الأحزاب السياسية.. نحو دور فاعل في إقرار سياسات وتشريعات أكثر عدالة
مقدمة:
بعد ثورة 25 يناير 2011 ظهرت العديد من الأحزاب السياسية الجديدة، في سياق انفتاح المجال العام وحرية تكوين الأحزاب السياسية والتخلص من القيود السابقة التي كانت تخضع عملية إنشاء الأحزاب لمعايير يضعها ويطبقها الحزب الحاكم، ومن ثم رأينا ظهور العديد من الأحزاب السياسية في السنوات الأربع الماضية، وإن كان القليل منها يمارس العمل السياسي بفاعلية حقيقية، وأيا ما كان الأمر، فإن هذه الأحزاب الجديدة هي مكتسب من مكتسبات الثورة، وهي وسيلة لتحقيق سياسات أكثر اقترابا من أهدافها أو أكثر بعدا عنها كل حسب توجهه ورؤيته للدولة والمجتمع وطبيعة الصراع السياسي، ومن ثم فإن دراسة وتقييم وتقويم دور هذه الأحزاب في تبني سياسات مرتبطة بالثورة وعلى رأسها مطلب العدالة الاجتماعية يبدو أمرا غاية في الأهمية خصوصا أن كل هذه الأحزاب السياسية جديدة كانت أم سابقة في وجودها على الثورة تستحضر مقولات ترتبط بالعدالة الاجتماعية في برامجها رغم اختلافها في تقديم فهم وتوصيف دقيق للعدالة الاجتماعية وما يرتبط بها من سياسات، ومن ثم على الأحزاب أن تجيب على تساؤل هام حول ما هو الدور المفترض أن تقوم به لدعم وتقوية سياسات العدالة الاجتماعية وما هي أهم الأدوات التي تمتلكها لذلك؟.
وتكمن أهمية توجيه أوراق توصية للأحزاب السياسية فيما يتعلق بموضوع العدالة الاجتماعية في السياق الحالي في أن ثمة انتخابات برلمانية على الأبواب سيتبعها انتخابات محلية، وهي مختبرات مقبلة لمدى اقتناع هذه الأحزاب بما تطلقه من مقولات خاصة بالعدالة الاجتماعية كمطلب ثوري ينبغي تحويله لسياسات وتشريعات عبر نواب هذه الأحزاب في هذه الهيئات التشريعية والمحلية المزمع تشكيلها، وفي ظل الحيرة الشديدة التي تنتاب الكثير من الباحثين والمواطنين حول طبيعة التوجهات الاقتصادية للنظام الجديد ومدى دعمه لحقوق الفئات الاجتماعية الأكثر فقرا ومن ثم درجة اقترابه من الثورة أو النظام السابق والأسبق في السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
كما أن ثمة حديث حكومي متكرر عن العدالة الاجتماعية، وهناك لجنة وزارية للعدالة الاجتماعية أعيد تشكيلها في الأول من أكتوبر 2014 ولها صلاحيات وهي تسعى لوضع خطة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، والتنسيق بين الوزارات والجهات القطاعية المختصة بإقامة البنية الأساسية، أو بتوفير الخدمات الاجتماعية المختلفة[1]، وثمة تركيز في خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للعام 2014/2015، كما في البيان المالي لموازنة 2014/2015 على العدالة الاجتماعية كمطلب من مطالب ثورة 25 يناير ومن ثم العديد من التحليلات لهذه البيانات والخطط ومدى اقترابها من الانحيازات المعلنة من جانب الحكومة، يتطلب تحقيق أي هدف اقتصادي اختيارا بين بدائل عديدة للتنفيذ. وتختلف تلك البدائل عادة من حيث آثارها على فئات المجتمع المختلفة من حيث الفئات الأكثر استفادة، والفئات الأكثر تحملا لأعباء وتكاليف الوصول إلى الهدف المطلوب.لذا يمكن القول إن القرارات التي تتعلق بتنفيذ السياسات الاقتصادية المختلفة، تعبر عادة عن انحيازات اجتماعية محددة، حتى ولو كان الهدف النهائي من تحقيقها محل اتفاق من المجتمع ككل، كما هو الحال مثلا بالنسبة لهدف رفع معدلات النمو أو خفض معدلات الدين المحلى والخارجي، أو توفير مصادر بديلة للطاقة.. الخ. وقد شهدت الأشهر الثلاثة الأخيرة منذ نهاية يونيه 2014 إصدار العديد من القرارات والقوانين الاقتصادية، التي يتعلقبعضها بشكل مباشر بحياة المصريين اليومية في الوقت الراهن، ويتعلق البعض الآخر بتوجهات ومسار الاقتصاد المصري على المدى المتوسط والطويل، بما لها من تأثير على مستوى حياة المصريين خلال السنوات القادمة[2]،ومن ثم من المفيد للأحزاب محاولة التعرف على ما تعكسه القرارات والقوانين الاقتصادية التي تصدر عن الحكومة من انحيازات اجتماعية، على أرض الواقع، لاسيما و أن الخطاب المعلن على المستوى الرسمي هو الانحياز للفقراء.
