التجارب الصناعية
- تطلب التصنيع الناجح فهماً شاملاً للسياقات السياسية الوطنية، وتحديد أفضل طريقة لجعل أدوات السياسة المتاحة تدعم تشجيع الصادرات، وتعزيز قدرة الدولة على تعبئة الموارد المحلية للتنمية القطاعية.
- تؤثِّر العوامل الجيوسياسية بشكل كبير في قرارات الدولة حيال انتهاج سياسة صناعية معينة. في حالة شرق آسيا، اتخذت التهديدات الجيوسياسية هيئة احتمالات واقعية للحرب أو الغزو، كما الحال مع كوريا وتايوان. وفي حالات باقي دول جنوب شرق آسيا، جعلت النخب من التهديدات وسيلةً لخلق منطق داخلي لتماسك الدولة، خصوصاً في سياق المعارضة القوية.
جلب مطلع القرن الحادي والعشرين معه إعادة نظرٍ في اقتصاديات التنمية. كانت طفرة السلع العالمية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إيذاناً بأرباح غير متوقعة للبلدان الغنية بالموارد في الجنوب العالمي، ومعها جاءت أجندات النمو الجديدة. في العام 2002، كان الاقتصاديون من أمثال داني رودريك يشيدون بتراجع الدعم السياسي لإجماع واشنطن ويتساءلون عمّا قد يأتي بعد النيوليبرالية.1
سلطت الأزمة المالية لعام 2008 والاضطراب الاقتصادي الناجم عن جائحة كوفيد-19، الضوءَ على السؤال المطروح على حكومات الشمال العالمي. لكن سجل النيوليبرالية في الجنوب تقلّب بين نجاح وفشل، إذ يمكن القول إنها نجحت كاستراتيجية للتخفيف من حدّة الأزمات، لكنّها فشلت كبرنامج متماسك للنمو على المدى الطويل والاستقرار الاقتصادي. ومع الرفض السياسي للعولمة النيوليبرالية، انتشرت المطالبة بمزيدٍ من تدخّل الدولة في جميع أنحاء الجنوب العالمي. فاتبعت الدول الغنية بالمعادن مبدأ «قومية الموارد». وفي مختلف أنحاء أميركا اللاتينية، بدأ انتهاج «توجّهٍ تنموي جديد». وعاد التصنيع والتحوّل البنيوي إلى أجندة سياسات التنمية.2 وأتى «تقدّم الدولة» في الصين3 ليطرح تحدياً حاسماً آخر على إجماع واشنطن، ويشكَّل استراتيجية نموٍ بديلة تشدِّد على مركزية الصناعات التصديرية في الارتقاء الصناعي، والأهم من ذلك، التشديد على أهمّية سيطرة الدولة الاستراتيجية لخلق أساس إنتاجي جديد للاقتصاد الوطني.
من منظور خبراء اقتصاد التنمية، فإنّ انتشار السياسة الصناعية بقيادة الدولة في جميع أنحاء الجنوب العالمي في العقود الأخيرة يحمل درساً بالغ الأهمية: ما من طريق أوحد للتحوّل الاقتصادي. وبدلاً من تقديم وصفة استراتيجية تنموية معطاة، يتعين علينا أن نشجع التجريب والتكيف – مع مراعاة البنية المؤسسية والاجتماعية والاقتصادية الموروثة في البيئة المستهدفة.
