الأكثر فقرا .. الفئات المستضعفة في المجتمع تواجه تحديات البقاء في سوريا
تم تحضير هذه الدراسة بالاعتماد على المعلومات التي يوفرها المواطنون السوريون العاديون، وهم يتحدثون عن الأوضاع في قراهم ومدنهم، عن معاناتهم ومخاوفهم ونظرتهم للمستقبل، كما تمت الاستفادة من التقارير الدولية حول الاحتياجات الإنسانية في سورية.
وسنقوم بنشر سلسلة من التقارير لنلخص الوضع الإنساني في سورية، نركز فيه على تحليل ورؤية مستقبلية للاحتياجات الطارئة، وسيركز كل جزء من الدراسة على قطاع معين وفئة اجتماعية معينة من السكان.
يختص الجزء الأول من الدراسة بتلخيص عام للوضع الإنساني في سورية وخاصة بما يخص الفئات الاجتماعية الأكثر فقرا، أو كما تسميها المنظمات الدولية الفئات الضعيفة/ الفئات المستضعفة / الفئات المهمشة/ الفئات الحساسة/ الفئات الهشة، أو ذات الحاجات الخصوصية.
وتعرف المنظمات الدولية الفئات الاجتماعية الخاصة، كما أرغب أن أسميها بأنها ” المجموعات التي تواجه مخاطر أكبر من الفقر والاستبعاد الاجتماعي من عامة السكان، والنساء اللواتي يعلن الأسرة، والأطفال الأيتام، والعاملون والمشردون، والأشخاص ذوو الإعاقة (المعتمدون على الغير)، والمرضى (المعتمدون على الرعاية الصحية الدائمة)، وكبار السن، بالإضافة الى الفئات الأكثر فقرا في المجتمع التي تواجه صعوبات في كثير من الأحيان يمكن أن تؤدي إلى مزيد من الاستبعاد الاجتماعي، مثل انخفاض مستويات التعليم والبطالة أو العمالة الناقصة.
وقد تم تحديد الفئات المستضعفة على أنها:
· الفئات التي لا تستطيع أن تنخرط في النسيج الاجتماعي، لأنها لا تستفيد من الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، والتي لم تتح لها الفرصة التي أتيحت لغيرها في المجتمع ولم تستفد منها، وهي فئات تعاني من التجاهل أو الاستبعاد .
· أو هي تلك الفئات التي تعاني من قصور في إشباع الحاجات الاجتماعية والاقتصادية والصحية والتعليمية، ولا تستطيع تحقيق المستوى المعيشي المعقول، وتفتقر إلى وجود مورد ثابت يساعدها في إشباع احتياجات أفرادها الرئيسة، ومن ثم تصبح تلك الفئات بحاجة إلى توفير نسق متكامل من الخدمات المادية والعينية لمواجهة متطلبات الحياة اليومية.
· هي تلك الفئات التي غالبًا ما تعولها امرأة غير قادرة على العمل، أو طفل يعمل عوضا عن الذهاب إلى المدرسة، أو رجل من كبار السن لا يتوفر له الضمان الاجتماعي. هي الأسرة التي تعجز عن سد احتياجاتها الأساسية وتفتك بها الأمراض المزمنة وأنواع من الصعوبات الاجتماعية المختلفة.
نقصد مما سبق إلى توضيح المفهوم والفئات التي سنتحدث عنها بشكل سريع في هذا الجزء من الدراسة، وسنخصص بحثا كاملا لكل فئة منهم. وكما ورد في التعريف السابق نجد أن عدد الأشخاص من ذوي الفئات المستضعفة أو المهمشة في سورية بازدياد مستمر، حيث تزداد النساء اللواتي يعلن الأسرة عندما يستشهد معيل الأسرة، أو يعتقل، أو يختفي قسريا. ويزداد عدد الأطفال الأيتام والمشردين والعاملين، وتزداد بشكل فادح أعداد ضحايا الحرب من الأشخاص ذوي الإعاقة وغيرهم بالإضافة إلى ملايين من النازحين واللاجئين …ونجد أنفسنا عوضا عن التكلم عن فئات مهمشة نتكلم عن فئات أصبحت غالبية لدى المجتمع السوري بسبب سياسات الأرض المحروقة والتهجير القسري التي يرتكبها نظام يقتل شعبه، وينتهك كافة حقوقه السياسية والمدنية والاجتماعية والصحية والتعليمية … قد تكون سابقة في كتب التاريخ وقد تستدعي أن تسجل في كتاب (جينس للتوثيق) بأن النظام الأسدي كان الأول في قتل شعبه وتدميره بكافة أنواع الأسلحة وحتى المحرمة دولياً، النظام الذي ساهم في ازدياد الفئات الاجتماعية المهمشة والمستضعفة.
