أبحاث حول الواقع الاجتماعي- الاقتصادي، في لبنان
الثورة الدائمة
يستميت الكتّاب، حول الوضع الاقتصادي- الاجتماعي في لبنان، قبل الحرب الأهلية، ومنهم من يحتل حالياً مواقع مهمة في الفضاء الأكاديمي، أو حتى في المجال السياسي، في استعمال الأرقام وتحويرها خدمة لأفكارهم وأيديولوجيتهم، لا بل إن البعض منهم يتهم منتقديه بأنهم “أيديولوجيون” وأصحاب “لغة خشبية”، وصولاً إلى “التهريج”.
أياً يكن من أمر، فإن الأرقام تستعمل بمثابة وجهة نظر خاصة، لجهة تبرير هذا الرأي أو ذاك، لذلك من الضروري كشف كيفية التلاعب في الأرقام، توخياً لتحقيق “إشكالية البحث”، من جهة، ومن جهة أخرى لإخفاء أمور غير مرغوب فيها.
كتاب فريد الخازن1 (النائب اللبناني الحالي)، مثله مثل أعمال كتّاب آخرين، يقدم نموذجاً عن التحكم في المؤشرات، وتحويرها للأسباب المذكورة أعلاه. ففي القسم الثاني من كتاب النائب المذكور، وخاصة ضمن إطار الفصل الخامس، الذي عنونه بـ”الفوارق بين الطوائف وسياسات الدولة”، ينطلق القطار المعرفي لفريد الخازن، بالقول: “الحق أن الدولة اتبعت سياسة الحد من تلك الفوارق وتضييقها، وإن يكن تدخل الدولة في هذا المضمار اقتصر على المجال الاجتماعي- الاقتصادي، أكثر منه على مجال السياسة الطائفية”. والخازن أشار، للإنصاف، وإن بطريقة عابرة، إلى أن الحرمان شمل كل الطوائف في كل المناطق. ولم ينس أن يلتفت، بعبارة مبلسمة لآلام ضحايا الإقطاع البائد، في منطقة كسروان وجبيل، فقال إن هاتين المنطقتين عانتا الحرمان، الذي “لم يكن أقل من حرمان المناطق النائية”. بعد ذلك ينتقل الخازن في الصفحات اللاحقة (ص. ٨٧- ١٠٣) ليعرض على قارئيه أرقاماً تدل على التفاوت بين الطوائف، على صعيد المهنة والتعليم، وعدد المدارس، ونسبة المتعلمين، وتوزع الدخل. ويشدد في هذا الإطار على انخفاض هذا التفاوت على مر السنين.
وبالطبع، لا يُتعب الخازن نفسه بإظهار الفوارق، داخل كل طائفة، في الأصعدة المشار إليها أعلاه، كما أنه، في معرض كلامه على تزايد أعداد المدارس الرسمية، إضافة إلى أن الحكومة أنشأت معاهد لتخريج المعلمين، لم يشر إلى أن هذا التزايد لم يحصل تلقائياً، وبسبب كرم النظام اللبناني، إنما تحت ضغط الحركة الطلابية، وخاصة في الجامعات الخاصة، ومن ضمنها الجامعة التي يدرّس فيها الدكتور الخازن، الجامعة الأميركية. فهذه الحركة خاضت معارك حقيقية ضد النظام، بغية الحصول على هذا التزايد الذي أشار إليه الخازن. كما أن الكاتب لم يتفاجأ بالأرقام، التي تشير إلى أن عدد المدارس الخاصة في بيروت وجبل لبنان، هو أعلى نسبياً مما في بقية المناطق؛ كل ما كتبه هو أن الحكومة “أنشأت المدارس الرسمية، في المناطق الأقل حظاً بالرعاية، دون المناطق التي تنعم بالمدارس الخاصة”. والخازن هنا أيضاً لم يتأثر بارتفاع عدد المدارس الخاصة في بيروت وجبل لبنان، ولم يتساءل، بالطبع، عن سبب عدم إنشاء المدارس الرسمية في هذه المناطق، لعلمه المسبق بأن المدارس غير المجانية، بطبيعتها، تمارس إقصاءً للتلامذة، على أساس الدخل، وعلى أساس الإرث الثقافي.
يستنتج الخازن في نهاية هذا الفصل “أن الفوارق بين الطوائف في لبنان لم تكن سياسة الدولة هي المسؤولة عن إحداثها”، ذلك – والكلام للخازن – “أن تلك الفوارق بمعظمها كانت موجودة قبل إنشاء الدولة في العام ١٩٢٠”. ويصرّ على أن المؤشرات الاجتماعية- الاقتصادية المسجلة في لبنان كانت “أفضل” من تلك المسجلة، في دول عالمثالثية طبّقت سياسة مساواتية أثبتت الأيام فشلها، والدليل اندلاع الثورات في العالم العربي. الخازن يقرّ أن الدولة لم “تخطط” لزيادة هذا الحرمان، و”لم تتبع سياسة ترمي إلى توسيع الفجوات القائمة”، إنما نجم ذلك بفعل “سياسة الحرمان”. وبالطبع، فسياسة الحرمان، كما يسميها الخازن، هي أمر عفوي وبريء، وليست سيرورةً مخططاً لها اتبعتها الحكومات المتعاقبة.
