ضريبة القيمة المضافة.. لا إضافة ولا قيمة
أصل الحكاية.. منذ منتصف التسعينيات والحكومة تسعى لتحويل ضريبة المبيعات إلى ضريبة على القيمة المضافة. وذلك بعد أن شوه رجال الأعمال ضريبة المبيعات تحايلا فى التطبيق، وتزويرا للفواتير، وبعد أن استطالت قائمة الإعفاءات. وهكذا تحولت الضريبة الأسهل فى جمعها إلى صداع فى رأس الحكومة، وانخفضت حصيلتها مقارنة بتكلفة جمعها.
يحكى أحد الرؤساء السابقين لمصلحة الضرائب، أن فرض ضريبة على القيمة المضافة كان يعوقه أمران: المخاوف من آثار تضخمية مرتفعة. والأهم والأعنف، كانت معارضة لوبى كبار رجال الأعمال والمستثمرين. فقد اعتاد هؤلاء على ألا يضطلع أحد على معاملاتهم المالية بيعا وشراء، «ولا على أرباحهم بالتالى». فى حين أن القانون يستلزم أن يسجل الصناع والمستوردون والبائعون تلك المعاملات فى فواتير ودفاتر. فكيف أقنعتهم الحكومة بغير ذلك بعد عشرين عاما من المحاولات الحثيثة؟ الحقيقة أنها لم تستطع، كما سنرى بعد قليل.
وبعد الثورة، كلما جاء حاكم جديد، كانت حكوماته تضع خطة خجولة للإصلاح الضريبى، منها ما هو فرض ضرائب على دخول وأرباح الأغنياء، إضافة إلى ضريبة القيمة المضافة. فالفارق يتسع كل عام بين ما تجمعه الدولة من أموال وما يجب عليها إنفاقه، كما أن التفاوت بين الأغنياء والفقراء، قد ساهم فى تأجيج الغضب الشعبى وتزايد الاحتجاجات الاجتماعية منذ 2005، وساهم فى اندلاع الثورة. ولكن كلما فرضت حكومة ضريبة على الدخول العليا أو الأرباح، تنجح مجموعات ضغط رجال الأعمال فى إسقاطها خلال عام من إقرارها، أو حتى تجميدها بعد إقرارها. أما ضريبة القيمة المضافة، فقد رفضت تلك المجموعات بعد الثورة ما يزيد على سبع نسخ من مشروعات القانون الخاص بها. رغم أن الضريبة لا تحملهم أى عبء مالى. ولكن لأنها تلزمهم بالإمساك بالدفاتر والفواتير، حتى يستطيعوا تجنب دفع الضريبة وتحمليها لمن يبيعونه بضاعتهم. واستمر الرفض والمساومة حتى جاءت النسخة الأخيرة بما يطيب لهم.
محطة القانون السرى
لم تعرض الحكومة فى أى مرحلة مشروع القانون للحوار العام المجتمعى. بل أبقته سرا غير معلن، رغم أنه أمر يمس جيب كل مواطن. ولم تفاوض الحكومة سوى تلك الجماعات الممثلة لمصالح كبار التجار والمستثمرين فى سرية تامة، حتى إذا ما قدمت الحكومة مشروع القانون إلى البرلمان كان هؤلاء قد حصلوا بالفعل مسبقا على كل مطالبهم، فلم يضطر رجال الأعمال ــ رغم سيطرتهم على عدد من أهم اللجان داخل البرلمان، أن يفصحوا عن طلباتهم فى العلن. واقتصر النقاش الحامى الحاد داخل البرلمان على معدل الضريبة، على طريقة «بص العصفورة»، فى حين لم يتمكن أحد من إثارة أمر أخطر المواد التى من شأنها أن تفرغ القانون من جوهره.
وهكذا، نجد أن القانون كما أقره مجلس النواب، يحمل الكثير من العوار سواء من حيث توقيت فرض الضريبة، والهدف المعلن من الضريبة إضافة للصلاحيات المفسدة التى منحها القانون للوزير، وذلك وفقا لورقة أعدتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية «ورقة موقف: خمسة اعتراضات على قانون الضريبة على المضافة».
حمل القانون ثغرات مخيفة تفتح أبواب فساد، بسبب تغول السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية. فقد أعطى القانون سلطات موسعة للوزير ولرئيس مصلحة الضرائب فى إعفاء من شاء من الالتزام بإصدار الفواتير، بل وفى إعفاء أى منشأة من التسجيل فى المصلحة ــ بلا أى قيد أو شرط «المادة 12 والمادة 21»، بدون تحديد أى معايير لمستحقى الإعفاءات. ويا بخت من كان رئيس المصلحة أو الوزير خاله أو خليله.
كما يسهل القانون على المتهربين من دفع الضريبة أن يفلتوا من العقاب الرادع. بل ولا تحال أى قضية تهرب إلى النيابة إلا بموافقة الوزير.
ولذا أتوقع أن تفضى تلك الاستثناءات والتسهيلات إلى التقليل من الحصيلة الضريبية المتوقعة وزيادة تكلفة جمعها. بل وتفريغ القانون من أهم ميزة له، وهى حصر المجتمع الضريبى وزيادة نسبة التعاملات الرسمية فى الاقتصاد، عن طريق الإمساك بالدفاتر.
