العبودية في موريتانيا: العدالة الاجتماعية هي الحل
شهد الشارع الموريتاني، الخميس، مواجهات بين محتجين وقوات مكافحة الشغب على خلفية دعوة المبادرة من أجل انبعاث الحركة الانعتاقية “إيرا” المناهضة للعبودية لتظاهرات طالبوا فيها بإطلاق سراح كل من بيرام ولد الداه ولد اعبيد رئيس الحركة، وإبراهيم ولد بلال رمضان نائب الرئيس، الموقوفين بحكم قضائي منذ أشهر، ونتج عن هذه المواجهات بحسب مصادر غير حكومية جرح أربعة أشخاص وإصابة العديد من المتظاهرين بالإغماء، إضافة إلى اعتقال 20 شابًا من نشطاء “إيرا” لا يزالون قيد التحقيق إلى حدود الساعة.
وفي الحقيقة، هذه المظاهرات ليست الأولى من نوعها في موريتانيا، فرغم نفي السلطات الرسمية تواصل الرق في المجتمع، لايزال هذا الملف أحد المشاغل المتجددة مجتمعيًا.
حول العبودية في موريتانيا
تحتل موريتانيا المرتبة الأولى عالميًا في مؤشر العبودية، حسب إحصاءات 2014 التي أصدرتها مؤسسة Walk Free Foundation، غير أن الحكومة في موريتانيا تنفي انتشار العبودية بهذا القدر، وتعتبرها ممارسات فردية من مستعبدين خارج إطار القانون، الذي يجرم الاستعباد.
ورغم نفي السلطات الرسمية للظاهرة كسياسة دولة، إلا أنها تقر بأن “ممارسات” مرتبطة بالرق لا تزال موجودة في البلاد، وهو ما يعارضه باستمرارالمدافعون عن حقوق أبناء الأرقاء السابقين الذي يصرون على تأكيد وجود حالات من العبودية تمارس ضد العرب السود أو الحراطين كما يطلق عليهم في الشارع الموريتاني، مع تركزها أساسًا في المناطق القروية حيث يغيب نشاط الجمعيات والحركات الحقوقية.
من حيث التنظيم، تعتبر فئة الحراطين المبادرة من أجل انبعاث الحركة الانعتاقية “إيرا” أحد منابرها التي تخاطب بها السلطات المحلية والعالم، وتنادي هذه المبادرة منذ خمس عقود بتحقيق المساواة بين “البيضان” والزنوج ومحاربة الرق ومحو آثاره المتفشية في النسيج المجتمعي الموريتاني.
وقد ساهمت الضغوطات التي مارستها “إيرا” بدعم من جمعيات حقوقية دولية في إلغاء الرق ثلاث مرات كان آخرها سنة 1981، كما أصدر المُشرّع الموريتاني قانونًا يُجرّم العبودية بمظاهرها المختلفة سنة 2007، وحاول النظام الحاكم في عهد الرئيس معاوية ولد الطايع – الذي أزيح من الحكم بانقلاب عسكري – أن يحتوي أزمة الحراطين من خلال تعيين شخصيات اعتبارية منهم في مسؤوليات كبيرة داخل الدولة، إلا أن الأزمة على ما يبدو أعمق من هذه المعالجات السطحية.
ورغم تواجد شخصيات من فئة الحراطين في الصف الأول للدولة، مثل محمد ولد ابليل رئيس البرلمان، والصغير ولد مبارك رئيس المجلس الدستوري، تشهد جارة المغرب الغربية حراكًا متواصلاً تحت ذات العناوين: محاربة الرق والعبودية.
تجدر الإشارة إلى أن الخارطة العرقية للمجتمع الموريتاني تتكون من الحراطين والبيضان والقبائل الزنجية.
كيف تدخلت المؤسسة الدينية لتطويق الشرخ المجتمعي؟
عند البحث عن مواقف الدعاة في موريتانيا، تُصادفنا فتوى الداعية الموريتاني محمد الحسن ولد الددو، حول الرق، في أبريل ، التي أثارت جدلاً واسعًا في الشارع الموريتاني، خاصة أن موضوع محاربة آثار الرق يعد حديث الساعة في موريتانيا بعد إقرار قانون جديد يجرم الرق.
