نحو منهجية لدراسة الفوارق الاجتماعية في مصر

نحو منهجية لدراسة الفوارق الاجتماعية في مصر

دراسة ضمن كتاب: الفجوات الاجتماعية والفوارق الطبقية في المنطقة العربية

تعد عدم المساواة واتساع فجوات الأجور والاستهلاك من أهم التحديات التي تواجه الحكومات المصري المتعاقبة منذ اندلاع الثورة في 2011. فمطالبات العدالة الاجتماعية ما هي إلا انعكاسا لاتساع الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، وما صاحب هذا الاتساع من عدم تكافؤ فرص الحصول على الخدمات التعليمية، والصحية والبنية التحتية. ولعل التحدي القائم الآن في مصر والعديد من بلدان المنطقة العربية هو تحديد مستويات الفوارق الاجتماعية والفجوات الاقتصادية، من أجل الوصول لسياسات اقتصادية واجتماعية تستهدف القضاء عليها. وستحاول هذه الورقة توفير خلفية عن أهم الفوارق الاجتماعية ومحاور عدم المساواة المختلفة، وتداخلاتها، من أجل استيعاب الصورة المعقدة التي ترسمها الفوارق الاجتماعية والاقتصادية في مصر.

المنهجية

أولا، يجب أن نتعامل مع عدم المساواة والتفاوتات الاجتماعية كنتيجة لسياسات اجتماعية، وليس مجرد مصادفة. فثمة فارق بين الفقر والإفقار، وكذلك هناك فارق بين التحدث عن وجود طبقات اجتماعية وبين سياسات تسببت في تفاوتات واسعة.

عدم المساواة، والتفاوتات الاجتماعية هي نتيجة مباشرة للسياسات النيوليبرالية، وهكذا، فالدولة التي تعتبر مثلا في تطبيق النيوليبرالية بكل ما تتحمله من سياسات (بداية من خصخصة المجالات العامة، إطلاق لجام القطاع الخاص وتشجيع الاحتكار، إلى سلب العمال من حقهم في الحرية من أجل الحفاظ علي ما يسمي بحقوق الشركات)، هي الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الدولة التي تعاني الآن من تفاوتات غير مسبوقة في الدخول والثراء، حيث يتحكم 1% من المواطنين في 40% من إجمالي الثروة، بينما يتحكم الـ80% الأفقر من الشعب في 7% فقط من الثروة.[1]

وهكذا، فبدلا من الحديث عن عدم المساواة والتفاوتات الاجتماعية كوضع قائم، نتحدث عنها كعملية مستمرة، كتطور مستمر نتج عن جريمة مستمرة في السياسة العامة اتجاه الشعوب. فالإفقار جريمة، وحرمان معظم شعوب العالم من الموارد والحقوق الأساسية هو جريمة.[2]

ثانيا، الفوارق الاجتماعية لها مستويات عدة، ولكنها أيضا لها تقاطعات. فالفوارق الاجتماعية يمكن أن تكون حسب الموقع الجغرافي، فنقارن ثروات ودخول ومستوى معيشة الوجه القبلي بالوجه البحري. وقد يكون لها علاقة بالنمط الاقتصادي والاجتماعي للمناطق، فنجد أن الريف أشد فقرا من الحضر في معظم أنحاء الجمهورية. ثم نجد أن النوع الاجتماعي له علاقة بالفقر والحرمان من الموارد، فالمرأة عادة أكثر فقرا، وأكثر حرمانا من الرعاية الاجتماعية ونظم التأمين الصحي. ثم نجد أن العرق والطائفة لهما دورا في الوصول للخدمات والتمتع بالحماية القانونية على سبيل المثال، فنجد أن البدو وأهل النوبة بصعيد مصر أكثر تهميشا من غيرهم، رغم عدم توافر الإحصاءات، ونجد أن الأقلية المسيحية في مصر لا تتمتع بنفس حقوق الأغلبية، لا سيما في الحماية القانونية والوصول للمناصب الحكومية، ولعلها تعاني من فوارق اقتصادية أخرى لا ندركها بسبب عدم توافر البيانات الحكومية حسب العرق والدين.