إن الأمور الإنسانية في سورية بشكل عام مترابطة ومتداخلة، ولا يمكن فصلها عن الوضع السياسي والأمني العام، وهنا أؤكد أننا نريد أن نكون عمليين، ونبتعد ما أمكن عن المصطلحات التقليدية المستعملة في التقارير الدولية، ونتكلم بشكل ميسر وحقيقي وأقرب إلى الواقع منه إلى التنظير والمقارنة، نعم نريد أن نصف الواقع الحقيقي من خلال ما يقوله عامة الناس وليس الأسلوب الذي تعتمده الدراسات الدولية النظرية التي تستخدم لغة حيادية خوفا من الواقع المؤلم، وخوفا على الدبلوماسية وحرصا على إرضاء جميع الجهات. ما نريده هنا هو الحقيقة من وجهة نظر الناس العاديين الذين قابلتهم وأقابلهم يتكلمون عن معانتهم بلغتهم البسيطة التي تصف ما يحصل في سورية بدون تجميل أو تزييف.
ونبدأ من تحليل بعض الخبراء السوريين من توصيفهم للواقع الإنساني في سورية قبل الانتقال إلى الناس العاديين بهدف إغناء الدراسة من قبل أفكار جميع السوريين: قال أحد الخبراء الوطنيين (الوضع الإنساني خطير ومروع في سورية، هناك تدهور سريع للوضع الإنساني، وصعوبة الحصول على الطعام وعلى المياه الصالحة للشرب والوقود من قبل المواطنين، كما يعاني المواطنون من نقص حاد في الوقود وفي الغاز الذي تحتاجه المنازل، إضافة إلى انقطاع المياه لفترات طويلة واختفاء المواد الغذائية الأساسية كالخبز من الأسواق)، وقال خبير سوري آخر (في بعض المناطق يزداد الوضع الإنساني سوءا بسبب تدمير وهدم مناطق سكنية كاملة، ما يحول دون عودة النازحين داخليا إلى ديارهم التي تهدمت).
وقد أعلنت جهات الإغاثة في سورية ممثلة باللجنة الدولية للصليب الأحمر أنها أصبحت عاجزة عن مواجهة تفاقم الوضع الإنساني في سوريا. وقال رئيسها “لا يمكننا تطوير عملياتنا بسرعة كافية لمواجهة تفاقم الوضع الإنساني في سوريا”. وأضاف إن “هناك العديد من النقاط التي لا تصل إليها أية مساعدة ولا علم لنا بالوضع فيها ولا بعدد الناس المعنيين… إن المعارك تتطور ما يؤدي إلى مزيد من الجرحى ومزيد من الأوضاع المتأزمة”، مشيرًا إلى أن دخول مناطق عديدة ما زال مستحيلاً والمعلومات عن الوضع فيها قليلة جدًا. وأوضح أن المنظمة الدولية تمكنت من تسهيل وصول مساعدات إلى سوريا منذ الصيف وإدخال شاحنات لنقلها وبلوغ مناطق كان لا يمكن الدخول إليها مثل اثنين من أحياء حمص. لكنه أشار إلى أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر لا تستطيع الدخول إلى حلب مثلاً. فقد قال مسؤول اللجنة الدولية في سوريا المعني بمشكلة توفير المياه “إن الملايين أصبحوا معرضين للخطر في ظل النقص الحاد للمياه الصالحة للشرب في مختلف مناطق البلاد”.
لقد ظهرت في سورية مؤخرا عدد من اللجان المجتمعية والجهات التي تقدم الإغاثة إلى المواطنين، وتتعاون مع التنسيقيات المحلية والهيئات الثورية من أجل توفير الدعم الإنساني للنازحين، حيث يقيم حوالي مليوني نازح في المدارس التي توقفت عن العمل “إن حوالي ألفي مدرسة وغيرها من المباني العامة تستضيف النازحين السوريين وتفتقد التدفئة الكافية والصرف الصحي”. قال أحد عمال الإغاثة السورين “إن الوضع يتزايد صعوبة في الحصول على الرعاية الطبية، وذلك بسبب النقص في الموظفين والإمدادات، فضلاً عن الأضرار التي لحقت بالمرافق، بالإضافة إلى التعرض المباشر للعنف غير المسبوق”.
وتتحدث تنسيقيات الأطباء والمشافي الميدانية عن قلقها الشديد إزاء تدهور الوضع الصحي في سوريا، ويشير عدد من الأطباء السوريين “إلى صعوبة وصول المرضى و موظفي الرعاية الصحية إلى مرافق الرعاية الصحية إضافة إلى النقص الحاد في الإمدادات الطبية والموظفين العاملين في الحقل الصحي”. كما أشار الأطباء إلى تزايد عدد المصابين من النساء والأطفال نتيجة لتزايد العنف واستعمال البراميل المتفجرة والقنابل العنقودية وارتكاب المجازر وجرائم الحرب، حيث تحدثوا عن إصابات لم يعرفوها في حياتهم وإعاقات شديدة وجروح يصعب علاجها مما يضطرهم لبتر أعضاء من الجسم من أجل الحفاظ على حياة الإنسان. ليس هذا فقط، لقد تحدث لي أحد أطباء حلب (إن الموت أصبح سهلا جدا في سورية ومن أبسط الأمراض، حيث يمكن للرشح والزكام أن يصبح سببا للوفاة عندما يتعرض المريض للصقيع ويصعب توفير الدواء والغذاء ويتحول رشح بسيط إلى مرض مزمن)
كما يتهم الأطباء السوريون قوات النظام بقصف المناطق المأهولة بالفوسفور الأبيض الذي يعتبر استخدامه جريمة حرب وفقا لاتفاقيات جنيف. وأضافوا أن عدة حالات لاستخدام الفوسفور الأبيض في حلب وإدلب وحمص ودير الزور وريف دمشق ضبطت خلال الشهر الجاري، وتم توثيقها بمقاطع فيديو. كما بثت أشرطة فيديو عن استخدام غازات الأعصاب وغازات سامة في البياضة في حمص، لم تعرف بعد، ولكن آثارها كانت واضحة على الجرحى في المشافي في عدم الرؤية والشلل الكامل للجسد. وتستمر قوى النظام الأسدي في استعمال أسلحة خطرة وفتاكة في كل يوم بشكل يزيد من عدد الجرحى والأشخاص ذوي الإعاقة لدرجة تفوق قدرة أي جهة لتوفير الرعاية الصحية والطبية. وهناك صعوبة كبيرة في إدخال المواد الطبيبة أو الغذائية حيث هناك تراجع كبير في المواد الضرورية للحياة.
عندما سألت بعض النازحين عن (الوضع الإنساني في سورية) ضحكوا بمرارة و قالوا (إنساني) أي إنساني (إننا نتجمد من البرد، ونرى أطفالنا يموتون أمام عيوننا، ونحن غير قادرين حتى على الصراخ من الألم)، الوضع يزداد سوءا كل يوم وعدد النازحين والمهجرين داخل سورية بازدياد ( حوالي مليونان) يسكنون في حوالي ألفي مدرسة ومبان عامة مختلفة، لا تتوفر فيها أبسط متطلبات الحياة، والباقي يسكن مع الأصدقاء والأقارب. وقد وصل عدد اللاجئين إلى 700,000 ألف في الدول المجاورة ومن المتوقع أن يزداد عدد اللاجئين كلما ازدادت حدة العنف والقتل والتهجير القسري. عندما سألتهم لماذا تتركون بيوتكم قالوا (إنهم يقتلوننا ويمثلون بالجثث أمام الأطفال، إنهم (أي الشبيحة) يتبعون سياسات العقوبات الجماعية، إنهم يركعوننا ويضطهدوننا، ويعذبوننا أقسى أنواع التعذيب، لنعود عن ثورتنا، يداهمون منازلنا يوميا، ويتحرشون بالنساء بحجة التفتيش ويعتقلون شبابنا ويطردوننا من بيوتنا، التي يحتلها الأمن والشبيحة، لتصبح مراكز اعتقال وتعذيب ومراكز عمل لهم، إنهم يجبروننا على الرحيل والتشرد والنزوح، هل تعتقدين أن أحدا يريد أن يترك بيته ورزقه الذي عمل طوال حياته من أجل بنائه، إنهم يجبروننا على النزوح من بيوتنا إلى الخلاء، ولا نجد مفرا من الهرب إلى الدول المجاورة قالت أم مصطفى (لا يرغب أي إنسان في العالم أن يصبح لاجئا)
ووصفت فاطمة معاناتها ( إننا نعاني من فقدان أوراقنا الثبوتية) (رحلنا بسرعة ..تركنا منازلنا وأغراضنا وكل شيء.. لم نتمكن من أخذ أي أوراق، شهادات الميلاد، الهويات أو جوازات السفر، عقد الزواج، الشهادات التعليمية، وثائق المدارس… أوراق تثبت ملكيتنا للمنزل وغيرها ….لقد تهدم المنزل وأحرق كل شيء فيه، ولم يبق لدينا أي شيء ولا حتى هوية تؤكد شخصيتنا) … البعض الآخر تكلم عن سرقة أملاكه الشخصية بعد تدمير البيوت، قال أحمد (يأتي الشبيحة ويسرقون كل شيء …الكنبة والكرسي وكل ممتلكاتنا ..عندما صرخنا إنها أغراضنا أجابونا: يمكن أن تشتروها من سوق البلدة !)
ويصف العديد من الأهالي معاناتهم في فصل الشتاء في المخيمات التي يأكلها الصقيع، وانخفاض درجات الحرارة التي تصل لما يقرب من درجة التجمد. ويقول عدد منهم “إن الناس في حاجة ماسة إلى الأدوية والرعاية الصحية والمأوى والمواد التي يحتاجونها للشتاء ومياه الشرب، والوقود، ومواد أخرى، إننا نموت من البرد”.
يعبر الأهالي بشكل أساسي عن افتقارهم للحماية، وعندما سألت بعضهم ماذا تقصدون بالحماية أجابت صالحة (الحماية من الموت، الحماية من القتل والملاحقة، الحماية من الاعتقال، الحماية من التعذيب، الحماية من البرد والصقيع، الحماية من المرض، الحماية من الاستغلال!!!) نعم يتعرض الكثير من النازحون واللاجئون الى أبشع انواع الاستغلال !! وهذا يتطلب بحثا آخر لما للموضوع من حساسية كبيرة فقد ظهرت آفات اجتماعية كثيرة وعصابات كثيرة وجهات كثيرة تريد ابتزاز واستغلال النازحين واللاجئين كما يحصل في كل الحروب. لقد ظهر تجار الحروب (وهم من الشبيحة المنشقين عن النظام للعمل لحسابهم الخاص) وأسسوا عصابات تقوم بالخطف ونهب الممتلكات واستغلال كل ما يمكن استغلاله.
قالت أم مصطفى ( أين نذهب لا نملك مالا، لا نملك أي شيء…عندي خمسة أطفال ، ولا يوجد أي أحد بيننا قادر على العمل، أجبرونا على ترك بيوتنا بالقوة، وفقدنا جيراننا وأصدقاءنا والأقرباء الذين كانوا يحموننا، إنهم يزجون بنا في قلب الحرب وقلب النار، يقول الشبيحة لنا إن الأراضي المحيطة بنا مزروعة بالألغام ويدفعوننا أو يهجروننا باتجاه مناطق معينة، يتم فيها استغلالنا ..نعم استغلالنا بكل الطرق والوسائل ولا أريد أن أتكلم أكثر)
هناك عدد كبير من الأطفال الذين فقدوا أسرهم وعائلاتهم … وأصبحوا مشردين وأيتاما … البعض وجد من يهتم به .. والبعض تشرد في الشوارع. هي ظاهرة أصبحت كبيرة جدا في سورية … أطفال الشوارع في كل مكان تسألهم عن أهاليهم ..أكثرهم لا يعرف كيف اختفى أهله وكيف ضاع منهم، قال يوسف ( كان الكل يركض ..الطائرات تقصف …والجيش يلحق بنا ..هربنا ..ركضنا وفجأة وجدت نفسي وحيدا ..بحثت عن أهلي لم أجدهم …احضرني بعض الأشخاص إلى هنا، إلى مكان فيه عدد كبير من الأولاد، كان الناس يأتون ليأخذوا أطفالا، خفت منهم كانوا يبحثون عن الفتيات ، ربما سيشغلونهم خدما ..لا أعرف هكذا سمعت ولهذا هربت ..أين أنام؟ في مدخل البناية أي بناية وأحاول أن أبحث بين إشارات المرور بين السيارات عمن يقدم لي قروشا لأشتري طعاما)
في كل الحروب نجد الأطفال يندفعون للعمل في أسوأ أشكال عمل الأطفال والأعمال الخطرة وهذه ظاهرة عالمية إلا أن ما يحدث في سورية تجاوز الظروف في كافة دول العالم، لقد برزت ظواهر سيئة جدا من بيع الأطفال والاتجار بهم وتشغليهم خدما أو في أعمال الجنس في الدول المجاورة حيث انتشرت شبكات الاتجار بالأطفال..
كما تعرضت الكثير من الفتيات للاغتصاب والتحرش الجنسي ولكافة أنواع الاستغلال حيث ينشط تجار الحروب والعصابات التي تستغل ثورة الحرية من أجل المتاجرة بأرواح وأعراض البشر ..هؤلاء الشبيحة الذين يستغلون كل شيء ممكن من أجل استغلال المواطنين، ويقولون لهم (هذه هي الحرية التي تريدون). قالت أم هيثم (إن المخابرات تدعم والشبيحة وعصاباتهم إنهم يتقاسمون المال).
يواجه الأطفال الذين باتوا جزءاً من هذا الصراع الدائر، الخوف والحزن، يشاهدون الأحداث المأساوية الدامية التي من شأنها أن تثير في نفس الطفل الرعب والهلع والضغط النفسي الذي يتزايد يوماً بعد يوم. فما يشهده الطفل من حالات قتل وجثث مشوّهة وغيرها، غالباً ما يخزنها في ذاكرته. وتنعكس هذه الصور المؤلمة على مشاعره التي تصبح مليئة بالخوف وعدم الشعور بالأمان والكراهية والشك والإحباط والقلق المستمر. إن أطفالنا في مخيمات النازحين واللاجئين يعيشون في ظروف غير طبيعية من المعاناة والحرمان والرعب والفقر وشبه انعدام التعليم والبرد والصقيع.
أطفالنا يعيشون معنا موجات متقلبة ومتتالية من التحدي والقلق والخوف والحزن والتضحية. وإن كان النظام قد أمعن قتلاً وإرهاباً بأطفال سوريا، فالكثير من جهات الإغاثة تعمل من أجل توفير الظروف المناسبة كي ينشأ الأطفال في بيئة حرّة وبعيدة عن ثقافة الموت والقتل.
أما عن جرحى الحرب أو كما يسمونهم ضحايا الحرب (الأشخاص ذوو الإعاقة) يطول الحديث عنهم وعن مآسيهم ومعاناتهم وآلامهم، وسنخصص دراسة خاصة لهم. هناك مئات الآلاف من الجرحى الذين يتحولون إلى أشخاص معاقين مدى الحياة بسبب عدم توفر العلاج وعدم توفر الإسعاف وبسبب القنابل العنقودية والألغام والقصف بالبراميل والغازات السامة التي تسبب أنواعا من الإعاقات لم نعرفها بعد .. قال لي سامر ( كنت أعبر الشارع في حمص من أجل شراء الخبز لأسرتي …أصابني قناص في ظهري بقيت في الشارع كل النهار لم يتمكن أحد من إنقاذي ..كانوا يطلقون النار على كل من يمر بالشارع ..اعتقدوا إنني مت…بالليل جاء بعض الأشخاص وأنقذوني، لم يكن هناك أي مستشفى قريبة لا ميدانية ولا غيرها بقيت الرصاصة في ظهري … فهأنذا مشلول ،ماذا بقي من مستقبلي؟)
أسباب الإصابات والاعاقات خلال فترة الأزمات والحروب تختلف عن أسباب الإعاقات في فترة السلم. هناك عوامل كثير قد تساهم في أسباب الإعاقة خلال الحرب مثل طريقة الإسعاف، وكيفية توفير العلاج الطبي وسرعته ونوعيته، والاستراتيجيات الطبية و الإسعافية لمواجهة الحالات الطارئة والجرحى والإمكانات المادية والبشرية التي قد تتجاور الموارد والقدرات المتاحة.