التخلّي عن «وصفة واحدة تناسب الجميع»
كانت الاقتصادات المتوسطة الدخل في جميع أنحاء أميركا اللاتينية وشرق آسيا تطمح على الدوام إلى التحوّل الهيكلي. ونموذجها لتحقيق ذلك الطموح أخذته إلى حدّ كبير عن الدول الصناعية الحديثة في أواخر القرن العشرين، والأخيرة نجحت من خلال تشجيع الشركات المحلّية، والاستحواذ على القيمة المضافة في سلاسل التوريد العالمية للإنتاج، وتطوير الابتكار التكنولوجي في الداخل. أسّست كوريا الجنوبية وتايوان شركاتهما العالمية، مثل سامسونغ وتي إم أس سي، على تشجيع قطاعات محدّدة وإقامة علاقات وثيقة مع الشركات المحلّية الرائدة. في كوريا الجنوبية، تحوّلت الدولة إلى التصنيع من خلال التحوّل من صناعة المنسوجات والملابس كثيفة العمالة في ستينيات القرن العشرين نحو صناعة بناء السفن كثيفة رأس المال – وأشباه الموصلات «العالية التقنية» – مع منتصف السبعينيات.4 وعلى غرار شرق آسيا، طوّرت النخب البرازيلية قدرة حكومية مميّزة على تنسيق القطاعات الصناعية، وإقامة علاقات تشاركية مع الأعمال التجارية المنظّمة والعمل، ومواءمة التمويل الحكومي بنجاح مع السياسات التجريبية لتشجيع قطاعات بعينها.5 وعلى الرغم من الإصلاحات النيوليبرالية، أبقت البرازيل في قوانينها على حصّة المتطلّبات المحلية في قطاع النفط والغاز، ما خلق استثمارات كبيرة في مجال البحث والتطوير وساهم في تطوير قدرات الشركات المحلّية.6
بعض هذه الإصلاحات كان أنجح من بعض. ففي استجابةٍ لتغيّر الاقتصاد السياسي العالمي لصناعة السيارات، أصبحت تايلاند مركزاً لتجميع السيارات من خلال استراتيجية نمو واسعة النطاق، بينما أصبحت التشيابول7 الكورية صانعة سيارات عالمية تتمتع بقدرات هندسية وتصميمية عالمية المستوى.8 وكوريا مثالٌ نموذجي على استراتيجية النمو المكثف، إذْ جمعت بين قدرتها على الابتكار التكنولوجي والمشاركة الاستراتيجية في سلاسل التوريد العالمية.
بدأت البلدان المتوسّطة الدخل، على خطا المثال الكوري، في إدخال استراتيجيات نمو مكثّفة في الصناعات الرئيسة الناشئة للتغلب على فخّ الدخل المتوسط. في العام 2014، فرضت إندونيسيا حظراً على صادرات النيكل الخام لزيادة القيمة في سلسلة توريد المعادن وتحفيز نظام الاستثمار في منشآت المعالجة المحلّية. تهدف هذه السياسة إلى زيادة حصّة مشاركة الشركات الإندونيسية في معالجة المعادن وإنشاء المزيد من الروابط مع القطاعات كثيفة الاستخدام للتكنولوجيا، مثل قطاع إنتاج البطاريات والسيارات الكهربائية. ومع أنّ سياسة التعدين في حد ذاتها لا تشكّل استراتيجيةً صناعية، فإنّ بناء الروابط الاقتصادية بين القطاعات المترابطة يشير إلى مكانة صناعة التعدين كركيزة للتحوّل الهيكلي. ومع حظر التصدير، شهدت إندونيسيا زيادةً في الاستثمار الأجنبي المباشر في معالجة النيكل وقيمة الصادرات. في أعقاب النجاحات المبكرة في النيكل، وفي إطار خطة التنمية الوطنية، وسعت الحكومة سياسات المصب9 لتشمل معادن أخرى، كالنحاس والبوكسيت والقصدير والسلع الزراعية. وهذه السياسة سوف يدعمها بناء مصاهر تركز على النيكل (22 مصهراً) والبوكسيت (5 مصاهر) والحديد (مصهران) والرصاص (مصهر واحد) والنحاس (مصهر واحد).10
في تقرير التقييم الصادر عن صندوق النقد الدولي في حزيران/يونيو 2023، زاد الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 47% في العام 2022، معظمه في قطاع المصب، وتعود قرابة نصف هذه الاستثمارات للصين وهونغ كونغ. وقد أقدم العديد من المستثمرين الأجانب على بناء مصاهر في إقليمي سولاويزي الوسطى وشمال مالوكو النائيَيْن، وبعضهم جمع أموالاً من بورصة جاكرتا. وبلغ الاستثمار المحقّق في مصاهر النيكل والبوكسيت في خلال الفترة 2021-2022 قرابة 5.5 و3 مليارات دولار أميركي على التوالي، على الرغم من استمرار التوصية بإجراء إصلاحات أوسع فيما يتعلق بكفاءة سوق العمل والبنية التحتية والخدمات المالية.