ولكن من الجدير بالذكر أن هذه المستويات تتقاطع، ولا يمكن أن نتعامل معها كمسطحات منعزلة، وانما يجب دراسة تقاطعات المكان الجغرافي، مع النوع الاجتماعي، مع الطبقة الاقتصادية، مع العرق والدين. فمن هنا نجد على سبيل المثال أن نساء ريف الوجه القبلي هن الأكثر معاناة مثلا في الوصول للحقوق الصحية.

ثالثا، وبسبب النقطة الأولي التي وضحت أن التفاوتات الاجتماعية هي عملية مستمرة من صنع السياسات العامة، فيجب أن يتم وضع تلك التفاوتات في إطارها، القانوني، والسياسي والهيكلي والاقتصادي. ومن هنا نتمكن من التوصل للشكل الهيكلي للفوارق الاجتماعية والاقتصادية، الذي يتكون من حكومة مركزية تتحكم في الموارد على مستوى الجمهورية، حكومات محلية فاسدة ولا تتحكم في مواردها، ولا تتصل بمواطنيها، إطار قانوني يهمش، بل ويجرم سبل تنظيم وعمل طبقات بعينها، فيجرم إضرابات العمال، ويحد من الحريات النقابية، ويتحكم في التنظيمات التعاونية، ولا يضمن حقوق النساء، بما فيها حقوقها في العمل، وفي الصحة الإنجابية أو الحماية القانونية من عنف الزوج البدني. وأخيرا، السياسة الاقتصادية، التي دفعت بخصخصة الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والسكن، وتسببت في تسليع تلك الخدمات، تاركة أغلبية المواطنين تحت رحمة الخدمات الحكومية المتهالكة التي تقشفت الحكومة في دعمها. وتأتي تلك السياسة التقشفية في ظل حكومة تسعى لأن يكون المصدر الأكبر لدخلها هو ضريبة الاستهلاك الرجعية، من خلال ضريبة القيمة المضافة التي نشهد الآن بداية تطبيقها، وفي ظل حكومة فشلت في جمع الضرائب على الأرباح الرأسمالية وتراجعت عن تحميل أصحاب الدخول الأعلى ضرائب تتناسب وأرباحهم.

رابعا، فإن اشكال التفاوتات الاجتماعية تختلف، وطريقة دراستها وقياسها تتباين هي الأخرى. فالتفاوتات التي تقاس كميا من خلال الإحصاءات الحكومية والتعدادات بها العديد من البيانات، عن تفاوت دخول الافراد والسر، تفاوت نسب الإنفاق، تفاوت نسب الاستهلاك، وتفاوت الثروات والممتلكات. كما أن الإحصاءات توفر بعض البيانات حول الوصول للخدمات، من الصحة والسكن والرعاية الاجتماعية والوصول لخدمات البنية التحتية الأساسية، كمياه الصرف الصحي والمياه الشرب والطرق وخدمات الإنترنت والتليفونات. ولكن التفاوتات ليست جميعها قابلة للقياس، كما أن بعضا القابل للقياس لا تتوفر المعلومات الحكومية عنها: كالتفاوتات في الوصول للحق في المدينة، وهو الحق في الوصول للحدائق العامة والشواطئ والسواحل، والتمتع بخدمات المدينة، وكذلك الحق في الوصول لنظم العدالة والمحاكم على سبيل المثال، وهي النـم التي تحرم المواطنين من الوصول لها علي أسس اقتصادية وجغرافية. وأخيرا، فالوصول لصانعي القرار والسياسة العامة ليس من امكان أغلبية المواطنين، خصوصا في الريف والوجه القبلي، ولذا لا نتعجب من أن العديد من أهالي الريف أو المحافظات الحدودية يصلون القاهرة للتظلم أمام مجلس الشعب أو إحدى الوزارات، وذلك في محاولة يائسة لإيصال صوتهم للمسؤولين.