حرص فريد الخازن، في الفصل ١٩ من كتابه، على نفي أي علاقة سببية بين العوامل الاقتصادية- الاجتماعية والحرب الأهلية، متبنياً وجهة نظر إيليا حريق وسمير المقدسي، وفي طريقه استعرض عدّة وجهات نظر وصفها بأنها ميالة “أيديولوجياً إلى إبراز قراءة ناقدة لنظام لبنان الاقتصادي الرأسمالي”. 2 ويعترف الخازن بأن “تطور الاقتصاد اللبناني لم يكن متوازناً وأن الحكومات المتعاقبة لم تولِ المناطق الريفية النائية الاهتمام الكافي، ولا بذلت الجهود المطلوبة لتجعل المساواة معياراً في توزيع موارد الدولة والدخل العام”. 3 كما اعتبر أن “اقتصاد السوق المفتوحة… لم تكن تنقصه قدرات التأقلم والتكيف للتعاطي مع مشكلاته”، أي أن هذا الاقتصاد، بحسب الخازن، لو ترك على غاربه، لكان تمكن من معالجة كل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
والخازن ذهب في تحليله حتى النهاية، إذ اعتبر أنه لو تحقق في لبنان نظام اشتراكي فإننا “حتماً باقون أمام المشكلات السياسية والأمنية الناتجة من الوجود الفلسطيني المسلح”. هكذا بكل بساطة يلقي الخازن مخزون اللوم المُضمَر والبارز، في صفحات كتابه، على الآخرين، مخفياً المشاكل (أو مقللاً من شأنها) الاقتصادية- الاجتماعية، وكأن اللاجئين الفلسطينيين لم يعانوا استغلالاً مضاعفاً، أولاً بسبب تهجّرهم من بلدهم، وثانياً بسبب حرمانهم من الحق من العمل، بموجب القوانين العنصرية، التي يتمّ التغني بها.
كتاب فريد الخازن لقي قراءة نقدية من قبل الأستاذ الجامعي، د. ألبر داغر، من خلال مقالة له4، في جريدة الأخبار، حيث اعتبر داغر أن “الدولة وقفت موقف المتفرج إزاء هذه التحولات الكبرى [النزوح الكثيف من القرية إلى المدينة] وليس ثمة حجة يمكن أن تشفع لهذا النظام الاقتصادي، الذي تولّى هدم الريف اللبناني…”. كما ينزع داغر الصفة الأيديولوجية، التي ألصقها الخازن ببعض الدراسات (نصر، دوبار، بتران، عوده)، وهو وصف سياسة الدولة آنذاك بسياسة “اليد المرفوعة”، التي “سهلت النهب”، وتحول التنافس بين أطراف السلطة بين طرف يريد “إبقاء الوضع القائم وطرف يطالب بالمشاركة”. كما يعتبر داغر أن سياسة الحكومة كانت عاجزة عن معالجة مشكلة التضخم أو الغلاء، وأن ذلك لوحده ساهم في تعبئة الناس و”إقناعهم بضرورة التفتيش عن بديل له”. وختم داغر الجزء الأول من مقالته ،عندما أجاب عن سؤال الخازن عن علاقة الأوضاع الاقتصادية السيئة بالحرب، فقال إن الدول لا تشهد “بالضرورة حروبا أهلية، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية. بل جاءت الحروب على الدوام من امتناع الدولة عن، أو عدم قدرتها على ممارسة شروط سيادتها الداخلية”.
وقد كرر ألبر داغرخطأً، ورد في مقالته، في جزئيها، الأول والثاني5، إذ اعتبر أن الحل في لبنان كان سيكون على يد نخبة من العسكريين(؟!). ففي الواقع، أثبت التاريخ عدم جدوى هكذا حل، الذي كان، مرة، على شكل مهزلة انقلاب الأحدب، الكاريكاتوري، في بداية الحرب الأهلية اللبنانية، أو هو، الآن، على شكل مآسٍ، كما هي الحال، بصورة أو بأخرى، مع النظام السوري، الذي يمضي الشعب السوري، في ثورته المستمرة، لإسقاطه6.
أما أستاذ الاقتصاد، سمير المقدسي7، فكان يود “لو أن التفاوت في عملية الإنماء بين مختلف المناطق قد عُمِل على تخفيفه”، وكذلك تضييق الهوة بين الطبقات، كما يضيف أنه كان “يجب تطبيق سياسة إجراءات تصحيحية مناسبة لتحسين الوضع القائم”8 . وهنا المقدسي يعترف، على العكس من الخازن، أنه كان على النظام إجراء خطوات تصحيحية.
فالدكتور سمير المقدسي يعدد في كتابه، ” بين الاقتصاد والحرب والتنمية”، مجموعة احصاءات تظهر الفوارق في الدخل بين الطبقات الاجتماعية، ويبدي تذمراً من غياب دراسات مبنية على إحصاءات رسمية حول هذا الأمر، وبالتالي اعتمد في كتابه على إحصاءات خاصة وشبه رسمية؛ وفي الواقع كان عليه استهجان غياب هذه الدراسات الرسمية، وأن يعتبر ذلك نهجاً اتبعته السلطة المتخلية عن دورها الاجتماعي- الاقتصادي. كما أنه يعتبر أن معظم الدراسات قد اقتصرت على بيروت، ويرى أنها لو شملت كل لبنان لأظهرت “نتائج مغايرة وأكثر خللاً وانحرافاً”9. كما أنه في هذا الإطار يستشهد بإيليا حريق، الذي اعتبر أن نتائج دراسة بعثة إيرفد كانت منحازة، حيث “بالغت في تضخيم حجم طبقة الفقراء… وبالغت في تكبير حجم الطبقة الصغيرة من كبار الأغنياء”10. لكنّ المفارقة في دراسة المقدسي هي في حديثه عن ارتفاع معدلات الالتحاق بالمدرسة، وانخفاض معدلات الأمية؛ ويفتخر بكون لبنان كان “متقدّماً” على الدول العربية على المستوى التعليمي. وبعد أن أشار إلى أن نسبة البطالة كانت ٣،١ بالمئة عام ١٩٧٠ (بحسب دراسة أجرتها مديرية الإحصاء)، بفعل “نمو الاقتصاد الوطني واتساعه”، برر في نهاية المطاف سبب حدوث “درجات متفاوتة من الخلل في التوازن بين العرض والطلب قد نشأت في ما يخص الفئات المختلفة من القوى العاملة” بغياب التناسق، على صعيد الاختصاص، الذي يحصل في الدراسة الجامعية، وبسبب وجود عدد كبير من القوى العاملة غير الماهرة. إذاً فالبطالة مرتفعة، بحسب هذا التحليل المقدسي، لسبب يتحمل مسؤوليته العامل، وبالتالي يصبح النظام التعليمي بريئاً من تخريجه هذا العدد من “العمال غير المهرة”. إن المقدسي لم يعتمد في دراسته هذه على أرقام نسب البطالة، التي أوردها في هوامش كتابه . وهذه الأرقام وردت ضمن دراسة لسليم نصر الذي أشار إلى أن “مستوى البطالة بلغ، عام ١٩٦٩ ، ١٠ إلى ١٣ بالمئة ، وارتفع إلى ما بين ١٥-٢٠ بالمئة عام ١٩٧٤” (ص. ٢٧٥)11. والمقدسي يفضل الأرقام “الرسمية” وينأى عن الدراسات الخاصة، عندما لا تناسبه (؟)، ولكن عندما يكتب التالي: “وجود قطاع خاص مبادر ومقدام تدعمه سياسة الحكومة الاقتصادية التي صبت في مصلحة توسعه ونموه”12 يبطل العجب، وعوضاً من أن تهتم الحكومة بالمقدار نفسه، إن لم يكن أكثر، بالفئات المهمشة والمسحوقة، ففي نهاية الفصل الأول يقرّ المقدسي بأن “تضييق هوة التفاوت بين المناطق على الصعيد الاجتماعي- الاقتصادي… كان سيشدّ أواصر العلاقات بين فئات المجتمع”13.