سياسة الصين الصناعية الجديدة
على الرغم من أهمية المثال الكوري الجنوبي، فإنّ تطبيقاته المختلفة تثبت انعدام القالب الواحد للسياسة الصناعية وانعدام الرغبة في وجود هكذا قالب. يجسّد تطوّر السياسة الصناعية في الصين وجهة النظر هذه: فالسياسة الصناعية الصينية التي قامت على التجريب، استندت إلى تجارب نظام المؤسّسات العامة على النمط السوفياتي والتنمية القطاعية المركزية بقيادة الدولة مثلما في الدول التنموية في شرق آسيا. وكانت التشكيلات المؤسسية في الصين ثمرة التطوّر المشترك بين الدول والأسواق، حيث كان من الأهمية إنشاء مؤسسات متكاملة استجابةً للتغيرات الخارجية.11
تستخدم استراتيجية الصين الصناعية «صنع في الصين – 2025» أدواتٍ سياسية متعدّدة: التخفيضات الضريبية لتحفيز الشركات الأجنبية على نقل برامج البحث والتطوير الخاصة بها إلى الصين؛ ولوائح تنظيمية رسمية وبرامج اعتماد غير رسمية تُلزِم الشركات الأجنبية بالدخول في شراكة مع الشركات الصينية في مشروعات مشتركة؛ والاستخدام المكثّف للتمويل الحكومي المعروف بصناديق التوجيه الحكومية لدعم الإنفاق المحلّي على البحث والتطوير والاستحواذ في الخارج؛ وتمويل عمليات الاستحواذ الاستراتيجية على الأصول لبناء قدرات الشركات الصينية؛ والحصول على التكنولوجيا والمعدات الأجنبية، لا سيما من شركات التكنولوجيا الأميركية، لسد الفجوات القائمة في القدرات التكنولوجية الصينية.12
تحتفظ هذه السياسة بدور مركزي للدولة في زيادة حصة مشاركة الشركات الوطنية الرائدة في سلاسل التوريد الصناعية، سواء حصة الشركات المحلية أو الشركات المملوكة للدولة. وتهدف إلى تعزيز قطاع الصناعات التصديرية الصيني من خلال الاستثمار المستمر في البحث والتطوير والتقدم التكنولوجي التدريجي لترتقي سلم سلاسل القيمة العالمية. والأهم من ذلك، أنّها تسعى إلى الجمع بين التدخل بقطاعات محددة – مثل خلق الطلب وخوض المخاطر في مجالات التكنولوجيا الفائقة والبنية التحتية والصناعات كثيفة رأس المال – مع تقديم حوافز للشركات لتوسيع أسواقها في الخارج. إبان التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تحقّقت تجربة السياسة الصينية من خلال التخطيط المنسق والتركيز على خلق المنافسة الاقتصادية بين الشركات والمنافسة السياسية بين النخب الإقليمية لبناء أنظمة مواتية للاستثمار الأجنبي المباشر داخل الصين.13 وبعد العام 2016، تمثلت الأهداف الاستراتيجية في استخدام الإعانات لضخ رأس المال في المشاريع المشتركة، وتشجيع عمليات الاندماج والاستحواذ بقرار من الدولة في قطاعات المعادن الحيوية مثل العناصر الأرضية النادرة، والدعم النشط للتحديث التكنولوجي لتركيز تقنيات المعالجة والتكرير في الليثيوم والعناصر الأرضية النادرة والمعادن الأخرى. وبتعزيز الصين قبضتها على قطاع المعادن الحيوية، أصبحت سلاسل التوريد لمعادن التحوّل الطاقي بيد الدولة الصينية وشركاتها، ما أثار قلق الدول الغربية بعدما زادت اعتماديتها على استخراج المعادن من الصين.14
الإخفاقات والنجاحات