التفاوتات الاجتماعية في إطار السياسات العامة والقوانين في مصر

من المهم الإشارة للإطار العام المصري، بما يتضمنه من صناعة السياسات وصياغة القوانين، قبل دراسة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، وذلك للتأكيد على أن التفاوتات وزيادة الفجوات ليست مجرد مصادفة، أو وضع قائم، انما هي نتيجة مباشرة للسياسات العامة، الاقتصادية والاجتماعية، والقوانين الحاكمة للتنظيم والمطالبة بالحقوق الأساسية.

على الرغم من أن اندلاع الثورة المصرية في يناير 2011 يعتبر انعكاسا لفشل السياسات الاقتصادية لنظام مبارك، الذي أدي لمعدلات نمو مرتفعة لا تصاحبها رفاهة أو ارتفاع في مستوى المعيشة، الا أن سياسات ما بعد الثورة قد عملت على تعميق تلك السياسات الاقتصادية الفاشلة، التي تسببت مباشرة في زيادة معدلات الفرق والتفاوتات الاجتماعية. ولكن الأسباب الجذرية للمشاكل الاقتصادية في مصر لم تحظ سوى باهتمام ضئيل من الحكومات المتعاقبة منذ رحيل مبارك في فبراير 2011. بدلا من ذلك، استمرت الدولة في انتهاج نفس السياسات الاقتصادية[3]، وهي التي تركزت على تخفيض مخصصات الميزانية العامة للدولة للخدمات العامة كالصحة والتعليم وتوفير المسكن الملائم لمحدودي الدخل وخدمات البنية التحتية الأساسية وعلى رأسها المياه، والطرق وشبكات الصرف الصحي. فكانت الملامح الأساسية للسياسة الاقتصادية هي التقشف في الاستثمار في الخدمات العامة، وايلاء الأولوية لعلاج العجز المتنامي في الميزانية وتحقيق استقرار الجنيه المصري، من خلال المساعدات الدولية، ولاسيما مساعدات دول الخليج العربي المجاورة، والمؤسسات المالية الدولية، بكل ما تتضمنه تلك المساعدات والديون من شروط اقتصادية هيكلية. وهكذا فقد تم تنفيذ تدابير عديدة في السنوات الماضية لا تحظى بشعبية، كخفض الدعم عن المواد الغذائية والوقود، وزيادة الضرائب الرجعية، خاصة على السلع والخدمات من خلال تطبيق قانون الضريبة على القيمة المضافة على سبيل المثال[4]. وواصلت الحكومات الانتقالية المتعاقبة –بما فيها حكومة الاخوان المسلمين- تجاهل الأصوات المطالبة بالإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الأكثر عدالة. وفيما استمرت الحكومات المتعاقبة في التخطيط والتنفيذ بطريقة سرية وير تشاركية، عملت الحكومات علي كبت الأصوات النقدية من المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات وأحزاب المعارضة، وذلك من خلال ممارسات عنيفة استندت للعديد من التشريعات، وعلى رأسها قانون التظاهر.

