ما العمل في مسألة ساحل بيروت والرملة البيضا؟
أثناء قراءتكم لهذا المقال، تستمر الشاحنات في نقل الرمل وتشويه المشهد الطبيعي لآخر شاطئ رملي عام في مدينتنا. بالفعل، بيروت في طريقها لتصبح المدينة المتوسطية الأولى التي لا شاطئ لها. سندخل أخيراً في كتاب غينيس للأرقام القياسية إثر تميّزنا بتطوير كل متر مربع من شواطئنا الرملية وساحلنا الصخري. لم يتبقى الكثير من الوقت للتحرك لمن هم مثلنا يحملون رؤية مختلفة لمستقبل الشاطئ.
لا يبدو أنّ المسؤولين مهتمين لهذا الاحتمال، ويبدون عاجزين، تماماً كمن يعرف بحصول زلزال ولا يستطيع التصرف حياله. يريدون اقناعنا بأنّ التخلي عن الأملاك العامة الذي حصل بسبب تفسيرهم لحقوق الملكية وقواعد البناء أمر لا يمكن تجنبه، تماماً كالكارثة الطبيعية. لكن الاستعراض العام للعجز هذا فقد كل مصداقيته: الصفقات باتت أكثر فضائحية في خرقها للقوانين اللبنانية بحيث لم يعد أحد يصدقهم. وقد ضاق ذرع معظم سكان المدينة بقطاع العقارات القوي الذي يأخذ مؤسسات الدولة رهينة. أقلية شجاعة من بين هؤلاء لا تزال تناضل، وتستخدم كل الأساليب المتاحة لها، ومن ضمنها العرائض والحملات والاحتجاجات والتقاضي الاستراتيجي وغيرها، للمحاربة من أجل حماية ما تبقى من الشاطئ. في الواقع، من المعروف جيداً أن الانشاءات كتلك التي يوافَق عليها الآن على ساحل المدينة هي ممكنة فقط لأن نفس هؤلاء المسؤولون العامون يعقدون الصفقات ويصدقون على التراخيص وراء الأبواب المغلقة للوزارات، ومكاتب التخطيط، والبلدية؛ تراخيص تدخل في إطار سلسلة من الإجراءات قد حوّلت واحدةً تلو الأخرى الفضاءات العامة لواجهة مدينتنا البحرية إلى مساحات خاصة مغلقة.
لكن لماذا يتم تطوير الشاطئ العام الأخير في المدينة من قبل شركة خاصة؟ ولماذا تحاجج كل من وزارات السياحة والبيئة والأشغال العامة، كما والسلطات المحلية والمختصة بالتخطيط، بأنّه لا يمكن تفادي هذا المشروع؟ بوصفي باحثة تركّز على التخطيط المدني، سعيت في الأشهر الثلاث الماضية لجمع أي ملفات قانونية أو تاريخية قد تساعد في الكشف عمّا حصل فعلاً في الرملة البيضا (١). الخلاصة الأساسية التي توصلت إليها من خلال هذا البحث هي انعدام الشفافية في السجلات العامة واتسامها بتناقضات متعددة. فقد وجدت مثلاً قانوناً يعود للعام ١٩٢٥ (١٤٤س) ينص بشكل واضح على أنّ كل الشواطئ الرملية هي أملاك بحرية عامة ولا يمكن بيعها أو شراؤها، ولاتُكتسَب ملكيتها مع مرور الزمن. ثم وجدت سجلاً للممتلكات يعود للعام 1933يزعم وضع شواطئ بيروت الرملية باسم بضعة أفراد. كذلك وجدت نص قانوني من العام ١٩٥٤ تنص إحدى مبادئه الأساسية على منع البناء في كل المناطق ما بين الكورنيش البحري والبحر، تليه تغييرات ومراجعات واستثناءات واعفاءات وتحفيزات وتعديلات عدّة، تعكس مبدأ الحماية، وتعزز الاستغلال، وتشجع على الخصخصة. اتخذت هذه التغييرات أشكالاً مختلفة، مثل النصوص والمراسيم القانونية، والخطط المصّدقة، والقرارات الرسمية، وأو الترتيبات غير الرسمية. تم عكسها في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى تم اعتمادها. لم تكن بالضرورة متسقة، وكلما اعتقدت أنني اكتشفت أمراً ما، وجدت المزيد من “الوثائق السرية”، والمراسيم المخفية تحت عناوين أخرى، وغيرها الذي لم ينشر قط في السجلات الرسمية، وتبادلات عقارية لم يتم تسجيلها، وسجلات رسمية لا توثّق التاريخ المتنازع عليه للحصص، وتدابير تجميع الحصص التي اعتمدت بشكل متعمّد للالتفاف على قيود البناء المعتمدة مسبقاً، والطرقات التي تظهر في الصور الجوية ولكن ليس على الخرائط، والمزيد المزيد من القطع المفقودة.
