطار أسواق تنافسية “حرة”.

من جهة أخرى، عرفت الميزانيات المخصصة للقطاعات الاجتماعية تراجعا ملحوظا منذ سنة 2012 جراء الضغط على الإنفاق العمومي مما ينذر بأوخم العواقب على النمو الاقتصادي وعلى شرائح واسعة من المجتمع المغربي، وخاصة النساء والأطفال، فتقليص ميزانيات التربية الوطنية والصحة على سبيل المثال لا الحصر سيؤثر سلبا على المدى المتوسط والبعيد على إنتاجية العمل وبالتالي سيقلص من مستويات النمو المرتقبة. كما أن هذه السياسة التقشفية تجعل تحقيق بعض أهداف الألفية للتنمية كخفض نسبة وفيات الأمهات عند الوضع بثلاثة أرباع في أفق سنة 2015 وخفض نسبة محو الأمية إلى 20% صعبة المنال. والحال أن الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للنساء بالمغرب جد مزرية كما يتضح من تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي حول سد الفجوة بين الجنسين إذ يحتل المغرب المرتبة 129 من بين 135 دولة.

وبغية التقليل من هذه التداعيات السلبيات، اقدمت الحكومة على الرفع من الاعتمادات المخصصة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية ومضاعفة الموارد المرصودة لصندوق التضامن الاجتماعي الذي أستحدث سنة 2012 لتسريع عملية تعميم نظام المساعدة الطبية (راميد)، وكذا توطيد وتوسيع قاعدة المستفيدين من برنامج “تيسير” للمساعدة المالية المشروطة المباشرة وعملية “مليون محفظة” لفائدة الأطفال المعوزين.

لا شك أن انطلاق عملية تعميم “راميد” يعد من أهم المبادرات التي اقدمت عليها حكومة “حزب العدالة والتنمية” حيث تم نظريا توفير التغطية الطبية لـ6.4 مليون مستفيد، أي بنسبة 77% من الفئات المستهدفة. غير أن اختلالات عميقة تحد من فعالية هذه المبادرة خاصة ما يتعلق بقلة الموارد البشرية والمالية المتوفرة بالمؤسسات الصحية وصعوبة ضمان موارد مالية مستدامة لنظام “راميد” نظرا لعدم قدرة المستفيدين وجماعات الحكم المحلي على المساهمة المالية في تمويل المشروع بالاضافة إلى التلاعبات التي طالت عملية استهداف وتسجيل المستفيدين.

من جهة أخرى، تم الشروع في تقديم تعويض عن فقدان الشغل ابتداء من يناير 2014، وإن كان محدودا ويغطي مدة لا تتجاوز ستة أشهر.

ويبقى ملف التشغيل من النقط السوداء في رصيد الحكومة الإسلامية المحافظة التي وعدت بتقليص نسبة البطالة من 9.2% إلى 8%، والحال إن الاحصائيات الأخيرة تشير إلى ارتفاع هذه النسبة إلى 10.2%. ويعود هذا الإخفاق إلى عدة عوامل أهمها التراجع المحسوس في الاستثمارات العمومية نتيجة الضغط على الإنفاق العام ومحدودية البرامج المطبقة لتنشيط سوق العمل وفقدان الصناعة التحويلية لعشرات الآلاف من فرص العمل من جراء تأثيرات اتفاقيات التبادل الحر.

في الخلاصة، يتبين من التحليل الدي قمنا به أن إشكالية العدالة الاجتماعية لم تأخذ على محمل الجد من طرف الحكومات المتعاقبة على السلطة مند استقلال المغرب، وهذا راجع بالأساس إلى الاختيارات الاقتصادية والسياسات الليبرالية (القديمة والجديدة) التي تم اعتمادها ورغم هبوب رياح الربيع العربي، ما زالت دار لقمان على حالها، بل استفحلت بعض مظاهر الاقصاء كالبطالة والتفاوتات الطبقية وانحدر تصنيف المغرب بالنسبة لمؤشر التنمية البشرية الى المرتبة 130.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart