العدالة الاجتماعية والمجتمع المدني بين استراتيجيات الدفاع ومهام التطوير
مقدمة:
ظهر دور المجتمع المدني في تحقيق العدالة الاجتماعية مع نشأته، حتى وإن اقتصر في البدايات على البعد الخيري، فجوهر الفكرة كان دائما تحسين حياة الفئات الأكثر فقرا وتهميشا، حتى وإن كان العمل الخيري غير كاف في هذا الإطار ومع وصول المجتمع المدني إلى درجة النضج مع الثورات العربية ومحاولة لعب دور قوي في تحقيق أهداف هذه الثورات والتي عند انطلاقها رفعت شعارات أساسية كانت العدالة الاجتماعية في القلب منها سواء بشكل مباشر، أو من خلال شعارات أخرى مثل الكرامة والحرية هي شعارات مرتبطة بشكل اساسي بالعدالة الاجتماعية بشكل أو بآخر. لذلك لا يمكننا إغفال الوضع الاقتصادي المفتقد للعدالة الاجتماعية الذي أدى إلى تفجر هذه الثورات. كما لا يمكننا أن نغفل أن الشرارة الأولى لهذه الثورات كان حادث محمد بوعزيزي[1] الذي يرتبط فيه الظرف الاقتصادي (الفقر والبطالة) بمفهوم الحقوق (الكرامة والحرية).
وباعتبار المجتمع المدني -بحكم التعريف- هو حلقة الوصل بين المواطنين بآمالهم وطموحاتهم والسلطة أو الحكومات، فانه بعد هذه الثورات يقع على عاتقه دورا كبيرا في ترسيخ وتفعيل مفهوم العدالة الاجتماعية في مصر. وتحقيق العدالة الاجتماعية كهدف، يرتبط بالكثير من التحديات منها البعد الدولي أو التراكمات تاريخية وتعقيدات سياسية وجغرافية وتنموية، لكن ذلك لا يعفي الدول والحكومات العربية من واجباتها والتزاماتها السياسية والاجتماعية والقانونية والأخلاقية، حتى أصبح ركن أساسي لشرعية أي نظام حكم هي تحقيق العدالة الاجتماعية لمواطنيها[2]. هذه التحديات تستوجب من المجتمع المدني تطوير استراتيجياته وأدواته لمجابهة هذه التحديات مستندا إلى الفرص التي وفرتها الثورات العربية والتي جعلت من العدالة الاجتماعية مطلبا أساسيا بالرغم من محاولات التحايل، وحولت المواطنين إلى فاعلين قادرين على التأثير رغم محاولات القمع التي تمارس أحيانا، وفتح مجالات جديدة لحركة حتى داخل مؤسسات الدولة رغما عن محاولات إعادة السلطوية.
وفي هذا الاطار يجب أن يكون توجه المجتمع المدني نحو تحقيق العدالة الاجتماعية بمعني السعي “لتلك الحالة التي ينتفى فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو من كليهما، والتي يغيب فيها الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي وتنعدم فيها الفروق غير المقبولة اجتماعيا بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة، والتي يتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية متساوية وحريات متكافئة، ولا تجور فيها الأجيال الحاضرة على حقوق الأجيال المقبلة، والتي يعم فيها الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن والمشاركة الاجتماعية، والتي يتاح فيها لأفراد المجتمع فرص متكافئة لتنمية قدراتهم وملكاتهم ولإطلاق طاقاتهم من مكامنها ولحسن توظيف هذه القدرات والطاقات بما يوفر لهؤلاء الأفراد فرص الحراك الاجتماعي الصاعد، وبما يساعد المجتمع على النماء والتقدم المستدام، وهى أيضا الحالة التي لا يتعرض فيها المجتمع للاستغلال الاقتصادي وغيره من آثار التبعية لمجتمع أو مجتمعات أخرى، ويتمتع بالاستقلال والسيطرة الوطنية على القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية”[3].
