«الطبقة الوسطى» انكمشت مع ضغوط المعيشة!
نحتاج إلى معالجة مفهوم الإنتاجية وتنويع مصادر الدخل وإعادة النظر في واقعية خطط التنمية
أكد خبراء محليون على أن «الطبقة الوسطى» بدأت تضيق في صالح «الطبقة الدُنيا»، وذلك بعد أن زادت المتطلبات المعيشية وارتفعت الأسعار، وظهرت قضية البطالة والسكن والتضخم، فأصبحت الفجوة بين طبقات المجتمع متباينة.
وتُعد «الطبقة الوسطى» صمّام الأمان الاقتصادي والأمني والاجتماعي لأي دولة، إلاّ أن هناك عدة أسباب وقفت ضد نموها، أهمها التضخم المالي في الأسعار، وكذلك النمو السكاني العالي، وخطط تنموية لم تراع الواقع المعيشي؛ في ظل ثبات الرواتب لأكثر من (35) عاماً.
إن الحفاظ على بقاء «الطبقة الوسطى» يبدأ بتأهيل المنظومة الاجتماعية، وتصحيح المنظومة الاقتصادية، بمعالجة مفهوم الإنتاجية، وتنويع مصادر الدخل، وكذلك تغيير النظام التعليمي، إضافةً إلى زيادة الاهتمام بمعالجة الموضوعات التي تحقق التنمية المتوازنة، إلى جانب إصلاح مفهوم النظام الاقتصادي الذي يعتمد على البترول فقط.
معيار المال
وقال «د.عبدالوهاب القحطاني» -أستاذ الإدارة الإستراتيجية وتنمية الموارد البشرية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن-: الطبقة الوسطى هي فئة من الناس يقعون بين الطبقة العاملة والطبقة العليا الثرية، مضيفاً أنه تختلف التدابير المشتركة لما يشكل الطبقة الوسطى بشكل كبير بين الثقافات المختلفة، فقد تكون في الدول الصناعية المتقدمة طبقة عليا، وفي دول أقل منها قوة اقتصادية وثراء، لذلك يجب ألاّ يكون معيارنا في تحديدها من حيث الدخول المالية فقط لأفراد المجتمع، مشيراً إلى أنه يجب ألاّ نأخذ دولة غنية مثل أمريكا لتكون دولة مقارنة لدول نامية من حيث الطبقة الوسطى، مؤكداً على أنه من هذا المنطلق ندرك الاختلاف الواضح في قياس الطبقات الاجتماعية حسب الثقافات والقوة الاقتصادية لكل دولة.
وأوضح «د.القحطاني» أن الطبقة الوسطى هي صمّام الأمان الاقتصادي والأمني والاجتماعي والسياسي لأي دولة في العالم، حيث توفر الكوادر المنتجة التي تُعيد دخولها بالقوة الشرائية، بل وتحافظ على أمن الدولة، وبالتالي تستتب وتستقر الأمور الأخرى، مشيراً إلى أن دراسات عديدة كشفت تزايد معدل الجريمة بتراجع المواطنين وانكماشهم اقتصادياً، ذاكراً أن الطبقة الوسطى هي الطبقة العاملة الكادحة التي تحافظ على الاستقرار والتوازن، حيث يستبعد منها التجار والصناعيون وأصحاب الدخول العالية، وكذلك نستبعد منها النافذين من ذوي المراكز القيادية العليا، سواءً في الحكومة أو القطاع الخاص، ليبقى الناس العاملين برواتب وأجور، يعيشون حياة ليس فيها بذخ.