سمير خلف14، من جهته، يمتدح النظام اللبناني، باعتباره أطلق الليبرالية الاقتصادية، في عهد بشارة الخوري، لكن ذلك “لم يعفِ الدولة من تطبيق سياسة الاستثمار في المرافق العامة وحقل الخدمات”15. بالإضافة إلى إنشاء عدد من المؤسسات الحكومية في عهد كميل شمعون، ليصل إلى عهد فؤاد شهاب حيث “اتخذت مسألة الجمع بين التخطيط الاقتصادي والإنماء المتوازن للمناطق اللبنانية والعدالة الاجتماعية…. أبعاداً أكثر بروزاً وتحديداً، حيث “شهدنا… [في هذا العهد] مثالاً محسوساً على الربط بين مفهوم كينز الاقتصادي والليبرالية الكلاسيكية”16 .وعدد خلف المؤسسات العامة التي أنشئت في عهد فؤاد شهاب. ويضيف في مكان آخر أن لبنان سجل في الثلاثين سنة، التي سبقت الحرب الأهلية، “انخفاضاً في الفوارق الاجتماعية- الاقتصادية، بين مختلف طبقات المجتمع”17. ولا شك في أن خلف يتماشى مع الملاحظات الموجهة ضد “الاعتماد المتعاظم للاقتصاد اللبناني على رأس المال الأجنبي”، لأن ذلك يؤدي إلى “بعض المهاوي الخطرة”، كما يوجه نقداً خجولاً، حين يقول إنه بتحول لبنان إلى مركز عالمي للترانزيت فإن ذلك “عزز الموقع والامتيازات الاحتكارية لعدد ضئيل من كبار التجار الذين استفادوا من علاقات تبادل المنافع مع السياسيين النافذين”18. أهذا هو، بحسب الكاتب نفسه، الترابط بين الكينزية والليبرالية الكلاسيكية؟
خلف يتجاوز هذا “النقد” الملطف ليقول لاحقاً إن لبنان لم يكن مجرد مركز للترانزيت، إنما استثمر مبالغ ضخمة، في تطوير المجالين الزراعي والصناعي. ويعتبر أن انخفاض عدد العاملين في المجال الزراعي يعود إلى “تطور العلوم والتكنولوجيا”، وليس إلى موجات النزوح الكثيفة من الريف إلى المدن. لكن من يتتبع تحليل سمير خلف يلاحظ أنه أقرّ لاحقاً بوجود نوعين من النزوح، الأول بسبب “انخفاض… في المشاركة التقليدية في المحاصيل بين مالكي الأرض وزارعيها”، وهذا الأمر أصابهم بـ”المهانة” [التعبير لخلف]، بسبب تحولهم إلى عمّال بالأجرة، كما يعتبر أنهم عانوا “ذل [كذا!!] المنافسة مع… اللاجئين الفلسطينيين والسوريين”، والنزوح الثاني كان قسرياً، بفعل عدوان العدو الإسرائيلي المستمر على الجنوب. لكن هذا النوع من النزوح لم يعجب خلف، لأنه لم يمر “بمرحلة وسيطة تشكل مجالاً للتكيف مع البيئة المدينية الجديدة”19، وسرعان ما أصبحت “هذه الجماعات الساخطة المهجرة… هدفاً سهل المنال لأي شكل من أشكال التعبئة السياسية”.
لكن خلف يصرّ على أن القطاع الزراعي قد حقق “انجازات”، من حيث حرص الفلاح على تثمير أرضه، الأمر الذي أدى إلى “ترسيخ ارتباطه” بها. ويجزم من جهة أخرى أن “صغار المزارعين لم يكونوا ضحايا كبار ملاكي الأرض وقدامى الإقطاعيين”20. أما في ما خص القطاع الصناعي فيتعارض خلف مع وجهة نظر سليم نصر، القائلة إن المؤسسات الصناعية الصغيرة والحرفية “هي المسؤولة عن معظم الأزمة التي يعانيها القطاع الصناعي، خصوصاً في ما يتعلق بالموقع الهامشي لهذا القطاع، في الاقتصاد اللبناني ودوره في إعادة تثبيت هيمنة رأس المال الاستغلالي”21 .في مقابل هذه الفكرة يقول خلف إن هذه المؤسسات الصناعية الصغيرة والحرفية “أظهرت اهتماماً إنسانياً بمصلحة عمالها”، وهذا الاهتمام، والكلام دائماً لخلف، كان له دور كبير “في الحد من التوتر الذي كان يعانيه القطاع الصناعي، والنزاعات التي كانت تقع بين الصناعيين وعمالهم”. هنا يكشف خلف مرة أخرى عن وجهه الحقيقي، مُبيِّناً تفضيله للمؤسسات الصناعية الصغيرة والحرفية، حيث تعبئة العمال صعبة تجاه أصحاب العمل، وبذلك يتخلص خلف من التوترات الطبقية غير المرغوب فيها.