وقال الددو في فتواه إن ما شهدته البلاد من الرق مخالف للشريعة الإسلامية، وهو ما أثار غضب وزارة الشؤون الإسلامية التي ترى أن هذه الفتوى تنسف جهود الوزارة ورؤيتها في الموضوع، وكانت وزارة الشؤون الإسلامية الموريتانية قد نظمت ملتقى حول الرق قبل أشهر، كما أصدرت رابطة علماء موريتانيا فتوى تجرم ممارسة الرق مستقبليًا، ونظمت حملة ضد مخلفات الاسترقاق.
وقد احتفت حركة “إيرا” بفتوى “الددو”، وقالت في بيانها إن موقف الشيخ الددو من ظاهرة الاسترقاق ملأ الفراغ وأجاب على السؤال الأساسي بقوله إن الاسترقاق في موريتانيا “باطل شرعًا” من حيث الأصل، وطالبت الدولة الموريتانية بتبني فتوى الداعية الشهير والإعلان عن موقف رسمي جرئ من ظاهرة الاسترقاق، يحطم كل التابوهات ويتوعد من وصفتهم بـ “المجرمين الاستعباديين” بتطبيق القانون دون تمييز ولا تحيز، كما دعت النظام القائم في موريتانيا إلى الاعتذار باسم الدولة للأرقاء وأبنائهم عما لحق بأعراضهم وكرامتهم من ظلم و افتراء على الله ورسوله، وأن تفكر في أنجع الطرق للتعويض لهم.
وكررت حركة “إيرا” انتقاداتها لرابطة العلماء الموريتانيين (أكبر تجمع للعماء في البلاد) بخصوص بيان أصدرته في مارس الماضي تنفي فيه وجود أي حالة استرقاق في البلاد، وهو ما يتناقض تمامًا مع مواقف الحركة التي تؤكد وجود حالات عبودية واستغلال في القرى والأرياف والمناطق المعزولة.
القوانين والفتاوى وحدها لا تكفي
وعلى الرغم من أن العبودية مُجرّمة قانونًا ومحرّمة دينيًا وأن النصوص القانونية عمومًا مرضية للنشطاء الحقوقيين، إلا أن ذلك لم يقضِ على الظاهرة.
وبحسب بعض الناشطين، يعود ذلك إلى عدم الحزم في تطبيق القانون وبقائه حبيس الأوراق والدفاتر، فتطبيق القانون يحتاج قضاءً مستقلاً قويًا وهو ما لا يوجد في موريتانيا باعتبار أن الجسم القضائي “يُناصر الأقوياء”، ويسود إجماع لدى النشطاء المُناهضين للعبودية بأن ترسانة القوانين لا تعدو أن تكون سوى مُحاولات لتجميل صورة النظام وبحث عن توفير قابلية خارجية له بما يسمح له من جلب للأموال الأجنبية.
وتبقى هذه القوانين والفتاوى دون الجدوى المرجوة منها لسببين اثنين: الأول يتعلق بغياب الحزم في تطبيق القانون؛ ما يخلق حالة من الاستخفاف باعتبار أن مآلات مخالفته ليست مُقلقة بالشكل الذي ينبغي، والثاني يتعلق بحقيقة أن العبيد السابقين يُعانون، كنتيجة لاسترقاق ذويهم، من الفاقة والفقر ما يجعل من الاستعباد شرًا لا بد منه في غياب الآفاق والعدل في تقسيم الثروات؛ ما يجعلهم في حاجة دائمة لأسيادهم وقابلية للاستعباد شبيهة بقابلية الاستعمار التي تحدث عنها مالك بن نبي.
لا يمكن تخليص المجتمع الموريتاني من العبودية دون مُعالجة ترسباتها التي تشكّلت على مدى أجيال متعاقبة وأهمها التفكير في إعادة تقسيم الثروة الوطنية وخاصة الأراضي الزراعية بشكل ينفي الفوارق العرقية الكفيلة بتشكيل حقد اجتماعي بين مكونات المجتمع الواحد، فرغم ما قد يُخيل للمراقب من بعيد من مظهر سياسي وحقوقي للملف، فإنه يحوي في عمقه عنوانًا شاملاً وهو العدالة الاقتصادية والاجتماعية.