وذكر «د.القحطاني» أن المعلومات المحايدة تشير إلى أن دخل الفرد السعودي في بداية الثمانيات من القرن كان حوالي (28) ألف دولار أمريكي، وانخفض إلى حوالي ستة آلاف دولار في التقديرات الأخيرة، وهذا التراجع الملحوظ في الدخل للفرد نتج عن ثبات الدخول بشكل عام، مع نمو سكاني عال وسريع، وخطط حكومية لم تضع هذه المتغيرات في الحسبان، مما زاد من معدل الفقر والبطالة، ناهيك عن التضخم المالي في الأسعار، مع ثبات الرواتب لأكثر من (35) عاماً تقريباً، ولا نغفل هنا دور القطاع الخاص الذي لم يساهم في تطوير رواتب المواطنين، بل لم يساهم في توظيفهم وفضّل العمالة الوافدة عليهم، لافتاً إلى أن الطبقة الوسطى أكثر الطبقات تضرراً من انهيار السوق المالية -سوق الأسهم- على مدى سبع سنوات ماضية؛ لأن كثيرا منهم لا يزالون معلقين على أمل الخروج برأس المال، بل خرجت نسبة كبيرة منهم بخسائر كبيرة أثرت على حياتهم الاجتماعية العامة والخاصة، وهذا أدى إلى تراجع نسبة ملحوظة من المواطنين إلى دون مستوى الطبقة الوسطى، وقريباً من منطقة الطبقة الأقل حظاً اقتصادياً -طبقة ميسوري الحال-.
أهم الحلول
واستعرض «د.القحطاني» أهم المؤشرات والمعايير التي ساهمت في تحديد الطبقة الوسطى، وذلك بالنظر إلى دخل الفرد ومدى ادخاره في السنة من خلال الإيداعات البنكية، مع الأخذ في الاعتبار إن كان متزوجاً ويُعيل أسرة، وأيضاً من خلال نسبة من يمتلك من المواطنين منازل في وضع يليق بالإنسان وكرامته، مع الوقوف على حالة الأثاث والأجهزة المنزلية وكذلك وجود السيارة ومعرفة حجم وعدد استثمارات أفراد المجتمع، مضيفاً أن الأحياء السكنية تفيد في تحديد الطبقة الاجتماعية وكذلك معلومات التعداد السكاني الأخيرة تعد ذات أهمية كبيرة في تحديد نسبة الطبقات الاجتماعية بما فيه الطبقة الوسطى، داعياً وزارة الاقتصاد والتخطيط بالعمل على إعداد تلك الدراسات لأنها المعنية بذلك، مشيراً إلى أن العودة إلى الوضع الصحيح يتطلب تنفيذ دراسة أو دراسات عن تحديد نسبة الطبقة الوسطى في المملكة، بل وتحديد نسب الطبقات الأخرى، وذلك لإيجاد الحلول المناسبة لتفادي انكماشها بدرجة قد تهدد أمن المجتمع وغيره من الأمور الأخرى ذات العلاقة.
وأضاف: أهم الحلول تكمن في خفض نسبة البطالة لتزيد نسبة الطبقة الوسطى التي تراجعت إلى الطبقة الدنيا، كما يجب إلزام الشركات على توظيف وتدريب السعوديين برواتب عادلة تواكب التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في المملكة.
وقال «د.عبدالعزيز الدخيل» -وكيل وزارة المالية سابقاً والخبير الاقتصادي-: إن الطبقة الوسطى تُعد ذات أهمية من الناحية الاقتصادية، كونها محل الحراك للإنتاج والعمل والإبداع، وهي الحاضنة للنظام الاقتصادي، إذ يعتمد أفرادها على اختلاف مهنهم على إنتاجهم، وهذا ما يشكل الاستقرار الاقتصادي والتوازن الاجتماعي، معتبراً أن زيادة نسبة الطبقة المتوسطة في المجتمع يساهم بالدرجة الأولى في زيادة فعاليته، وكذلك قدرته الإنتاجية التي تساهم بالنمو الاقتصادي، لافتاً إلى أن الاقتصاد النامي يرتبط بحجم الإنتاج وليس بالاعتماد الاستهلاكي على الثروة البترولية، مبيناً أنه لا توجد دراسات وإحصائيات متعلقة بحجم الطبقة الوسطى، لكن هناك بعض الدراسات تناولت دخل الأفراد، وأشارت نتائجها إلى أن الطبقة الوسطى أعدادها قليلة جداً على خلاف الطبقة الفقيرة أو الغنية، مشيراً إلى أن أهمية تلك الدراسات يعتمد على الدقة في جمع المعلومات والمسوحات، وكذلك على مدى استمراريتها في فترات زمنية متواصلة تواكب المستجدات الاقتصادية.