في المقابل، يرى توفيق كسبار22، في انطباعه الأولي حول النمو والإنماء في لبنان، أن حصة الفرد من إجمالي الناتج المحلي الفعلي قد “ازدادت ٣ بالمئة خلال الفترة ١٩٥١- ١٩٧٤، ورغم “تسجيل استمرار عجز تجاري كبير، بقي ميزان المدفوعات إيجابيا”23. وعلى الرغم من أن الاقتصاد اللبناني بحسب كسبار “كان قد انطلق في ظروف مؤاتية بشكل استثنائي: صناعة نشطة، ووضع مالي قوي، ومعدل أمية منخفض نسبياً، وأسواق عربية مرحبة بالصادرات اللبنانية”، بالإضافة إلى أعلى دخل فردي سنوي بين الدول النامية، لكن هذه “الظروف المؤاتية التي كانت سائدة آنذاك لا تتوافق مع غياب الأداء الاقتصادي والإنمائي القوي”24. من هنا يفكك كسبار أرقام الأداء الاقتصادي في لبنان، فيُظهِر على العكس من الخازن والمقدسي أن “معدل النمو في لبنان للفرد من إجمالي الناتج الوطني هو أدنى بشكل واضح مما كان في تلك البلدان ذات الاقتصاد غير النفطي، في المنطقة”25. ويفسر كسبار التناقض بين ما “يُقال عن المستوى المعيشي المرتفع” و”حقيقة أن ذلك الأداء هو أداء عادي”، بالقول إن الأرقام التي دلت على المستوى المعيشي المرتفع كانت مرتكزة على دراسات أجريت في بيروت ووسط جبل لبنان، وبعثة إيرفد جاءت لتكشف التناقض بين المناطق.
كسبار يعتبر أن الليبرالية الاقتصادية لم تكن “نظاماً كفياً ومنتجاً، مثلما كان مزعوماً أو متوقعًا منها”. وبما خص توزيع الثروة والدخل، بقي ذلك “غير عادل بإجحاف” ومستوى مهارات العمال كان متواضعا.ً وبعد أن يقارن كسبار بين عدة أرقام تتعلق بتوزيع الدخل والثروة يستنتج أن “القاسم المشترك لنتائج هذه المسوح هو أن نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر”26. كما يبين كسبار أن أكثر من ٨٤ بالمئة من إجمالي الادخار كان بيد ٣ إلى ٤ بالمئة من الأسر حتى منتصف الستينات”، كما “حصل ٥ بالمئة في نهاية العام ١٩٧٤ على ثلثي القروض المصرفية التجارية”27. وأشار كسبار إلى “أن الثروة المالية هي من أكثر الأشكال التي يظهر فيها توزيع عادل للثروة” الأمر الذي “يدل على فشل النظام الاقتصادي في عملية تحويل الموارد المادية والبشرية إلى ثروة مالية”28.
كما دقق كسبار في الأرقام المتعلقة بالتعليم والمهارات والثقافة في ظلّ الليبرالية، ليستنتج، مستنداً إلى مسح القوى العاملة في لبنان (Population active au Liban)، أن نسبة الأمية، بعد ربع قرن من تأسيس الليبرالية الاقتصادية، كانت تقدر لفئة من هم أعلى من “عشر سنوات ٣٢ بالمئة، عام ١٩٧٠، بما فيها ٢٢ بالمئة كنسبة أمية للرجال، و٤٢ بالمئة للنساء”29. وبما أنه من الشائع القول أن “المستوى العالي للدخل والثروة له علاقة بالمستوى التعليمي العالي”، فهذه المعادلة تنطبق أيضاً على لبنان، “حيث أن معظم الأفراد الذين يملكون دخلاً عالياً هم من الحاصلين على التعليم الثانوي، على الأقل”30، وبينت إيرفد “تبايناً اقتصادياً وثقافياً كبيرًا بين الريف والمراكز المدينية”31. وبحسب كسبار، فإن النتائج التي توصلت إليها البعثة الفرنسية “عن التخلف الثقافي الكبير في المناطق الريفية، والتي كان يشكل سكانها ٦٠ بالمئة من تعداد السكان في لبنان، آنذاك، جاءت معاكسة للصورة عن لبنان بأنه مركز ثقافي إقليمي”. من ناحية أخرى، تبيَّن لكسبار، بعد اعتماده على ثلاثة مصادر (إيرفيد، مسح القوى العاملة عام ،١٩٧٠ ومسح أجرته الجامعة الأميركية في بيروت عام ١٩٧٠)، أن “٨٠ بالمئة من العاملين حاصلون على الشهادة الابتدائية، على الأكثر،” وبالتالي “تنسف الفكرة القائلة والسائدة حتى اليوم بأن قوة الاقتصاد اللبناني تكمن في مهارة قوته البشرية”.
تراوحت الأجور، في القطاع الخاص، بحسب كسبار، في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية بين “٣٠ و٣٣ بالمئة من إجمالي الناتج المحلي”، أما في القطاع العام فبلغت الأجور حوالى ٦ بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، في حين “بلغت الأرباح نصف إجمالي الناتج المحلي”32. في الدول الصناعية، سُجلت خلال فترة ٧٣- ٨٢ المعدلات التالية: “ثلثا الناتج للأجور والربع للأرباح”33، ويعتبر كسبار أن القضية لا تكمن في “كون نسبة الربح مرتفعة أو منخفضة، بل بمدى إعادة استثمار تلك الأرباح”.
بما خص الكفاف المعيشي وهيكلية الأجور، ينطلق كسبار من نظرية كوزنيتس القائلة إن “مسار النمو الاقتصادي في نظام السوق يقترن في مراحله الأولى بتوزيع غير عادل في الدخل، لكن الانحراف في التوزيع يتضاءل في ما بعد مع تطور النشاط التصنيعي والانتقال إلى المدن”#. لكن هذا الأمر لم يحصل في لبنان. يعرّف كسبار الكفاف المعيشي بكونه “مستوى دخل يؤمن أولاً الحاجات الأساسية، من طعام ومأوى، كما يؤمن حاجات ضرورية أخرى تختلف عادة باختلاف المستوى المعيشي العام في البلد، في مرحلة زمنية معينة من تطوره”#، فيتبين مع كسبار “المستوى المتدني للأجور نسبة إلى مستوى الكفاف المعيشي”؛ وكما أن “الحد الأدنى للأجور بلغ معدله على مر السنين نحو نصف مستوى الكفاف المعيشي”، يستنتج كسبار أنه “لم تؤد هيكلة الأجور [بفعل انخفاضها] في ظل الليبرالية الاقتصادية في لبنان إلى توسع نطاق العمالة المأجورة”. وقدرت العمالة المأجورة في لبنان بين الخمسينيات والسبعينيات بمعدل يتراوح بين ٣٠ و٣٩ بالمئة من إجمالي العمالة من العمال، بأجر منتظم- في القطاع الخاص- ؛ أما معدل العمال بأجر غير منتظم فتراوح بين ١٠ و٢٣ بالمئة، عن الفترة الزمنية نفسها، والملاحظ تزايد معدل العمل المأجور في القطاع الخاص، في حين تناقصت العمالة خارج “العمل المأجور في القطاع الخاص” (أي العمال المستقلون، وأرباب العمل، والمساعدة العائلية، والمأجورون لدى الدولة)#.