وقد أكدت الخبرات السابقة في إدارة الأزمات أن الأشخاص ذوي الإعاقة هم أكثر الأشخاص المتضررين من العنف، وأن الاستجابة اللازمة لتوفير العلاج وإعادة التأهيل غير كافية، أو قد تكون غير متوفرة. قد يجد الأشخاص ذوو الإعاقة بأن ظروفهم تزداد سوءا، وذلك بسبب فقدان أحد أفراد العائلة أو الشخص الذي يوفر له الدعم والمساعدة، وعدم القدرة على التحرك في منزل نتيجة للعوائق الكثيرة. إن فقدان القدرة على التحرك أو السمع أو الرؤية وعدم توفر المساعدة أو الدعم النفسي وربما عدم توفر الغذاء وغيره من الاحتياجات الأساسية يزيد من تعقيدات الحياة مع الإعاقة. كما أن بعض الأشخاص ذوي الإعاقة وخاصة من النساء قد يتعرضون إلى العنف الجسدي والاستغلال والاساءة الجنسية.
يعاني عدد كبير من الأشخاص ذوي الإعاقة التي تمت ببتر أطرافهم أو تعرضوا لتشوهات كبيرة من إهمال طبي بسبب مقصود أو غير مقصود نتيجة الوضع القائم. ونتيجة لذلك ازدادت الاضطرابات النفسية مثل الإحباط والضغوط النفسية الشديدة في سورية. حيث إن الجروح النفسية قد تكون أصعب من الجروح الجسدية وخاصة بعد الإعاقة، فمع الإهمال وعدم الاهتمام قد يتولد شعور بأن الإنسان ذي الإعاقة تعرض للخيانة أو تعرض للنسيان. حتى إن معظم خدمات الإغاثة المحدودة في معظمها لا يستطيع الأشخاص ذوو الإعاقة الجسدية من الوصول إليها حيث الحواجز، والأدراج، والهدم وتدمير الطرقات من القصف والدمار يمنع الشخص ذي الإعاقة الجسدية بشكل خاص من الوصول إلى أماكن الإغاثة والعلاج.
لقد قمنا بمقابلة عدد كبير من الأشخاص الذين أصيبوا بجروح بليغة وجدية الذي وصفوا لنا معاناتهم اليومية مع الحياة مع الإعاقة. (يقول عمار: أنا مستلق على هذا السرير الصغير، لا يتوفر لدي كرسي للتحرك والتنقل حتى إلى الحمام، ولا يوجد هناك من يساعدني، أزحف وأتعذب كثيرا لأصل إلى الحمام، القروح والجروح في كل جسدي، لا يوجد دواء ولا أي شيء يسكن الألم الذي أشعر به في جسمي، أصبحت حياتي جحيما لا يمكن احتماله).
إن نسبة الإحباط والألم النفسي والصعوبات النفسية الاجتماعية بين النازحين واللاجئين في سورية تزداد يومياً. حيث تنتشر الأمراض النفسية ويصبح الإنسان غير قادر على الحياة، حينما يفقد الأمل ويفقد استقلاليته وينتج عن المعاناة مجموعة من الأعراض النفسية الخطيرة.
زوجات الشهداء والأرامل والمرأة المعيلة للأسرة يمثلون ضحايا جددا من ضحايا الحرب حيث يحتاجون إلى التعامل مع الألم النفسي الذي أصاب الأسرة بالإضافة إلى تلبية الاحتياجات اليومية للحياة ورعاية الأطفال … تقول أم هيثم زوجة أحد الشهداء ( الله يرحمه قدم حياته من أجل الوطن ومن أجل الحرية لكنه تركني مع 7 أطفال أكبرهم 14 سنة، ولا أعرف كيف سأربيهم، لا يوجد لدينا أي أملاك أو أي مال … أخاف من ترك البيت أو إجبارنا على الرحيل وأفكر كيف سأعتني بأطفالي، ومن سيقدم لهم الدفء والغذاء، إنهم يبكون كل الليل يريدون والدهم وأنا توقفت عن البكاء لأن لدي مسؤولية إطعامهم، إنه ليس وقت الحزن والدموع، علي أن أجد عملا لأطعم أولادي ..لا يوجد من يسأل عنا …الجيران يخافون حتى من زيارتنا ..)
تعتبر النساء من الفئات الحساسة والهشة خلال النزاعات والحروب ولكن المرأة السورية رغم كل ما يحدث أثبتت قوتها وبطولاتها بشكل فاجأ عددا كبيرا من الجهات، حيث تمكنت من التأقلم والتعايش مع الظروف الصعبة، نعم لقد تحدت المرأة السورية الكثير من الصعوبات وقاتلت لحماية أسرتها وأطفالها.