تأثير البطالة
وأوضح «د.الدخيل» أنه حتى لو تم تجاوز دقة الجانب الإحصائي وأخذنا نظرة عامة على المجتمع، فإن الملاحظ المتابع سيجد أن هناك عدة مؤشرات تدل على انكماشها اقتصادياً، حيث نلاحظ بأن الأفراد الذين ينتمون إلى الطبقة الفقيرة والطبقة الغنية في ازدياد، وهذا يعني أن الطبقة الوسطي بدأت تنحصر، خاصةً إذا كانت الزيادة في الطبقات الفقيرة نتيجة للغلاء المعيشي والبطالة والتضخم وغيرها من العوامل الاقتصادية التي أثرت بشكل سلبي على دخل الأفراد، مضيفاً أن البطالة من أهم العوامل المسببة لتآكل تلك الطبقة، إذ نجد أن مخرجات التعليم في السنوات الأخيرة لا تتناسب مع متطلبات الاقتصاد الذي أصبح قوياً جداً، ويتطلب إنتاجية عالية، لهذا نجد أن الشباب الذين يمثلون الأغلبية في الطبقة الوسطى عاجزون عن المشاركة الاقتصادية التي تبقى مرهونة بحصولهم على وظائف بأجور عالية، في وقت نجد فيه أن الوظائف الحكومية تشبعت بأعداد الموظفين، بل وحتى عملية التوظيف العام والسعودة جميعها تنحصر برواتب ضعيفة لا تتناسب مع الأوضاع المعيشية، كما لا ننسى قضية ثبات الرواتب في القطاع الحكومي المتضخم فحوالي (65%) من ميزانية الدولة تذهب رواتب وبدلات.
تأهيل المنظومة
وأكد «د.الدخيل» على أن المعالجة الفاعلة للحفاظ على بقاء تلك الطبقة وتقويتها تبدأ بتأهيل المنظومة الاجتماعية، وتصحيح المنظومة الاقتصادية، وذلك بمعالجة مفهوم الإنتاجية وتعميق الأعمال الأكثر إنتاجية، مع تنويع مصادر الدخل، وأيضاً تغيير النظام التعليمي، وكذلك تقليل مستوى الفقر من خلال تأمين الحد الأدنى لكرامة الأفراد، وتوفير كل متطلبات الحياة الكريمة، داعياً إلى زيادة الاهتمام بدراسة ومعالجة الموضوعات التي تحقق التنمية المتوازنة ليس في الجانب الاقتصادي فقط بل في الجوانب الأخرى، مشدداً على أن معالجة جميع العوامل الجذرية والعوامل السطحية المسببة لانكماش تلك الطبقة مرتبطة بإصلاح النظام الاقتصادي الذي يعتمد على البترول، مطالباً أن تكون هناك حرية للمنافسة، وكذلك محاربة للفساد، ذاكراً أنه إذا توفر التعليم الجيد والاقتصاد النزيه يبدأ الأفراد بالإنتاجية، وهذه هي المعالجة الجذرية التي أن تمت لن تنحصر تلك الطبقة، أمّا إن بقي الوضع كما هو ستكون في تناقص ونصبح مجتمعاً ثنائياً جلّه من الطبقة الفقيرة، وجزء بسيط منه من الطبقة الغنية.