في هذا الإطار، وعلى الرغم من استقرار مالي ومكننة الانتاج، وتحسين مستوى الانتاجية، وبوجود مستوى متدن للأجور، كانت “تسمح هذه الربحية للكثير من رجال الأعمال بمستوى معيشي مرتفع، ولم يكن عند العديد منهم…. الدافع القوي لمزيد من المخاطر بزيادة حجم استثماراتهم”. فمبدأ الربحية الجيدة، ضمن نظام اقتصادٍ للسوق، يؤدي إلى “زيادة الاستثمار والانتاجية غداً”# ،لم ينطبق على لبنان.
كما ساهمت التحويلات الخارجية إلى لبنان بإعانة العمال في معيشتهم، وكان “الدخل الإضافي الآتي من مصادر أخرى غير العمل، بالنسبة إلى ٤٠ بالمئة من الأسر، يوازي ٢٦ بالمئة من إجمالي دخلهم”#، وهذا الأمر “ساهم بالتخفيف من ضغط الأزمة، وسمح للنظام بالاستمرار من دون تغيير قواعد اللعبة”#.
يبرر كسبار أسباب تزايد النزوح، من الريف إلى المدينة، بفعل تشتت الأراضي الزراعية إلى قطع زراعية صغيرة، بسبب قوانين الإرث، والدخل المتدني من الزراعة وتدني الانتاجية، فانخفضت “نسبة العمالة في الزراعة من ٥٥ بالمئة عام ١٩٥٠ إلى ١٩ بالمئة عام ١٩٧٠”#. وقد عانى المزارعون من ديون كبيرة وجشع التجار، حيث بلغ “هامش ربحهم من المنتجات الزراعية حوالي ٨٣ بالمئة من القيمة المضافة في الزراعة، خلال ١٩٦٤- ١٩٧٠”#، وكان القطاع الزراعي بمجمله “ينال أقل من ٣ بالمئة من إجمالي القروض للقطاع الخاص”# ،التي تذهب بمجملها إلى المزارعين الكبار. وعلى الرغم من محافظة أغلبية المزارعين على استقلالهم الاقتصادي، إلا أن هذا الاستقلال لم يكن ليتم لولا “تحويلات الأقارب من خارج الوطن وداخله”#.
هذا وقد استحوذ القطاع الخدماتي على مجمل العمال النازحين، في حين كانت حصة القطاع الصناعي منهم ضئيلة، وعلى الرغم من ” أن أغلب المصانع كانت من فئة أقل من ٥ عمال (بحدود ٨٠ بالمئة)، يعمل فيها ثلث العمالة الصناعية، في حين شكلت المصانع ما فوق ٥٠ عاملاً ما نسبته ١ بالمئة من عدد المنشآت، وعمل فيها أيضاً أقل بقليل من ثلث اليد العاملة الصناعية”#. كما يعتبر كسبار أن لبنان فوّت عليه فرصة تاريخية للتحول إلى بلد صناعي، بفعل “الازدهار الاقتصادي الظاهري الذي جاء مع تأسيس نظام الليبرالية الاقتصادية الجديد، والذي أصبح فعلياً البديل، إن لم نقل النقيض، لاستراتيجية صناعية ناجحة محتملة”#.
الإصلاح من فوق؟
ُقدََّمت التجربة الشهابية، وتجربة وزراء سُموا إصلاحيين (إميل البيطار- الياس سابا…)، على أنها تجارب حاولت تحقيق الإصلاح، ولكنها فشلت في ذلك، أو مُنِع أصحابها من تحقيقه.
التجربة الشهابية جاءت عقب حرب ١٩٥٨ الأهلية، كتسوية إقليمية- دولية حاولت امتصاص النقمة الشعبية، حيال السياسات الاقتصادية- الاجتماعية المتبعة آنذاك. وسمير خلف يعدد في كتابه “الإنجازات الشهابية”، ويعتبر أن “مسألة الجمع [في عهد شهاب] بين التخطيط الاقتصادي والإنماء المتوازن للمناطق، والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية، (اتخذت) أبعاداً أكثر بروزاً وتحديداً”#. وخلف يشاطر بطرس لبكي رأيه، حين اعتبر أن عهد شهاب قدّم مثالاً محسوساً على الربط بين مفهوم كينز الاقتصادي والليبرالية الكلاسيكية، وبعد أن يعدّد المؤسسات والإدارات التي أُنشِئت في هذا العهد، يعتبر أنه كان لا بد من حكومة صارمة قادرة على لجم الوضع الأمني، فكان “اعتماد الحكم على قوات الأمن، بما فيها جماعة الشعبة الثانية في الجيش، التي عرفت بشدتها وقمعها، أحياناً [كذا]”#.