وقد تعددت جرائم النظام المتبعة والممنهجة ضد المرأة ابتداء من الاعتقال التعسفي إلى الخطف والتعذيب العنيف وانتهاء بالاغتصاب لكن ذلك لم يثنها عن الالتحاق بالثورة؛ بدليل اتساع رقعة المظاهرات السورية برجالها ونسائها. تقول (منى) إن النظام استهدف النساء لأنهن أهداف سهلة المنال وكبيرة التأثير على استمرار الحراك بالثورة ، ولمعرفة الشعب طبيعة تعامل النظام عمد قسم كبير من المدنيين إلى الهجرة بعيدا عن بيوتهم حفاظا على نسائهم وأولادهم ، وهذا ما يفسره أنّ أغلبية النازحين السوريين من النساء والأطفال.
يتفرج العالم على العائلات السورية والنساء والأطفال وهي تنزح وتهرب من الموت أو وهي تنتشل من تحت الأنقاض حيث يستخدم النظام الأسدي سياسة التخويف والقتل والقصف العشوائي، أقرب تشبيه له هو (سياسة الأرض المحروقة) حيث يتم القصف لأيام طويلة، بعدها الاقتحام من قبل الشبيحة ليترك هذا الاقتحام حالة صدمة لدى السكان، فهم يستخدمون أبشع الطرق والوسائل من اغتصاب وذبح وترويع وقتل، ويدخل الشبيحة بعدها لنهب البيوت وتدمير ما تبقى من الممتلكات.
أين كبار السن؟ وماذا يحصل لهم اليوم في سورية، وخاصة الفقراء منهم ، ماذا يحصل لهم عندما تتفكك العائلة وتتشرد ويذهب كل طرف في اتجاه يبحث عن المأوى؟ استشهد الكثير من الشباب وترك أهلا وآباء أو أمهات بدون أي معيل أو مأوى أو دخل، عدد كبير من المسنين في القرى بقوا لوحدهم وبعضهم تشرد وأكثرهم يعاني من أمراض لا يجدون لها الدواء ولا حتى أبسط أنواع الرعاية الطبية وخاصة للفئات التي تعاني من أمراض خطيرة ودائمة وتحتاج إلى الرعاية المستمرة، يقول الشيخ عبد وهو يجلس على قارعة الطريق في إحدى حواري دمشق ( لا أعرف أين أولادي ..يمكن بالجيش الحر ,,,وهم لا يعرفون أين أنا… تركنا كلنا البلدة تحت قصف الطائرات وأخذني بعض النساء معهن، وعندما وصلنا إلى دمشق وجدت نفسي وحيدا …لا أسرة ولا مال ولا شيء…أنا مريض بالسكري وأحتاج إلى أدوية لكني لا أعرف كيف وأين سأجدها ، يعطيني الناس بعض النقود في الشارع، ولكنني عندما ذهبت إلى المشفى الحكومي ضربت وطردت، وقالوا لي “هلأ مو وقتك عنا إسعاف)
شباب الثورة لديهم قصص لا تنتهي مع كبار السن الذين كانوا سندا لهم في ظروف حرجة، ومنهم الناشط خالد أبو صلاح الذي قال للجزيرة نت إن الأفكار تزاحمه عندما يستحضر ذكرى رشيدة الياسين (التي جاوزت 70 عاما) التي وصفها بالأم للثوار “فعندما كان الناس يخافون من إيواء من يحرضون على التظاهر، كان بيت زوجها الحاج محمود البويضاني الموئل الوحيد لهم في بابا عمرو”. وكانت تتعهدهم بالرعاية وتحرص على إطعامهم والسؤال عنهم عندما يغيبون.
وقال أحد الناشطين في المجال الإغاثي والذي يحتك يوميا بالكثير من كبار السن النازحين عن بيوتهم “إن أكثر ما يضغط على هؤلاء هو فقدانهم لبيوتهم التي عاشوا فيها عمرا كاملا، ثم وجدوا أنفسهم مشردين ومعوزين وضمن ظروف قاسية، علاوة عن كونهم آباء وأمهات لشباب الثورة والمعتقلين والشهداء، ويتكبدون مشاعر الألم على أولادهم ومن جانب آخر يكلفهم ذلك مضايقات كثيرة من قبل النظام”.