أصدر الرئيس المؤقت عدلي منصور في 24 نوفمبر 2013 قانون التظاهر، من خلال القانون رقم 107 لعام 2013 بتنظيم الحق في الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية[5]، وهو التشريع الذي تسبب في الزج بالعديد من العال والشباب والمواطنين في السجون، بسبب اعتبار تظاهراتهم تعطيلا للإنتاج أو خطرا على الأمن أو السلم العام. وقد كان لقانون التظاهر الأثر على تقويض حق المواطنين في التظاهر العفوي من أجل المطالب البسيطة، وللفت انتباه الحكومة لمطالبهم البسيطة الأساسية، وذل بالرغم من ادعاء الحكومة من خلال لغة التشريع أن الهدف من القانون هو “تنظيم” الحق في التجمع وليس تقويض أو تجريم الحق. وفي 16 أغسطس 2015 أصدر رئيس الجمهورية القرار بالقانون رقم 94 لسنة 2015 بإصدار قانون مكافحة الإرهاب، الذي اعتبرته المنظمات الحقوقية المصرية والأحزاب والعديد من المحللين صفعة جديدة للحقوق الدستورية، ومحاولة لأطلاق يد الدولة لتصفية المعارضين خارج الاطار القانوني، حيث “استخدم رئيس الجمهورية الموقت المستشار عدلي منصور، ومن بعده الرئيس عبد الفتاح السيسي رخصة التشريع المتاحة لهما بسبب غياب البرلمان وأصدرا عددا كبيرا من القوانين التي توسعت بشكل غير مسبوق في التجريم والعقاب، وجعلت البيئة التشريعية المصرية قائمة على فكرة القوانين الاستثنائية، فبداية من قانون التظاهر، وقانون الكيانات الإرهابية رقم 8 لسنة 2015 وقانون إعفاء رؤساء الهيئات الرقابية من مناصبهم رقم89 لسنة 2015، مرورا بتعديل المادة 78 من قانون العقوبات، وانتهاء بقانون مكافحة الإرهاب محل التعليق، لم يتوافق أي منهم مع الدستور، وكأن هناك إرادة سياسية لتعطيل العمل بالوثيقة التي وافق عليها الشعب”.[6]

لم تتوقف محاولات الدولة الهيكلية لإخماد الثورة ومطالبها عند القوانين القمعية السالف ذكرها، ولكنها امتدت للقوانين المنظمة للتعاونيات على سبيل المثال: تلك التنظيمات التي من شأنها رفع شأن مجموعات من السكان والعمال والفلاحين، من خلال إطار تشاركي، ربحي، وتنظيمي هام، أثبت نجاحه في كافة أنحاء العالم. ولكن في مصر، المؤسسات التعاونيـــة عملهـــا معرقـــل. فبالرغم من وجود ما يزيد علي الثمانية عشر ألف مؤسسة تعاونيـــة بمصر، بها أعضاء بلغ عددهم الـ18 مليـــون، الا أن معظم هذه التنظيمات تعتبر صورية، وغير معبرة عن احتياجات المواطنين. فقـــد حولـــت تشـــريعات مثـــل القانـــون رقـــم 28 لســـنة 1984 التعاونيـــات إلى جهـــات تابعة مباشرة للســـلطة المركزيـــة، وسلبتها تماما من استقلاليتها وقدرتها على تمثيل المواطنين كألية تشـاركية غيـر مركزيـة، يملكها المواطنين من أجل تحســـين مســـتويات المعيشـــة، ويمكنهم تكوينها وتأسيسها والانضمام لها، دون الإذن أو الرقابة الحكومية. [7]، [8]

وأخيرا، فان توزيع المخصصات من الميزانية العامة للدولة للخدمات غير عادل، وقد يكون عشوائي في العديد من الأحيان. فعلي سبيل المثال، نجد انحـــيازا في توزيـــع بعض المـــوارد والخدمـــات العامـــة للقاهـــرة الكبـــرى. فعلى الرغم من أن الحكومـــات المحليـة تعتمد علـى الحكومـة المركزيـة للحصول على حوالي 80% مـن مواردهـا الماليـة، ولكنهـــا تتلقـــى 11% فقـــط مـــن الموازنـــة العامـــة فقط.[9] وهكذا، فاتخاذ قرارات الإنفاق وكذلك غالبية الإنفاق الفعلي يتم من الحكومة المركزية في القاهرة، لكافة أنحاء الجمهورية. وهكذا، نجد تفاوتات في التوزيع، بعضها عشوائي، وبعضها ينحاز للقاهرة الكبرى. فعلي سبيل المثال، يذهـــب النصيـــب الأكبـــر مـــن الأراضي المخصصة للخدمـــات الرســـمية المعـــدة للســـكن إلى القاهـــرة الكبـــرى التـــي تســـتفيد مـــن حوالـــي 74% مـــن تلك الأراضي، وهـــو مـــا يمثل حوالـــي 28 متـر مربـع للفـرد، بينما نصيب الفرد فـــي المحافظـــات الريفيـــة فـــي الوجـه القبلـي يصل إلى 2 متر مربع فقط للفـرد[10]. وتبـــرز نفـــس الظاهـــرة فـــي توزيـــع مـــوارد الطاقـــة، فعلـــى الرغـــم مـــن أن الإحصاءات الرسمية تبين أن 99.5% من الأسر المصرية متصلة بشبكة الكهرباء، الا أن نصيب الفرد غير عادل بالمرة، ويظهر تمييزا واضحا لصالح سكان القاهرة الكبرى، حيث يحظى الفرد بنصيب مـــن الكهربـــاء للاستهلاك المنزلي إلى 1708 كيلـو واط فـي العـــام، وهـــو مـــا يبلـــغ ثلاثة أضعاف المتوســـط على مستوى الجمهورية.[11]