وفي هذا الإطار، يشير توفيق كسبار إلى أن العهد القصير للرئيس شهاب دعم “نظام الليبرالية الاقتصادية، وجعله أكثر انتاجية، من خلال تحسين البنى التحتية البشرية والمادية، بكلفة منخفضة جداً للقطاع الخاص، أو لرجال الأعمال”#، ما يعني أن فؤاد شهاب لم يتّبع سياسة لإعادة توزيع الثروات. وهو يعتبر أن الحكومات في لبنان لم تنافس القطاع الخاص، إنما استوعبت قسماً من العمالة المتزايدة، التي يعتبرها كسبار تفتقر إلى المؤهلات والمهارات الضرورية، بحيث إنه كان “من الصعب على العديد من أولئك الموظفين أن يحصلوا في القطاع الخاص على عمل مماثل”#، وهذا ما يؤشر إلى أن المشكلة كانت، من جهة، في النظام التربوي في القطاع العام، الذي على الرغم من استيعابه تقريباً نصف عدد الطلاب، لكن الحكومات المتعاقبة لم تعطِه الاهتمام اللازم، خدمةً لمصلحة المدارس الخاصة التجارية، علماً بأن الحركة الطلابية داخل الجامعات الخاصة وَعَت أهمية تطوير الجامعة اللبنانية والمدارس الرسمية، في مواجهة الجامعات الخاصة وسياستها الاعتباطية، في زيادة الأقساط، طمعاً بزيادة الأرباح. والمشكلة كانت، من جهة أخرى، في سياسة الدولة التوظيفية، فهي حافظت على مراكز القوى السياسية في توزيع الحصص عليها، من خلال الوظائف في الإدارة، من دون أي اعتبار لمبدأ الكفاءة. كما أن الهيكلية الإدارية ساهمت في انتشار شريحة بيروقراطية غارقة في الفساد، من خلال ارتباطها بالطبقة الحاكمة. وهذه الكتلة (الشريحة البيروقراطية والطبقة الحاكمة) أضرّت بشكل بالغ بمصالح المواطنين.
ففؤاد شهاب من خلال خلقه “المؤسسات العامة الموازية للإدارة العامة… من خلال استيعابه لطبقة موظفين تكنوقراطية”# لم يعالج بذلك الفساد الإداري، إنما رسخه، من خلال الإبقاء على الإدارة السابقة كما هي، وأضاف إليها عناصر جديدة.
هذا ويرى فواز طرابلسي أن فؤاد شهاب زود البلد بطاقم بديل من الزعامات التقليدية، كما أنه [أي شهاب] “ساعد على عودة الوجهاء الذين أقصاهم شمعون عن المجلس [النيابي]… وشجع… على صعود وجهاء جدد تدعمهم القوى الأمنية”#. هكذا إذاً، لم يكن الأمر توزيعاً للثروات، إنما اقتصر الأمر على إعادة توزيع المراكز السياسية. كما يضيف فواز طرابلسي في مكان آخر أنه بسبب التنظيمات الاجتماعية، عبر قانون العقود الاجتماعية وإنشاء صندوق الضمان الاجتماعي، “جرى ضبط النزاعات الاجتماعية والتحكم بالنقابات العمالية، من خلال الأجهزة الأمنية، فلم يشهد عهد شهاب أي إضراب عمالي أو بالكاد”#. هنا لا بد من ذكر قول للينين، عندما ركز على المسافة الكبيرة بين الوعي النقابي والوعي الثوري، حين قال: “إن التطور العفوي لحركة الطبقة العاملة يؤدي إلى إخضاعها للأيديولوجية البرجوازية… فالحركة العفوية للطبقة العاملة هي النقابوية… والنقابوية تعني إخضاع العمال أيديولوجياً للبرجوازية”. وفي هذا الإطار، وفي سياق العهد الشهابي، الذي هللت له الأحزاب اليسارية والتقدمية، باعتباره نصراً على العهد الشمعوني البائد، يمكن تعديل الجملة الأخيرة لتصبح النقابوية ، من دون وعي أغلب اليسار لأهمية دوره في نشر الوعي الثوري، تعني إخضاع العمال أيديولوجياً، بمساهمة من الأجهزة الأمنية للبرجوازية.
في الواقع، وبما يتعلق بقول توفيق كسبار: “من الصعب على العديد من أولئك الموظفين [في القطاع العام] أن يحصلوا في القطاع الخاص على عمل مماثل”، لا بد من الإشارة إلى إضراب المعلمين عام ١٩٧٣ وما يدل على وعيهم النقابي والمهني، حين أوردوا ضمن سلة مطالبهم: تحقيق ديمقراطية التعليم، وتعميم التعليم الرسمي وجعله إلزامياً، بالإضافة إلى تعديل المناهج وتوحيد الكتاب المدرسي… هذا الطرح والإضراب قوبل بموقف أكثر من متعنّت لوزير المال فؤاد نفاع: نصرف الباقين، ١٠ آلاف معلم نصرفهم، الإضراب ممنوع على الموظف، ومن يضرب يصرف…. مستعدين أن نغلق المدارس [الرسمية] سنة وسنتين، حتى لا نقول في يوم من الأيام، إننا خضعنا لإضراب حظره القانون [المادة ١٥ من قانون الموظفين تحظر على موظفي القطاع العام الإضراب]”#. هل هذه هي آثار الإصلاح الإداري الشهابي؟ وهل هذه هي الكينزية المتحدث عنها؟ ولتوضيح موقف المنظومة الفكرية المتحكّمة بالإدارة وبالقضاء الإداري، الذي يراقب الإدارات العامة، يقول “اجتهاد” لمجلس شورى الدولة، صادر في ٢٣ تشرين الأول عام ١٩٦٨، التالي: “إن الأمر [إنشاء النقابات] يختلف في القطاع العام عنه في القطاع الخاص، حيث تقوم العلاقة مع الدولة على مبادئ عامة مستمدة من الوجود والاستمرار فيه، ومن واجب المحافظة على الجماعة… إن إنشاء قوى موازية ضاغطة في إدارة الدولة يحول هذه السلطة إلى مجرد رب عمل، مع ما يترتب على هذا الوضع من المساس رويداً رويداً بقدرتها على العمل، وما يؤدي ذلك إلى الإضرار بمصالح المجموع، خصوصاً في بلدان محدودة الإمكانات والموارد [كذا]”.