هذا بعض مما يعيشه شعبنا في سورية اليوم، إن ثمن الحرية باهظ جدا يدفعه الشعب من روحه ودمه ودموعه… يدفعه من ألمه ومعاناته وتشرده … ولكنه شعب عظيم، كل من تحدثت إليهم قالوا .. فداء الوطن … فداء الحرية … فداء سورية .. مهما كان الألم ومهما كان الثمن …حرية سورية هي أملنا في الحياة الكريمة.
ولكن كيف استجاب الشعب السوري لهذا الوضع الانساني؟
يتكلم الجميع اليوم عن هذا الشعب السوري العظيم الذي يتصدى للثورة وحده وللإغاثة وحده، حيث الإعانات قليلة وفي معظم الأحيان لا تصل إلى الأماكن الخطرة. ومن الكلام الجميل في هذا المجال ما كتبه أحد الأصدقاء المختصين عن إحدى أهم ميزات الثورة السورية وهي “بداية وضع معالم جديدة لمجتمع يقوم على أرقى ما وصل إليه شكل المجتمعات الحديثة، فالشعب السوري بفطرته وثقافته بدأ ينظم صفوفه ضمن منظومة مؤسسات المجتمع المدني وإن لم تكن مبنية على شكلها الصحيح حيث إن الحالة الأمنية والواقع الذي يفرضه الشارع جعل الشباب الثائر يقوم على هذه الفكرة كتنظيم الأحياء والمدن والقرى وبعدها الشوارع ضمن تنسيقيات، ثم ما لبث أن طور فكرة مؤسسة المجتمع المدني إلى مؤسسات التكافل الاجتماعي والحماية المدنية”
لقد تطور العمل الإغاثي في سورية إلى تخصصات مجتمعية من ناحية الحاجة فأصبحت الإغاثة العينية والمالية والطبية ثم المستشفيات الميدانية. ومنها إلى جمعيات (كما فرضها الواقع) تعنى بشؤون المرأة والأشخاص ذوي الإعاقة وضحايا الحرب، والطفل والتعليم وحتى الإعلام والثقافة والتوعية المجتمعية. ومن النقاط الإيجابية التي تعطي لهذه الميزة أهمية قصوى هو هذا التنوع في العمل حيث لم يجرب المواطن السوري سابقا أن يعيش مواطنته ضمن منظمة تخدم مصلحة المواطن السوري بغض النظر عن طائفته أو دينه أو فكره.
إن دور المجتمع المدني الذي بدأ بالظهور في سورية له جذوره التاريخية ومواصفاته وملامحه الأساسية فشعبنا عريق في التكافل الاجتماعي، وعلى الرغم من تعدد أنماط هذا الدور، إلا أن عملية إعادة التنظيم المجتمعي تبقى القاسم المشترك بين كل المجتمعات التي خرجت من مراحل صراع أو عنف أو تحول سياسي في نظام الحكم (من النظام الدكتاتوري إلى النظام الديمقراطي )، وهنا المطلوب العمل على إعادة التخطيط لإعادة التنظيم المجتمعي بشكل يوفر الدعم والحماية لكل فئات المجتمع، وخاصة الفئات المهمشة والمستضعفة.
من أهم ميزات الثورة السورية هي ظهور قوة المجتمع المدني السوري التي تمثل في هذه التنظيمات الصغيرة التي ظهرت في وقت الأزمة لتدافع عن حقوق الفئات الحساسة والمهمشة. إنها (المواطنة) والاحساس بالمسؤولية الذي ظهر عند كل فرد فينا يحب وطنه، إنها قوتنا الثورية الجديدة، القوة المجتمعية التي ظهرت من تحت الألم الذي يعيشه الناس، والتي ساهمت في تكاتفهم وتكافلهم من أجل أبناء الوطن، إنها درس من دروس الثورة نتعلم فيه كيف يكون فيه الحق والعدل، بهدف تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية…. إنها سورية الجديدة، تشرق من جديد لتحتوي كافة فئات الوطن وخاصة فئاته المستضعفة تحت مظلة الحق والعدل والمساواة …. تحية إلى كل مواطن سوري يعمل في الإغاثة، يعرض نفسه للخطر من أجل أن يوفر ولو قليلا من الأمل والحماية للنازحين والمشردين واللاجئين .. تحية إلى شعبنا الذي حوله الأسد الأب والابن إلى فئات اجتماعية خاصة، فئات ستحول ضعفها إلى قوة بفضل الثورة، لتخرج بحرا هائجا وثورة تقف في وجه القاتل، في وجه الخائن الذي يقتل شعبه.