ولكن الانحياز ليس قاعدة عامة للفوارق، فمن المهم الالتفات لبعض التخبطات العشوائية التي أدت لتفاوتات، والناتجة أساسا عن سوء الإدارة والتخطيط. فعلى سبيل المثال، أظهرت تقاريـر مرصـد الغـذاء المصـري أن 16.4% مـن الأسر الأكثر حرمانا لـم تحصـل علـى بطاقـة تموينيـة للحصـول علـى الغـذاء المدعـم فـي الربـع الأخيـر مـن 2013. وتزيـد هـذه الأرقام فـي محافظـات الاسـكندرية إلى 33.3% ويليهـــا ســـوهاج بـ25% والســـويس بـ23.8%.[12] وهكذا، فالسويس والإسكندرية، من المحافظات الحضرية التي نتوقع أن تنحاز الدولة لهم، الا أن أسرهم الأكثر عرضة لعدم الحصول على البطاقات التموينية على مستوى الجمهورية، إلى جانب محافظة الصعيد، سوهاج.

وأخيرا، فإن المفاهيم الحكومية لها تأثير هام على السياسة العامة والمستفيدين منها، فنجد على سبيل المثال أن محدودي الدخل لا يصلون لإسكان الدولة المخصص لمحدودي الدخل بسبب التفسير القانوني لمحدودي الدخل. فالأسر “منخفضـــة الدخـــل”، طبقـــا للمـــادة 1 مـــن قـــرار رئيس الـــوزراء رقـــم 1864 لســـنة 2008 بتعديـــل المـــادة 35 مـــن قانـــون الرهـــن العقـــاري رقـــم 148 لســـنة 2001، هي التي يبلغ دخلهـــا الســـنوي 30 ألف جنيهـــا مصريـــا أو أقل، وهـــو مـــا تبيـــن الإحصاءات الرســـمية أنه دخـــل يتضمن الأسر في الخُمس الأعلى للدخول، حسب إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة للدخل والإنفاق لعام 2013. ويسمح ذلك بطبيعة الحال لمتوسطي الدخل بمنافسة الأسر منخفضة الدخل في الحصول على المساكن. ولكن الدخل ليس العائق الوحيد، وانما يشترط أن يثبت المسـتفيد دخلـــه، وهـــو ما يحول دون حصول ثلثـــي القـــوة العاملـــة ممن يعملـون فـي القطـاع غيـر الرسـمي على تلك الوحدات. [13]

محاور الفوارق الاجتماعية في مصر

بعد هذه الخلفية السريعة عن الإطار العام الذي نطل من خلاله على الفوارق والتفاوتات الاجتماعية، وعملية اتساع الفجوات المستمرة، يمكننا أن نبدأ في دراسة محاور الفوارق، وأنواع التفاوتات الظاهرة بها.