المجتمع المدني والعدالة الاجتماعية.. الدور والسمات:
“الطريقة في النظر لحقوق العباد هي ما توجد الفرق بين مجتمع يعيش على “الصدقة” فيعيش فقراء مواطنوه، ومجتمع تحكمه قواعد منظمة لعلاقات العمل، بحيث تحمى الأجير والعامل والموظف، أي الطرف الأضعف في علاقة العمل، فتصبح الأغلبية من غير الفقراء. أي باختصار مجتمع تعمل فيه الدولة بجميع مؤسساتها على تحقيق حياة كريمة للمواطنين ومجتمع أدارت فيه الدولة وجهها عن واجبها فقام نفر من الناس مشكورين ليرتقوا هنا وهناك ما لا يرتق”.[4]
هذا المفهوم هو ما حدا بالمجتمع المدني في التطور من المنهج الخيري في العمل الذي يقوم على دعم الفقراء من خلال إعانات تساعدهم على سد قوت يومهم، على المنهج التنموي الذي يحاول تطوير قدراتهم ومهارتهم وتوفير بيئة محيطة ملائمة تمكنهم من تحسين معيشتهم. إلا أن حتى هذا المنهج تطور إلى منهج حقوقي في العمل يحاول دعم الفئات المهمشة والأكثر احتياجا من تنظيم أنفسهم للاستفادة من العمل التنموي من جانب، ومن جانب آخر القدرة على المطالبة بحقوقهم ومواجهة ما قد يخل أو ينتقص منها. دور المجتمع المدني في تفعيل آليات العدالة الاجتماعية له جذوره التاريخية ومواصفاته وملامحه الأساسية في العصور المختلفة، وتعددت أنماط هذا الدور بحسب المرحلة التاريخية وخصوصية كل مجتمع في انتقاء أو تكييف أو استحداث آليات مناسبة له. إلا أن عملية إعادة التنظيم المجتمعي تبقى القاسم المشترك بين كل المجتمعات التي خرجت من مراحل صراع أو عنف أو تحول سياسي في نظام الحكم) من النظام الديكتاتوري إلى النظام الديمقراطي)، حيث أن فرضيات عملية الانتقال السياسي والتي تتسم بالسرعة والمفاجأة والصراعات –يستثنى من ذلك بعض المجتمعات التي مرت بمرحلة الانتقال نحو الديمقراطية بشكل سلمي- لذا فان عملية الانتقال نحو الديمقراطية تتطلب تخطيطا لإعادة التنظيم المجتمعي لتلافي أو معالجة أو منع حدوث انتهاكات لحقوق أفراد ذلك المجتمع، ويأتي ذلك من خلال تضمين إعادة التنظيم المجتمعي في آليات العدالة الاجتماعية ضمن استراتيجيات شاملة لعدالة انتقالية يتقاسم فيها الأدوار والمهام والمسؤوليات النظام السياسي متمثلا بالجهازين التشريعي التنفيذي والمجتمع المدني المتمثل بالمؤسسات[5].
ما شهده المجتمع المدني من تطور ونمو وفعالية في المجال السياسي والمجال الاجتماعي منذ القرن العشرون وخصوصا بعد الثورات العربية –في الحالة المصرية- جعل المجتمع المدني يتناول أماكن وقضايا لم يتناولها من قبل، ويحقق فيها نتائج مثل قضية العدالة الاجتماعية؛ والتي نالت في الآونة الأخيرة النصيب الأكبر من الدارسات لأهميتها للمجتمعات النامية والتي تستعد وتنتظر مزيد من التحولات الديمقراطية. وتدل الآونة الاخيرة في دراسة المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني على تغير ونضج في دور الأسلوب المتبع، فأصبح لمنظمات المجتمع المدني تأثيرا كبيرا في المجتمعات يصل في بعض الأحيان إلى وضع السياسات والمساعدة في تنفيذها[6].
المجتمع المدني والعدالة الاجتماعية ما بين استراتيجيات التنمية والضغط:
ساهم المجتمع المدني في تجارب عديدة بدور في تحقيق العدالة الاجتماعية عبر مشروعاته وحملاته يمكننا تبين أثر بعضها سواء في تحقيق قدر من التحسن في حياة المواطنين أو في التأثير على السياسات، ليس فقط المحلية وإنما العالمية في مواجهة السياسات التي قد تضر بالعدالة الاجتماعية. ومن أبرز الأمثلة التي يتحدث عنها الكثيرون على مستوى المشروعات تجربة بنك جرامين بإندونيسيا؛ وهي منظمة للتمويل الصغير وتنمية المجتمع، بدأ البنك في بنجلاديش ويقوم بتقديم قروض صغيرة إلى الفقراء دون اشتراط ضمانات مالية، تم تأسيسه من قبل محمد يونس في سبتمبر 1983، ومنح جائزة نوبل للسلام لعام 2006. يركز عمل بنك ومؤسسة جرامين على تسخير واستغلال قدرة الفقراء على الإبداع والتوظيف[7]. وشهدت المؤسسة طوال تاريخها نجاحات على مدار 15 عاما، ومن هذه الانجازات والنجاحات أنه 9.4 مليون من فقراء العالم ساعدتهم مؤسسات التمويل الأصغر الشريكة لمؤسسة جرامين وتمكينهم من بدء رحلتهم، وتلقى أكثر من 1.2 مليون مقترض جديد القروض الصغيرة بسبب برنامج ضمانات النمو لدي المؤسسة. وساعدت ما يقرب من 200 ألف من الفقراء والمزارعين وامتد عملها للريف في أفريقيا في دول مثل أوغندا وكينيا[8].