تُظهِر كل من الصين وكوريا الجنوبية أهمية تبعات مسار كلٍ منهما في تشكيل مسارات السياسة الصناعية. يتطلب التصنيع الناجح فهماً شاملاً للسياقات السياسية الوطنية، وتحديد أفضل طريقة لجعل أدوات السياسة المتاحة تدعم تشجيع الصادرات، وتعزيز قدرة الدولة على تعبئة الموارد المحلية للتنمية القطاعية. وبعيداً من بناء القدرات المؤسسية من قبيل البيروقراطية المهنية والهيئات التنظيمية المركزية للتخطيط الاقتصادي – ما يسميه ڤو «البنية التنموية» القوية –، فإنّ القيادة السياسية أو «الإرادة التنموية» مهمة أيضاً في سياقات تنعدم فيها إمكانية وجود بيروقراطية حرة من التأثير السياسي. ومع أنّ الدول تختار استراتيجيات نمو مكثفة أو واسعة النطاق اعتماداً على سياقاتها السياسية، فإنّ كلتا الاستراتيجيتين لا تزال في حاجة إلى مؤسسات قادرة على التنسيق بين هيئات متعددة تمتلك الموارد اللازمة لحشدها لتحقيق أهداف سياسية محددة مثل التعلم التكنولوجي. وعلى نحو مماثل، في الصين المعاصرة، تحققت سياسات التنسيق للاستثمار القطاعي من خلال هيئات تنظيمية مركزية، على سبيل المثال من خلال لجنة مراقبة وإدارة الأصول المملوكة للدولة.15 وبالإضافة إلى إنشاء مؤسسات مستقلة نسبياً، يمكن للقيادة السياسية إظهار التزامها الحازم من خلال تأمين الخبرة والقدرات الفنية في هذه الهيئات من أجل الاستمرارية في صنع السياسات. وبغياب قاعدة معرفية وقدرة على التنمية القطاعية، لن تواجه السياسات الصناعية مقاومة من الخارج فحسب، بل يمكن بسهولة أن يعوقها الافتقارُ إلى المعرفة الكافية بكيفية حل مشكلات التنسيق لحث الشركات المحلية على أن تصبح أقدر على المنافسة.
وتحتل العوامل الخارجية أيضاً مكانة بارزة بين شروط التصنيع الناجح. ففي صناعة الإلكترونيات الكورية، أدّت قرارات الشركات اليابانية بنقل الاستثمارات إلى كوريا ومن ثم إلى جنوب شرق آسيا دوراً حاسماً في خلق فرص التعلم التكنولوجي بين الشركات الكورية عن طريق المشروعات المشتركة.16 وبحلول العام 1980، انخفضت درجة الهيمنة الأجنبية في مجال الإلكترونيات مع مشاركة التشيابول في إنتاج الالكترونيات الاستهلاكية. وعلى الرغم من أنّ الشركات الكورية الرائدة وصاحبة الفروع الإلكترونية الكبيرة حافظت على علاقاتها مع الشركات اليابانية الأكبر حجماً، فقد تمكنت سامسونغ ودايو وغيرهما عبر المشروعات المشتركة والتعهيد الخارجي من بناء شبكة إنتاج تربط الشركات المحلية الأصغر حجماً بسلسلة التوريد. أما البلدان النامية، فمن الضروري أن تتماشى استراتيجياتها التجارية والاستثمارية مع البلدان المرجح أن تشكِّل الشركات الرائدة فيها مسار سلسلة التوريد. بالمقابل يمكنها، كما في حالة إندونيسيا، الحفاظ على الاستقلال الاستراتيجي من خلال استراتيجية عولمة مفتوحة لتتعامل بفعالية مع الفرص التي تأتي بها المنافسة الجيوسياسية.
تؤثِّر العوامل الجيوسياسية بشكل كبير في قرارات الدولة حيال انتهاج سياسة صناعية معينة. في حالة شرق آسيا، اتخذت التهديدات الجيوسياسية هيئة احتمالات واقعية للحرب أو الغزو، كما الحال مع كوريا وتايوان، أو إخراج سنغافورة من الاتحاد الماليزي. في حالات أخرى، جعلت النخب من التهديدات وسيلةً لخلق منطق داخلي لتماسك الدولة، أو وسيلةً لصياغة التماسك الاجتماعي وخصوصاً في سياق المعارضة القوية، كما تُظهِر بوضوح حالة الشيوعية في البرازيل وبقية دول جنوب شرق آسيا.17
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اتبعت بلدان أميركا اللاتينية سياسة صناعية قائمة على الموارد في أعقاب طفرة سلع الموارد، مبررةً تدخل الدولة بأنّه ضروري لتعظيم عائدات المعادن وتعزيز دور المؤسسات العامة في سياق أسعار السلع الأساسية المتقلبة.18 وقد تعززت هذه الجهود بالطلب المتزايد على ما يسمى «المعادن الحيوية». فبالإضافة إلى حظر تصدير النيكل الخام في إندونيسيا، يتطلّب إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية والبنية التحتية الخضراء الليثيوم والكوبالت – وكلاهما يتركز في أميركا اللاتينية وأفريقيا.