لذا استنتجت أنّ هذه السجلات هي ببساطة انعكاس لعدم تناسق علاقتي مع المسؤولين العامين. عدم تناسق متجذر في اعتماد الضبابية المتعمّدة للسجلات لقطع الطريق مسبقاً على امكانية صياغة المطالبات والشكاوى المدعّمة بوثائق قانونية من قبل سكان المدينة.
بالتالي استنتجت أنّه حان الوقت لتغيير بنود النقاش. حان الوقت لدفع المبادئ الأساسية التي وضع وفقها العقد الاجتماعي الخاص بمجتمعنا إلى المقدمة: الحق في المدينة والواجب الأخلاقي لكل مسؤول منتخب بالدفاع عن حقوق الأغلبية الحضرية. حان وقت تدعيم المبدأ الأساس هذا بالقرارات الجذرية التي تشكل العمود الفقري لأنظمتنا القانونية، أي النصوص الأولى التي تحدد ما هي الملكية العامة (المرسوم رقم ١٤٤س لعام ١٩٢٥).
حان وقت إعطاء الأسبقية للممارسات المشتركة لسكان المدينة على طول الشاطئ، من عين الجناح إلى عين المريسة، مروراً بالرملة البيضا والدالية (٢)، ورفض التضحية بأفكار وأحلام التسعة والتسعين بالمئة من الناس بسبب مطامع الواحد في المئة في الأملاك العامة.
حان وقت الاعتراف، وفق ما لطالما تم ترسيخه عبر كتابات حركة “القانون والمجتمع”، أنّ الإنسان هو من يضع القانون، وأنّ القانون سيعكس بالتالي مبادئ وقيم، كما وغلباً أيضاً مصالح، هذا الإنسان. بالتالي، إذا أصدر المراسيم مستثمرون جشعون لا يهتمون سوى بمصلحتهم الخاصة ومتلاعبون لا يكترثون بأنّ ساحل لبنان لشعبه، فإنّ هذه القوانين ستستخدم فقط لتبرير انتزاع ملكية هذا الشاطئ. فقط حين يكون لدينا مشرعون ذوو ضمائر، وخاضعين للمحاسبة يمكن لقوانيننا أن تعكس مبادئ التخطيط المدني وتخطيط الفضاءات العامة التي نعرف أنّها الأفضل لمدينتنا وسكانها. سكانها الذين فرضوا منذ العهد العثماني، مروراً بالانتداب الفرنسي ووصلاً إلى الاستقلال، بقاء ساحل المدينة مجالاً مشتركاً، غير قابل للتصرف به، مفتوح للجميع، وبالطبع مغلق أمام أي منشآت.
لقد حان الوقت كي يتذكر صانعو القرارات أنّهم، بمعزل عن أي دور يرغبون بلعبه، حماة الصالح العام. وإذا شعر هؤلاء المسؤولين بأنّهم فعلاً يمثلون 99 في المئة من الشعب وليس لديهم هامش للتحرك، عليهم عندئذن استخدام عدد من الأدوات القانونية والتخطيطية البسيطة:
1. على وزارة الأشغال العامة والنقل، وهي الوصية على الأملاك البحرية العامة في لبنان، الشروع بإجراء مسح لتحديد حدود المجال البحري وفق أحكام قانون عام 1925، الذي يعتبر ساحل المدينة بشواطئه الرملية والصخرية مجالاً عاماً غير قابل لأن تحَّول ملكيته لأحد. أكثر من ذلك، على الوزارة العودة عن كل تراخيص الاستثمار التي منحتها عبر السنين لمستثمري القطاع الخاص ووضع إستراتيجية لإزالة كل التعديات الأربعين على ساحل المدينة. بالإضافة إلى ذلك، على الوزارة التعهد بعدم منح أي تصاريح جديدة لمشاريع تعيق الوصول إلى الشاطئ.
2. على بلدية بيروت، بمجلسها ورئيسها، رفض منح أي ترخيص للبناء على ساحل المدينة وفقاً لقانون البناء (المادة 13) الذي يسمح لهذه السلطة المحلية رفض منح ترخيص لبناء قد يشوه البيئة الطبيعية. كذلك على المجلس البلدي أن يجتمع ويتفق على إرسال طلب رسمي لمديرية التنظيم المدني لتغيير نسب الاستثمار على ساحل المدينة، والعودة إلى تلك المحددة عام 1954 والتي تمنع البناء على الساحل. كذلك يمكن للبلدية الطلب من وزارة الداخلية والبلديات اللجوء للشرطة لإنفاذ قانون البناء، الذي يفرض عليها هدم المباني المخالفة، وإزالة كل التعديات الحالية التي تحجب المنظر البحري في المدينة.