أما على مستوى التأثير على السياسات فتعتبر حملة مناهضة اتفاقية التجارة العالمية المعروفة wto أحد الأمثلة البارزة على كيفية الحشد والتعبئة لمواجهة سياسات من شأنها الإضرار بالعدالة الاجتماعية على المستوى العالمي، حيث قام مارتين كور أحد العاملين السابقين بالمنظمة بتأسيس منظمة focus on global south لمواجهة الاثار السلبية للاتفاقيات التي تصدر عن هذه المنظمة -والتي اكتشفها من خلال وجودة داخل المنظمة- على دول العالم الثالث. وقد استخدم ثلاث استراتيجيات أساسية:
- التوعية بأضرار المنظمة: وذلك من خلال كتابته التي كانت تتم ترجمتها بشكل تطوعي من مجموعات مناهضة العولمة حول العالم، واستكتاب خبراء متطوعون من العديد من الدول وبمختلف اللغات. ولم يتوقف ذلك فقط على السياسات الخاصة بهذه المنظمة إنما امتد لآليات اتخاذ القرار غير الشفافة او الديمقراطية داخل هذه المنظمة.
- التشبيك مع مجموعات مناهضة العولمة ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات في دول العالم الثالث، خاصة في شرق آسيا، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ثم امتدت الشبكة لتشمل منظمات المجتمع المدني في دو العالم الأول المتعاطفة مع القضايا التي تطرحها المنظمة أو تلك التي تمثل الفئات المتضررة من هذه السياسات في هذه الدول، والتي مثلت محورا للضغط على حكومتها في هذا الإطار.
- الضغط على المنظمة عبر وفود رسمية من دول تبنت الأفكار التي طرحتها هذه الشبكة مثل الهند، وجنوب أفريقيا، والبرازيل، كلا في الموضوع الذي يخصه. والضغط الخارجي عبر التظاهر والوقفات في كل جولة من جولات المنظمة تعتمد بالأساس على أصحاب المصلحة ذاتهم. وإقامة جسور بين الوفود الرسمية المتعاطفة وأصحاب المصلحة المشاركين في الاحتجاجات.
وقد حققت هذه الحملة نجاحا كبيرا إلى حد أن البعض يطرح أنها واحدة من ثلاثة أسباب أساسية أوقفت عمل المنظمة، وجعلت من جولة هونج كونج آخر الجولات التي يخرج منها اتفاق، وأنه حتى منذ الجولة السابقة في الدوحة كانت المخرجات ضعيفة وليس ذات قيمة.
استراتيجيات وآليات:
في ظل السياق العام الدولي والإقليمي والمحلي، تعد مهمة المجتمع المدني مهمة عسيرة في المساهمة في تحقيق العدالة الاجتماعية في الدول العربية فهي لا تقتصر فقط على تطوير آليات تساهم في تحسين حياة المواطنين، ولا مساندة السياسات التي من شانها تطوير وضعية العدالة الاجتماعية، ولا فقط دعم التنظيمات المجتمعية التي يمكن أن تحمل عبء هذه القضية، إنما تمتد لمواجهة هجمات السياسات المحلية والدولية التي من شأنها التأثير السلبي على المفهوم وتطبيقاته في أرض الواقع.