الأحزاب السياسية في سياقات دولية داعمة للعدالة الاجتماعية:
في بعض التجارب السياسية التي يكون التوجه الاقتصادي والاجتماعي العام فيها داعما لسياسات أكثر قربا من فكرة العدالة الاجتماعية من حيث استهداف مؤشرات مغايرة لمؤشرات النظام الاقتصادي العالمي في موازناتها كدول أمريكا اللاتينية حيث استهداف معدلات تضخم وبطالة وفقر أقل، وليس بالضرورة استهداف خفض عجز الموازنة أو الحفاظ على معدلات نمو عالية، فإنه هذه النماذج حققت استقرارا اقتصاديا ومعدلات تنمية جيدة مع عدالة توزيع مكانية ونوعية للدخول والثروات بما حقق لها معدلات فقر وبطالة أقل.
الأحزاب السياسية في أمريكا اللاتينية استهداف جيد لتحسين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية:
تشير تجارب الأحزاب الاشتراكية في أمريكا اللاتينية وقدرتها على إقرار برامج نقل الدخل للفقراء في 18 بلدا بحلول 2010، وقدرة هذه البرامج على تغيير أحوال 19% من أهالي المنطقة البالغ عددهم 600 مليون نسمة، فقد ساهمت هذه البرامج في تحقيق “خفض كبير للفقر المدقع وانخفاض كبير في مجال عدم المساواة”، وفقا لدراسة نشرها “مركز دراسات توزيع الدخل والعمل والشؤون الاجتماعية” التابع للجامعة الوطنية في بوينس ايرس[3].
كما يمكن الاستفادة من تجربة حزب العمال في البرازيل تحديدا والذي استطاع عبر نضالات ممتدة بالتنسيق مع الحركات العمالية والنقابات والمجتمع المدني، أن يوصل اثنين من قياداته وهما لولا داسيلفا إلى الرئاسة في 2003-2011، ومن بعده الرئيسة الحالية ديلما فانا روسيف واللذين استطاعا أن يقرا سياسات أكثر اقترابا من مفهوم العدالة الاجتماعية، حيث قدما خلال 10 سنوات من الحكم خطة إعانة اجتماعية من أكبر برامج المساعدة الاجتماعية في العالم، المعروف ببرنامج BolsaFamilia، الذي شمل 47 مليون شخص في عام 2008، أي ما يوازي ربع سكان البرازيل تقريباً، واتسم بمستوى إنفاق بنسبة 0.4% من الناتج المحلي الإجمالي، يمثل 1.8% من ميزانية الحكومة الاتحادية[4]، كما استطاع أن يزيدالإنفاق على الصحة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من 7.2% عام 2002 إلى 9.3% عام2012، بينما تزايد الإنفاق الحكومي على الصحة كنسبة من إجمالي الإنفاق على الصحة في نفس الفترة من 44.6% إلى46.4% [5]، بينما انخفضت هذه المؤشرات في الحالة المصرية من 6.1% إنفاق على الصحة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2002 إلى 5% عام 2012، وكذلك انخفض تحمل الحكومة لأعباء الإنفاق من 40.3% عام 2002 إلى 39% عام 2012[6].
سياسات أكثر صداقة للبيئة والإنسان.. تجربة الخضر في أوروبا:
كما تقدم تجارب أحزاب الخضر في أوروبا وخطاباتهم تأكيدا على مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية، من خلال مداخل جديدة للتعامل مع مفاهيم التنمية والتنمية المستدامة وربط النمو بالبيئة والمحافظة عليها وحقوق الأجيال القادمة[7]، وهو خطاب يمكن الاستفادة منه ورفع هذه المفاهيم إلى مستوى السياسات في البرلمانات والمحليات، وخصوصا في ظل الجدل الدائر حول استخدام مصادر جديدة للطاقة أو العودة لمصادر تقليدية كالفحم، وهذه قضايا يمكن التشبيك فيها بين المجتمع المدني والأحزاب والحركات والمبادرات الأهلية على الأقل لتعزيز اشتراطات بيئية أكثر أمانا للعاملين في هذه الصناعات المستهلكة لمصادر طاقة أكثر تلويثا للبيئة، أو للمجتمع المحلي المحيط بهذه الصناعات.
خاتمة وتوصيات:
ثمة نصوص دستورية جيدة تتعلق بمدخل تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين كسبيل لتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية ربما لا يحقق عدالة مثلى على المستوى الكلي من دون سياسات وخطط تنموية تطرح مفاهيم مبتكرة للعدالة الاجتماعية، لكن في السياق المصري يمكن البناء على النصوص الدستورية المرتبطة بالحق في التعليم والحق في الصحة كمثال لحقوق تم تحديد نسب معينة للإنفاق عليها دستوريا.[8]
- وفي هذا الإطار يتعين على الأحزاب أن تعد كوادرها بشكل يستطيع التواصل مع المؤسسات المسؤلة عن وضع الموازنة العامة ومناقشتها، وبخاصة دوائر معينة في وزارات التخطيط والتعاون الدولي ووزارة المالية، وذلك لكي يكونوا على استعداد دائم لتحليل انحيازات الحكومات المختلفة وتفنيدها من وجهة تقترب من مفهوم العدالة الاجتماعية وتستطيع تزويد هيئتها البرلمانية بالمعلومات والبيانات الكافية عن مدى التزام الحكومة بالنصوص الدستورية سالفة الذكر، وذلك من خلال ما يصدر عن هذه الوزارات من خطط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للأعوام المالية المختلفة، وكذلك البيانات المالية عن مشروع الموازنة العامة للدولة، بحيث يسهل على الهيئات البرلمانية للأحزاب مناقشة هذه البيانات والخطط بشكل دقيق وبفعالية وقدرة على اكتشاف انحيازاتها والتنبيه إليها.