وفي موضوع تدخل الدولة في مجال التخطيط، يعتبر جورج قرم في كتابه، حول “السياسة الاقتصادية والتخطيط، في لبنان”#: “إن التخطيط [خلال عهد فؤاد شهاب] بقي نشاطاً داخل الإدارة، من خلال النصوص التشريعية، وبعيداً عن سياسة تنفيذية على أرض الواقع… والتخطيط لو استمر على النحو المتبع [في ذلك العهد] لكان يمكن الخشية من أنه، بعيداً عن أي ديمقراطية عميقة، كان الأمر سيؤدي إلى نوع من سلطوية تكنوقراطية”#. ولإعطاء مثل بسيط على طبيعة عمل المؤسسات الموازية، التي أنشئت في عهد شهاب، كالمشروع الأخضر، يعتبر محمد مراد، في كتابٍ له# ،أن هذا المشروع كان في خدمة كبار الملاك في جنوبي لبنان، حيث سجلت تلك المنطقة أعلى نسبة للأراضي المستصلحة، بواسطة المشروع الأخضر، على صعيد لبنان، إذ بلغت أقل من الثلث بقليل. على الرغم من ذلك فقد “استأثر كبار ومتوسطو الملاك الذين تزيد ملكيتهم عن ٥ هكتارات، والذين لا يشكلون سوى ٢٥ بالمئة من إجمالي المستفيدين، استأثروا بحوالى ٥١ بالمئة من مجمل قروض المشروع الأخضر… [كما] أظهرت وزارة التصميم في تقرير لها، أن ٥٣ بالمئة من المستفيدين من قروض المشروع يعملون في الزراعة، بينما ال٤٧ بالمئة الباقين يزاولون نشاطات اقتصادية غير زراعية، وأن المردودية الزراعية، لا تمثل سوى دخل إضافي لهم”#. هكذا إذاً، كانت الاتهامات بتبديد أموال الخزينة، التي أطلقتها البرجوازية “المتضررة” من حكم فؤاد شهاب، محقة في العلن، أما في الواقع “الخفي” فكانت تتأقلم تلك البرجوازية مع التغييرات الظاهرية، لتتمكن من التمدد، حيث المال والربح الوفير.
وبالإضافة إلى العهد الشهابي، برز ضمن الحكومات اللبنانية المتعاقبة، قبل الحرب الأهلية، وزراء نُعتِوا بالإصلاحيين، منهم إميل البيطار والياس سابا. حيث قام الأول عام ١٩٧١ بإصدار قرار في ٣١ تموز يعلن فيه تخفيض أسعار الأدوية، وسرعان ما وافق مجلس الوزراء، بالإجماع، على القرار المذكور، وذلك في ١١ آب، “كما وافق عليه مجلس النواب بالإجماع أيضاً، في الجلسة التي عقدها بتاريخ ١٢ آب”#. وهذا التخفيض جاء إثر حملة نقابية قام بها الاتحاد العمالي العام والأحزاب اليسارية والتقدمية، وأظهرت الجهات المذكورة، من خلال بياناتها، الفرق في سعر الأدوية بين لبنان وسوريا، إذ تراوح الفرق بين ٢٠و ٣٠ بالمئة، إثر ذلك شن محتكرو ومستوردو الأدوية حملة مضادة، حيث طردوا قسماً من العمال في شركاتهم، وهددوا بطرد من تبقى منهم. أما نقابة عمال وموظفي مستودعات الأدوية فتعاطفت مع الشركات المستوردة، وهاجمت وزير الصحة بشراسة، وضغطت على الحكومة بحيث لم توافق الأخيرة على مشروع قرار تقدم به وزير الصحة لسحب “تراخيص الاستيراد من أصحاب المستودعات التي تحجب الأدوية عن السوق”#. إثر ذلك قدم الوزير استقالته.
ورداً على موقف الياس سابا، وزير المالية، آنذاك، الذي أصدر مرسوماً في ١٥ أيلول ١٩٧١ رفع بموجبه الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة من الخارج، بهدف وضع زيادة على البضائع الكمالية وحماية الصناعة الوطنية، بدأ التجار إضراباً مفتوحاً، في ٢٠ أيلول من ذلك العام. فارتفعت أسعار السلع، لأن المرسوم “كان يجب أن تسبقه إجراءات احترازية لضبط الأسعار”#. وقد تخلل إضراب التجار صراع عنيف، بين كبار التجار الراغبين بشدة في استمرار الإضراب وصغارهم الراغبين بإنهائه، وكان موقف الاتحاد العمالي العام مؤيداً للقرار، ولكنه أبدى تحفظه ومخاوفه من انعكاسه على أسعار السلع، وطالب بحصر الرسوم الجمركية على الكماليات، بالإضافة إلى إجراءات ضريبية أخرى. وفي نهاية الأمر تراجعت حكومة صائب سلام عن القرار.
في الواقع، إن الإجراءات الإصلاحية المذكورة أعلاه هي حالات فردية، ولا تأتي ضمن سياق مطلبي برنامجي محدد؛ والوزراء بخطوتهم كانوا يدركون آليات إعادة إنتاج السيطرة والخضوع، أو أنهم أدركوا ذلك بعد الاستقالة (حالة البيطار)، أو كسر قرار الوزير (حالة سابا). كما أن “التناقضات موجودة دوماً في الكتلة الحاكمة، وهي تنصب على قضايا ذات أهمية ثانوية، نسبياً… [سابا والبيطار]، ولكن أيضاً، وفي بعض الأحيان، على القرارات السياسية الكبرى”# [كما الحال بالنسبة إلى موقف كمال جنبلاط والبرجوازية السنية والشيعية من الحكم، في تلك الحقبة، بالإضافة إلى التجربة الشهابية]. ولا يعني هذا الكلام تأييد احتكار استيراد الأدوية، أو الوقوف إلى جانب التجار في تحكمهم بالأسعار، وجني الطرفين أرباحاً طائلة، فتحاول “الأقسام المختلفة من الكتلة الحاكمة… تأمين الدعم لنفسها ضد الأقسام الأخرى من الكتلة، أي عندما تحاول إدخال الجماهير في ميزان قوى يلائمها، إما لفرض حلول أكثر مواءمة لمصالحها، أو للعمل بفعالية أكبر ضد حلول تعود بالفائدة على الأقسام الأخرى”#.