3. على المديرية العامة للتنظيم المدني إصدار قرار – وفق قانون البناء للعام 2004 – بالتجميد الفوري لكل الإنشاءات على طول الساحل والعمل به لفترة ثلاث سنوات، لحين إقرار قانون جديد. بالإضافة إلى ذلك، يجب إعادة اعتماد نسب استثمار العام 1954 لأنها تحمي الساحل بأكمله من البناء، وإلغاء كل مراجعة أو استثناء أو محفّز قد استخدم لتشريع البناء على الساحل مذّاك.
4. على وزارة البيئة وضع استراتيجية لحماية ساحل المدينة وإعادة تأهيل كل أشكال الحياة من حوله، وصياغة القوانين اللازمة لتطبيقها، وبناء القدرات المؤسسية لإنفاذها. أثناء ذلك، على الوزارة الامتناع عن الموافقة على أي دراسة للأثر البيئي قد تدّعي أنّ البناء على ساحل المدينة لا يؤدي إلى أي تأثيرات بيئية سلبية هامة.
5. على وزارة الداخلية إلغاء كل الاستثناءات المكانية الخاصة التي منحتها وحداتها وغيرها، والبدء بعملية شاملة لإزالة ما يزيد عن الأربعين انتهاكاً على ساحل بيروت.
6. على نقابة المهندسين والمعماريين احترام الموقف الأخلاقي للمهنة واسترجاع كل إذن لممارسة المهنة من كل مهندس مناظر طبيعية، ومهندس معماري، ومهندس مدني، و مصمم حضري ، مستعد لوضع اسمه/ا على ترخيص بناء يهدد سلامة الساحل.
7. على مجلس الإنماء والإعمار اتباع توصيات خطته الوطنية لتطوير خطة لاستخدام الأراضي الساحلية والضغط على مديرية التخطيط المدني لتطوير هذه الخطة مع التأكيد على تقديم الطبيعة والناس على الربح.
8. على البرلمان أن يمارس مهامه الرقابية من خلال الضغط على مجلس الوزراء وجميع الوزارات لإنفاذ التشريعات التي تحمي حرمة ساحل المدينة واملاكها العامة، وتضمن احترام قانون عام 1925. وينبغي عليه أيضاً العمل على وضع تشريع جديد يعكس الضرورات البيئية الحالية كما وتعزيز التدابير الرامية إلى حماية الواجهة البحرية للمدينة.
9. أخيراً، على جميع الموظفين العموميين، سواء كانوا نواب أو وزراء أو غيره، أن يصرحوا عن مصالحهم الخاصة على الساحل، بما في ذلك حيث هم أو وأفراد من أسرهم لديهم سندات ملكية و/ أو حيث هم مساهمين في مشاريع انشاءات. علاوة على ذلك، عليهم الامتناع عن المشاركة في أية عملية اتخاذ قرار حول مستقبل الساحل لاسيما عندما تشكل مصالحهم الخاصة تضارباً في المصالح قد يؤثر على نحو غير ملائم في نتائج عمليات التصريح.
باختصار، هناك العديد من التدابير التي يمكن ويجب على مؤسسات الدولة وحتى المؤسسات غير الحكومية اتخاذها لحماية شواطئ المدينة لصالح سكانها. حتى ذلك الحين، وإلى أن تتخذ كل من هذه المؤسسات قراراً بالوقوف إلى جانب التسعة والتسعين بالمئة من الناس، على المسؤولين، منتخبين كانوا أو معيّنين، أن يعرفوا أنّ التاريخ سيعتبرهم مذنبين بالاعتداء على بيروت وسكانها، والتنسيق لإخفاء أدلة الجريمة، واختراع التبريرات ليتغاضى الناس عما يحصل.
(١) عملت مع مجموعة من الباحثين والطلاب والزملاء، وغيرهم ممن هم مهتمون بالقدر نفسه في حماية ساحل المدينة. لكني اتحمل كامل المسؤولية عن كل ما يرد من حجج ومواقف في هذا المقال.
(٢) أنظر بكداش وساسو، ٢٠١٥، في ممارسة العام، فواز، غربية، سقسوق -ساسو، بكداش، للمزيد عن هذه الفضاءات العامة.