وضعت تشيلي، أكبر منتجي الليثيوم، خطة تأميم هدفها تأسيس شركة عامة لمشروعات مشتركة. يتمثل طموح الدولة من هذه السياسة في زيادة معالجة المعادن داخل تشيلي وتحسين فرصة الشركات التشيلية للمشاركة في سلسلة توريد البطاريات. وفي ابتعادٍ عن وجهة نظر تشيلي التقليدية للنيوليبرالية، يُنظر إلى الروابط الاقتصادية على أنّها الحل للهروب من الاعتماد على المواد الخام والمشاركة في الأنشطة ذات القيمة المضافة المنخفضة. وعلى الرغم من أنّ تشيلي لن تتمكن من وضع سياسة صناعية شاملة بشأن الليثيوم، فإنّ ملكية الدولة – كما حدث في النحاس في القرن العشرين – تؤدي دوراً حيوياً في تعزيز قدرتها كمنتج للمعادن لتستفيد بأقصى ما يمكنها من التدافع الحالي على الموارد.
تكييف السياسة كاستراتيجية عولمة
تواجه البلدان في مختلف أنحاء الجنوب العالمي معركة شاقة من أجل التحول الصناعي بفعالية. إذ يشكِّل ازدياد التدابير الحمائية في البلدان الصناعية المتقدمة حجر عثرة أمام البلدان النامية التي تعتمد عائدات صادراتها على قدرتها على الوصول إلى الأسواق المربحة في الخارج. على سبيل المثال، يهدف قانون المواد الخام الحيوية في الاتحاد الأوروبي إلى زيادة قدرات الاستخراج والمعالجة لدى الشركات الأوروبية داخل الاتحاد. وقد استخدم الاتحاد الأوروبي، في إطار استراتيجيته الجيوسياسية، الاتفاقيات التجارية لتأمين المعادن من دول ثالثة بينما استثمر في الوقت نفسه بكثافة في قدرات التصنيع والمعالجة. سياسات كهذه قد تتعارض مع جهود منتجي المعادن لزيادة أنشطة القيمة المضافة في أثناء محاولتهم دمج صادراتهم في سلسلة توريد تكنولوجيات الطاقة النظيفة. فمن خلال صلاحياته التنظيمية، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى إنشاء «نادي من البلدان المماثلة في التفكير» لتعزيز مرونة سلسلة التوريد، وبالتالي استخدام سوقه الموحدة كوسيلة لتعزيز معاييره البيئية.19 لكن من غير المؤكد بعد مدى ما قد يتسبب به عدم الامتثال للوائح الاتحاد في معاقبة منتجي المعادن خصوصاً في سياق يتوقع نقصاً في المعادن الحيوية نظراً لمسار البنية التحتية الخضراء للتحوّل إلى الطاقة النظيفة. وبعبارة أخرى، قد يترتب على تقدم السياسة الصناعية في الشمال العالمي تأثيرات متفاوتة في العالم النامي.
ومن الوارد أيضاً أنّ تحول الصين من الإنفاق على البنية التحتية بمليارات الدولارات من خلال مبادرة الحزام والطريق إلى المشروعات «الصغيرة ولكن الجميلة» قد يسفر عن إعاقة تدفق الموارد نحو الجنوب العالمي. وبلدان أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية التي تلقت دعماً كبيراً من الصين عبر مزيج من الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني وبرامج التعاون الإنمائي لربما تحتاج عندئذٍ إلى إعادة ضبط توقعاتها، وبالتالي خططها الصناعية، نظراً لتقلص الدعم المالي المتاح في سياق فترة ما بعد العام 2022. وهذا بدوره قد يتطلب أيضاً ضمان أن تكون سياستها الصناعية مرنة وعملية لتجنب تجاوزات النمو بقيادة الدولة والمرتبطة غالباً بالمحاولات الفاشلة في الماضي للتحول الهيكلي.
إنّ عودة مبادرات السياسة الصناعية، في نجاحاتها وإخفاقاتها، إلى الظهور تثبت الحاجة إلى التخلص من الوصفة الواحدة المناسبة للجميع في مقاربة التنمية الاقتصادية. وبدلاً من هذه المقاربة، يجب على فهمنا للتحول الاقتصادي الاستناد إلى الفهم العميق للبنية التحتية المحلية الموروثة والظروف الدولية المتغيرة.
نشر هذا المقال في Phenomenal World في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2023.