إن معركة وزير، ضمن النظام الحاكم، لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تكون معركة بدل عن ضائع بالنسبة لليسار، وعلى كل وزير، إذا أراد أن يكون تغييرياً، بصورة جدية، أن يستقيل من الحكومة، وينضم إلى المتظاهرين، ضدها. كما الحال، حين تجمَّع هؤلاء، أمام مجلس النواب ، في العام ١٩٧٢ ، في تلك الفترة الحارة ، والحادة جداً من تنامي الصراع الطبقي، خلال مظاهرة تضامنية مع عمال معمل غندور، وألقى كمال جنبلاط كلمة فيهم لم ترْقَ، بالتأكيد، إلى مستوى القطع مع النظام القائم. فكيف الحال، إذا نظرنا إلى سلوك الوزيرين “الإصلاحيين” المذكورين، اللذين اكتفيا بإعلان موقف، داخل جدران مجلس الوزراء، لم يدعماه، بالتأكيد، بما يجعلهما في موقع المواجهة الجذرية مع السلطة القائمة، وقاعدتها الطبقية ! حيث أنه لو كانت تلك هي الحال، لكان على أمثال هذين أن يلتحقا بالحراك الجماهيري، وبالتظاهرات التي لم تكن تهدأ، ليهتفا مع المتظاهرين، تماماً كما فعل هؤلاء، يومئذ، امام مجلس النواب: “٩٩ لص و١٧ حرامي” (عدد النواب والوزراء آنذاك)(!!!).
المراجع والمصادر:
– البواري، الياس: تاريخ الحركة العمالية والنقابية في لبنان: (١٩٧١- ١٩٨٠)، الجزء الثالث، ط ١، دار الفارابي، بيروت، ١٩٨٧
– بولانتزاس، نيكولاس: نظرية الدولة، تر: ميشيل كيلو، دار التنوير، بيروت، ٢٠٠٧
– الخازن، فريد: تفكك أوصال الدولة في لبنان (١٩٦٧- ١٩٧٦)، تر: شكري رحيم، ط ٢، دار النهار، بيروت، ٢٠٠٢
– خلف، سمير: لبنان في مدار العنف، قراءة في تدويل النزاعات الفئوية، تر: شكري رحيم، ط ١، دار النهار، بيروت، ٢٠٠٢
– سماحة، عماد: جدلية الحركة والوعي بين أفراد الهيئة التعليمية في لبنان، ط ١، دار الفارابي، بيروت، ٢٠٠٦
– طرابلسي، فواز: تاريخ لبنان الحديث، من الإمارة إلى اتفاق الطائف، ط ١، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ٢٠٠٨
– كسبار، توفيق: اقتصاد لبنان السياسي (١٩٤٨- ٢٠٠٢)، في حدود الليبرالية الإقتصادية، تر: فاتن الحريري زريق وتوفيق كسبار، ط ١، دار النهار، بيروت، ٢٠٠٥
– المقدسي، سمير: بين الإقتصاد والحرب والتنمية، العبرة من تجربة لبنان، تر: شكري رحيم، ط ١، دار النهار، بيروت، ٢٠٠٤
– مراد، محمد: التملك والسلطة في الجنوب اللبناني (١٩٢٠- ١٩٧٥)، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، ٢٠٠٩
– Corm, Georges: Politique Economique et Planification au Liban (1953- 1963), Imprimerie Universelle, Beyrouth, 1964
– Karam, Karam: Le mouvement civil au Liban, Editions Karthala- IREMAM, 2006
- 1.الخازن، فريد: تفكك أوصال الدولة في لبنان (١٩٦٧- ١٩٧٦)، تر: شكري رحيم، ط ٢، دار النهار، بيروت، ٢٠٠٢
- 2.المصدر نفسه، ص. ٣٣٤
- 3.المصدر، نفسه، ص. ٣٥٠
- 4.ألبر داغر، تقريظ النظام السياسي في لبنان: فريد الخازن نوذجا- الجزء الأول، الأخبار، 11 تشرين الأول 2010
- 5.داغر، تقريظ النظام السياسي في لبنان” فريد الخازن نموذجا- الجزء الثاني، الأخبار، 12 تشرين الأول 2010
- 6.داغر نفسه اعتبر في مقالة أخرى له، نشرت في جريدة الأخبار في 5 أيلول 2012، أن الثورة الشعبية في سوريا هي مجرد حرب أهلية ودولية في الوقت نفسه، وأنها مواجهة بين بين الدولة الوطنية وقوى إقصائية، وأن النظام، البعثي المهادن للعدو الإسرائيلي، هو دولة “تنتمي إلى قوى التحرر الوطني”[كذا]
- 7.المقدسي، سمير: بين الإقتصاد والحرب والتنمية، العبرة من تجربة لبنان، تر: شكري رحيم، ط ١، دار النهار، بيروت، ٢٠٠٤
- 8.المصدر نفسه، ص. 56
- 9.المصدر نفسه، ص. 52
- 10.المصدر نفسه، ص. 52
- 11.المصدر نفسه، ص. 275
- 12.المصدر نفسه، ص. 36
- 13.المصدر نفسه، ص. 56- 57
- 14.خلف، سمير: لبنان في مدار العنف، قراءة في تدويل النزاعات الفئوية، تر: شكري رحيم، ط ١، دار النهار، بيروت، ٢٠٠٢
- 15.المصدر نفسه، ص. 213
- 16.المصدر نفسه، ص. 214
- 17.المصدر نفسه، ص. 215
- 18.المصدر نفسه، ص. 216
- 19.المصدر نفسه، ص. 218
- 20.المصدر نفسه، ص. 219
- 21.المصدر نفسه، ص. 222
- 22.كسبار، توفيق: اقتصاد لبنان السياسي (١٩٤٨- ٢٠٠٢)، في حدود الليبرالية الإقتصادية، تر: فاتن الحريري زريق وتوفيق كسبار، ط ١، دار النهار، بيروت، ٢٠٠٥
- 23.المصدر نفسه، ص. 91
- 24.المصدر نفسه، ص. 92
- 25.المصدر نفسه، ص. 94
- 26.المصدر نفسه، ص. 97
- 27.المصدر نفسه، ص. 99
- 28.المصدر نفسه، ص. 99
- 29.المصدر نفسه، ص. 99
- 30.المصدر نفسه، ص. 100
- 31.المصدر نفسه، ص. 101
- 32.المصدر نفسه، ص. 199
- 33.المصدر نفسه، ص. 200