لذا فاستراتيجيات دعم المجتمع المدني في هذا الإطار يجب أن تمتد لتشمل العديد من الأطراف المحلية والدولية وأبرزها:
- خلق معرفة عبر دراسات حول وجود التفاوت وعدم المساواة، ووضع مؤشر لتحديد الأسباب الجذرية لغياب العدالة الاجتماعية. ويتطلب ذلك من منظمات المجتمع المدني البحث عن الحقائق وجمع المعلومات والبحوث وكذلك تحليل دقيق للنتائج، عبر بحوث مجتمعية، والوصول بهذه البحوث لمستوى الوعي الشعبي، وكذلك تطوير وعي القائمين على السياسات -خاصة البرلمانيين- بهذه القضية، وما هي المعايير التي يمكن قياس التشريعات والسياسات عليها للكشف عن تأثيراتها على العدالة الاجتماعية سلبا او إيجابا. وفي هذا الإطار يجب تناول المفهوم بشكل رحب وعدم اقتصاره على بعد ضيق من أبعاده، على ألا يؤدي ذلك إلى تمييع المفهوم وافقاده مضمونه الحقيقي القائم على إعادة توزيع الثروات بشكل عادل في المجتمع.
- بناء الشركات والشبكات المتعددة: الدعوة إلى بناء الشبكات والشركات بين منظمات المجتمع المدني وبعضها البعض، والتي تؤثر ايجابا على قوة المجتمع المدني. ويجب التشبيك والشراكة بين منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال العدالة الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى، في كثير من المجالات كالثقافة والإعلام، وأيضا التشبيك مع الحكومة نفسها من أجل المطالبة بسياسات تحقق العدالة الاجتماعية. وعلاوة على ذلك؛ يمكن للمنظمات الداعية للعدالة الاجتماعية أن تستفيد من تحالفاتها مع نظيراتها في الدول الأخرى لتوليد المعلومات، إضفاء الشرعية على أنشطتها، وجلب ضغوط إضافية لتعمل في تشجيع التغيير الداخلي.
- التأثير في صنع القرارات، لتحقيق العدالة الاجتماعية يجب أن تؤثر منظمات المجتمع المدني في صنع السياسات العامة للدولة باستخدام آليات ضغط مختلفة من برامج وإجراء حملات إعلامية وتنظيم مظاهرات حاشدة وإصدار التقارير، وكتابة مقالات الرأي في وسائل الإعلام والاجتماع مع المسؤولين الحكوميين وتشكيل شراكات مع الوكالات الحكومية. من أجل الدفع باتخاذ التدابير اللازمة لتحقيق العدالة الاجتماعية.
- لا يمكن هنا أن نغفل دور المنظمات التنمية ليس فقط في القيام بمشروعات تساهم في تحسين الأحوال، ولكن من خلال مشروعاتهم خلق نماذج تنموية قابلة لتكرار. وأن يصاحب ذلك عملية تمكين للفئات المستفيدة ودعمهم على تنظيم أنفسهم في كيانات تعبر عن هذه المصالح بدلا من الولاءات السياسية أو الأولية، حتى يتمكنوا من تبني قضاياهم بأنفسهم وليس عبر وسطاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] شاب تونسي في السادسة والعشرين كان يبيع الخضروات والفواكه في مدينة سيدي بوزيد التونسية، التي باتت واحدة من أشهر المدن العربية. وعندما صادرت الشرطة عربته البدائية الصغيرة، بدعوى أنه لا يحمل رخصة للبيع تجوالا أشعل النار في نفسه. وأشعلت فعلته بنفسه شرارة الربيع العربي الذي أطاح برئيس بلاده زين العابدين بن علي تبعه الرئيس المصري حسني مبارك الذي تنحى عن السلطة.
[2] مفهوم العدالة الاجتماعية، مركز موارد العدالة الاجتماعية، http://is.gd/gseG3T
[3] إبراهيم العيسوي، “العدالة الاجتماعية من شعار مبهم إلى مفهوم مدقق”، بوابة الشروق، http://is.gd/VQbN1z
[4] سلمى حسين، في نقد مبدأ (اتبرع. ولو بجنيه)، جريدة الشروق، 11/9/2009، http://is.gd/Jgx4BT
[5] نهي الدرويش، “دور المجتمع المدني في تفعيل اليات العدالة الاجتماعية”، http://is.gd/J5HRIK
[6] Role of Governments and Nongovernmental Organizations, http://is.gd/94Bm4Q
[7] مؤسسة جرامين، http://is.gd/i28Axn
[8] مؤسسة جرايين، http://is.gd/YmkcmY