وتناول «أ.د.سليمان العقيل» -أستاذ علم الاجتماع بجامعة الملك سعود- أهمية الطبقة الوسطى من الناحية الاجتماعية، قائلاً: تعتمد كل المجتمعات على الطبقة الوسطى في بقائها واستمرار وجودها، بل حتى في توازنها؛ لأن هذه الطبقة هي الحافظة لتراث وثقافة المجتمع وتاريخه، وهي المادة الأساسية والروح الحقيقية لكل مجتمع، وهي التي دائماً تعيد توازن المجتمع عند أي هزة أو قضية أو حركة، مضيفاً أن الطبقة الوسطى لا تقاس بالوضع الاقتصادي فقط، لكن هناك مجموعة من العوامل التي يجب أن تتوافر لنطلق عليها طبقة وسطى، مبيناً أنه من الخطأ اختزال أو انهيار هذه الطبقة أو تقلصها بالعامل الاقتصادي، ذاكراً أن التخوفات التي يطلقها البعض من تقلصها مجرد أحكام عامة مأخوذة من تقلبات الجوانب الاقتصادية، والواقع أن هذه الطبقة هي المادة الحية في المجتمع التي تتأثر بالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتتأقلم معها لبناء واقع متجدد لصالح المجتمع، موضحاً أن التقلبات الاقتصادية التي تمر بها المجتمعات مؤثرة على كل طبقات المجتمع، ومن الصعوبة القول إن هناك تقلصاً في الطبقة الوسطى لصالح طبقة أخرى، لكنها تستفيد سلباً أو إيجاباً من هذه التغيرات.
وأوضح «أ.د.العقيل» أن التغيرات الاقتصادية والانفتاح على الثقافات الأخرى له دور في إعادة هيكلة المحتوى الطبقي بشكل بطئ وغير ملموس، وعلى فترات طويلة حتى يتم الإدخال الثقافي والفكري في محتوى الطبقة، مما يُسبّب تغيراً على المدى البعيد، وقد يكون العامل الاقتصادي وتغيراته الإيجابية والسلبية ذا فعل في التغيير للمحتوى الطبقي، لكن ليس العامل الأهم، مضيفاً أن الحديث عن فقدان المجتمع للطبقة الوسطى نوع من الإرجاف والتخويف المهدد لاستقرار المجتمع وتوازنه، ولو أن ما يخوف به من تقلص لهذه الطبقة لوجد على أثر هذا من تغيرات جذرية وانقلابات في الحياة الاجتماعية المخلة لحركة الحياة والأمن الاجتماعي للمجتمع، لافتاً إلى أن إدارة المجتمع حريصة على عدم وجود اختلالات اجتماعية تؤثر على الأمن، وكذا تحافظ على محتوى الطبقة الوسطى بمحتواها الثقافي والاجتماعي.
قال «د. عبدالرحمن العطوي» -عضو اللجنة الأمنية في مجلس الشورى-: إن الطبقة الوسطى تعاني من آثار برامج البنوك والمؤسسات التمويلية للإقراض والتمويل الاستهلاكي التي ركزت عليها، مضيفاً أن ثلث دخول الطبقة الوسطى وأحياناً نصفها يوجه لسداد الدين الاستهلاكي، وما تبقى أحياناً يكفي في تغطية مصاريف الأسرة الضرورية والحاجية، وأحياناً لا يكفي إذا أخذنا في الحسبان تزايد أعداد أفرادها وتزايد احتياجاتهم وتنوعها.
وأضاف: «تزداد الضغوط على هذه الفئة بسبب التزايد المستمر في أسعار السلع والخدمات بشكل متكرر، كما أن ارتفاع معدل التضخم وارتباط ذلك نسبياً بارتفاع أسعار الطاقة -خاصةً النفط-؛ زاد من معاناة هذه الشريحة، مما اضطر كثيرا من أفرادها إلى البحث عن فرص إضافية لزيادة الدخل، لكنه اصطدم بشحها وندرتها».