حكاية المال السائب
ووفقا لنفس الورقة، جاءت المادة الأخيرة من القانون، المادة 74، لتأتى بأمر غير مسبوق فى أى تشريع ضريبى مضى من قبل. وقبل الشرح فلتلك المادة المستحدثة فى النسخة الأخيرة من مشروع القانون قصة، قد تشى بانعدام نبل المقصد.
إذ بدأ وزير المالية ونوابه يروجون للقانون قبيل تقديمه لمجلس النواب، من خلال الظهور فى البرامج التليفزيونية والجرائد والمؤتمرات الصحفية. وكانوا خلال دعايتهم يرددون أن القانون الجديد سيدر لخزانة الدولة حصيلة تقدر بـ30 مليار جنيه. وهو رقم أقل كثيرا مما أدرجته نفس الوزارة فى جداول الموازنة العامة. فالمبلغ فى الموازنة يبلغ سبعة أضعاف هذا المبلغ، أى أكثر من 200 مليار جنيه. وبزيادة تفوق الـ50 مليارا، مقارنة بالعام المالى السابق، جراء تطبيق القانون الجديد.
قد يقول قائل إن المسئولين قد أساءوا التعبير، أو قللوا من شأن الحصيلة كى يتفاخروا بالإنجاز بعد نهاية العام. ولكن المادة 74 تعطى لتلك المعلومة الخطأ التى رددها جميع المسئولين بُعدا آخر.
استحدث القانون مادة تتيح للوزير أن يستخدم جزءا من الحصيلة فى تشجيع الممولين ومكافآتهم بالنظام الذى يحلو له. وهو أمر قد يكون حسنا لتشجيع الممولين من التجار والصناع على الالتزام بالقانون. ولكن خلت المادة 74 من أى إشارة إلى هذا النظام التشجيعى، ولا حتى إحالة إلى اللائحة التنفيذية. ولهذا، حتى لو التزمنا بالتصريح الحكومى بأن الحصيلة من الضريبة على القيمة المضافة تبلغ 30 مليار جنيه «فقط»، فهذا يعنى أن يضع الوزير كل سنة –كل سنة!ــ فى جيبه 300 مليون جنيه ليصرفها كما شاء على من شاء، بلا قواعد سوى ما يقرره هو بنفسه. وهو مبلغ، لمن يريد أن يتخيل حجمه، يزيد مرة ونصف على ما تخصصه الحكومة لتنمية إقليم الصعيد كل عام، ولا تستطيع أن تنفق مليما منه، لأنها لا تجد الأموال اللازمة لذلك.
أما لو أخذنا الرقم الصحيح، بحسب منطوق المادة 74، فإننا نتكلم عن نسبة 1% من إجمالى الحصيلة، أى أن الوزير سيحصل فى جيبه كل عام على مبلغ يصل إلى 2 مليار جنيه، لينفقه على هواه. سواء نجح فى زيادة الحصيلة أو لم ينجح! وهو مبلغ يساوى عشرة أضعاف مبلغ تنمية الصعيد. مبلغ يمكن الحكومة من مضاعفة ما تنفقه على برنامج تكافل وكرامة، والذى لن يغطى العام الحالى سوى أقل من عُشر الفقراء «يبقى تسعة من كل عشرة فقراء فى مصر بلا دخل». أو على الأقل، يغنينا هذا المبلغ عن الاقتراض السنوى بالعملة الصعبة من البنك الدولى كل عام لتغطية نفقات هذا البرنامج.
التضحية بطعام الفقراء
علاوة على ما سبق، حظى محتكرو بعض السلع الغذائية الضارة مثل المقرمشات والمشروبات الغازية على استثناء من دفع الضريبة. وجاء ذلك على حساب صحة المصريين، بعد أن صار معظم الفقراء يحصلون على كثير من السعرات الحرارية اللازمة لإبقائهم أحياء من تلك المنتجات الرخيصة نسبيا شديدة الإضرار بالصحة.
وأخيرا وليس بأقل أهمية، اختارت الحكومة أن توجه الضريبة لتقليل عجز الموازنة، أى عدم توجيه الحصيلة لتحسين التعليم الابتدائى مثلا أو لتحسين التأمين الصحى على الأطفال، أو أى هدف ملموس يسهل مراقبته من قبل المواطنين دافعى الضريبة. كما اختارت الحكومة أسوأ توقيت لفرض ضريبة مؤذية للنمو ومسببة للركود.
وحتى إذا كانت قائمة السلع المعفاة من الضريبة قد شملت جزءا كبيرا من سلة مشتريات الطبقات الأفقر، إلا أن الاحتكارات التجارية المهيمنة على معظم السلع والخدمات سوف تنتهز –بل وانتهزت بالفعل، فرصة إقرار القانون لترفع الأسعار وتحول مزيدا من الأرباح – المعفاة من الضرائب إلى جيوبها، أمام حكومة بلا أسنان، أو اختارت أن تسن أسنانها أمام الأضعف فقط. كما اختارت الحكومة ألا تأخذ بتوصية صندوق النقد الدولى التى توصى بتمرير تلك الضريبة المؤذية للطبقات الأفقر ضمن حزمة ضرائب على الدخول العليا والأرباح والثروات. هى ضريبة لن تضيف للمصريين شيئا وأشك كثيرا فى زيادة قيمة حصيلتها.