- يمكن للأحزاب أيضا أن تشكل لجانا خاصة برصد ومتابعة مجمل السياسات المتبعة في قطاعات معينة (التعليم- الصحة- السكن) على سبيل المثال ومقارنتها بما يتخذ من سياسات في تجارب جيدة استطاعت تطوير هذه القطاعات بشكل كبير وتقديم أوراق سياسات بشأنها إلى الهيئة البرلمانية للحزب للاستعانة بها في مناقشة السياسات، كما يمكن لهذه الأحزاب أيضا متابعة ما يصدر عن الأحزاب الأخرى فيما يتعلق بهذه القطاعات من أجل استهداف التشبيك مع الأحزاب الأكثر اقترابا من رؤيتها لهذه السياسات والتصدي للخطابات التي تعوق الاقتراب من سياسات عادلة اجتماعيا فيما يتعلق بهذه القطاعات، ويلزم هذه الأحزاب متابعة ما يصدر من المؤسسات الدولية المعنية بالتعليم والعمل والصحة والإسكان من تقارير حول هذه القطاعات وعقد مقارنات بين مصر وبعض الدول المشابهة معها في الظروف وتحرز تقدما في بعض المؤشرات المرتبطة بعدالة السياسات.
- يمكن للأحزاب الاستفادة من مخرجات البحوث والدراسات الصادرة عن مراكز البحوث والدراسات المختلفة التي لديها اهتمام واسع بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم يمكن لمسئولي الاتصال داخل الأحزاب تحديد قائمة مفردة للتعامل مع المراكز البحثية وتسجيل بيانات التواصل للحزب لدى هذه المراكز، بحيث يمكن الاستفادة بما يصدر عنها من بحوث ودراسات وما تنظمه من ورش وندوات ومؤتمرات، كما تشكل هذه الفعاليات فرصة أكبر للأحزاب لتوضيح رؤاها للسياسات والرد على الرؤى المضادة أو الوصول لنقاط توافق مع الرؤى القريبة من رؤية هذه الأحزاب.
- على الأحزاب في نهاية المطاف أن تقوم بدراسة الإحالات للقانون في الدستور الجديد فيما يتعلق بمواد الصحة والتعليم والسكن والضمان الاجتماعي والضرائب التصاعدية وهيئة مناهضة التمييز، ودراسة القوانين المنظمة لمثل هذه القطاعات والهيئات في تجارب ناجحة ومحاولة استقاء معايير جيدة لضمان هذه الحقوق ولتنظيم الهيئات القائمة عليها، بحيث تستطيع طرح مشروعات قوانين قوية وقادرة على استيعاب معايير جيدة للعدالة في النصوص والتطبيقات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]موقع جريدة البديل، “«محلب» يعيد تشكيل «اللجنة الوزارية» للعدالة الاجتماعية”، موقع البديل، بتاريخ 1 أكتوبر 2014، http://is.gd/Bx66Tw
[2]ياسر العنتري، الانحيازات الاجتماعية للقرارات الاقتصادية، موقع مجلة الديمقراطية، بتاريخ 29 سبتمبر 2014، http://is.gd/CEOH2G
[3]مارسيلا فالينتي/وكالة إنتر بريس سيرفس،تقرير بعنوان ” أمريكا اللاتينية تتقل موارد الدولة للفقراء “، موقع وكالة الأنباء العالمية انتر برس سيرفس، 2013، http://is.gd/KHrwHA
[4]أنظر التقرير السادس لمنظمة العمل الدولية بعنوان الضمان الاجتماعي من أجل العدالة الاجتماعية وعولمة عادلة، التقرير السادس المنبثق عن مؤتمر العمل الدولي الدورة المائة 2011، صـ48، http://is.gd/PDaLen
[5] انظر موقع منظمة الصحة العالمية، قاعدة بيانات البلدان، http://is.gd/gOwsRe
[6] يمكن مراجعة بيانا مصر على موقع منظمة الصحة العالمية، قاعدة بيانات البلدان، http://is.gd/cU10Gp
[7]انظر موقع حزب الخضر الأوروبي، المساواة والعدالة الاجتماعية، على الموقع الرسمي للحزب، http://is.gd/hRPkIf
[8]ينص دستور 2014 على التزام الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي لا تقل عن 3 % من الناتج القومي الإجمالي للصحة (مادة 18) و4% للتعليم تحت الجامعي (مادة 19)و2% للتعليم الجامعي ( مادة 21) و1% للبحث العلمي (مادة 23).