ولعل من أهم محاور التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية هي التفاوتات المرتبطة بالنطاق الجغرافي، سواء بين الوجه القبلي والوجه البحري، أو بين المحافظات وبعضها. وكما ذكرنا في السابق، فإن التفاوتات بين المحافظات قد تكون عشوائية، أو قد ترتبط بانحياز للمحافظات الحضرية وعلى رأسها القاهرة. وأخيرا، فالفوارق الجغرافية يندرج تحتها الفوارق في نمط المعيشة، وهو الفرق بين سكان الريف والحضر. وبالرغم من أن مفهوم وتعريف الريف أصبح مختلفا عما سبق، حيث أن أعداد السكان بالريف الذين لا يعملون بالزراعة يتزايد، كما شهدت العقود الماضية اختلافا هاما في أنماط الحياة، خصوصا بسبب الهجرة العاملة للسكان من الريف للحضر، وعودتهم للريف للعيش مع أسرهم، أو بسبب ما يسمى بأثر المساواة للتكنولوجيا، وهو نظرية أن سكان الريف عندما يصلون لتكنولوجيا المعلومات والإنترنت، يصبحون أقرب لسكان الحضر. ولكن قبل الدخول في هذه النقاشات الهامة، يتعين علينا فهم التوزيع الجغرافي لمصر أولا.

تنقسم مصر إلى 27 محافظة، من ضمنها أربع محافظات فقط تعتبر حضرية تماما، وهي القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والسويس، أما باقي المحافظات فتنقسم إلى مناطق حضرية ومناطق ريفية.[14] وهكذا، فتنقسم محافظات مصر إلى 9 محافظات في الدلتا، 9 في الصعيد، و5 محافظات حدودية.

من الجدير بالذكر، أن النسبة الأكثر لسكان مصر لازالت تقطن الريف، وتمثل 57% من السكان، وهي النسبة التي لم تتغير تقريبا منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، بل وتزايدت في عام 2015، على حساب سكان المدن. ولعل هذه النسبة تطرح نقطتين في غاية الأهمية: أولا، أن السياسات الحكومية التي لا تزال تتجاهل الريف من حيث سوق العمل، والوصول للخدمات، والبنية التحتية، وتوفير المساكن والمشروعات التنموية، هي بالتأكيد تتجاهل أكثر من نصف سكان مصر.

كذلك، فإن توقف حركة التمدين، وتوقف أنماط الهجرة من الريف إلى الحضر، لعلها انعكاس لزيادة الفقر في المدن، واتساع الفجوات الاجتماعية والاقتصادية بها، حيث صارت عشوائيات القاهرة التي يقطن بها حوالي 50% من سكان القاهرة مثالا لهذا الفقر. كما أن المحافظات الحضرية (القاهرة، الإسكندرية، بورسعيد والسويس) هي الأعلى من حيث معدلات البطالة على مستوى الجمهورية.[15] وفي كل الأحوال، فإن ظاهرة انعكاس التمدين في مصر، وزيادة سكان الريف هي جديرة بالدراسة بعمق، وذلك لما يترتب عليها من ضرورة لإعادة صياغة الخطط الحكومية، ولا سيما المخصصات المالية من الموازنة العامة للدولة.

نظرا للتفاوتات في الوصول للخدمات، فنجد أن الريف بشكل عام أقل تمتعا بالخدمات العامة، وخاصة الصرف الصحي، والمياه النظيفة، والوصول للوحدات الصحية، والمدارس والطرق. فلعل من أهم الخدمات التي وضح من خلالها تجاهل الحكومة المصرية للريف هو الصرف الصحي، حيث اقتصـــرت نســـبة اتصـــال الســـكان فـــي المناطـــق الريفيـــة بشـــبكة المجـــاري العامة فـــي 2010-2011 علـــى 24.7%، مقارنـــة بنســـبة 88% فـــي المناطـــق الحضريـــة.[16] ومن الجدير بالذكر أن بعض الإحصاءات الحكومية تتحدث عن “الوصول للصرف الصحي” وتعتبر أن معظم المنازل، حتى في الريف، يصلون لخدمات الصرف الصحي، فيما توضح البيانات المفصلة أن الغالبية العظمى لسكان الريف يصلون لتلك الخدمات بمجهوداتهم الشخصية، من خلال استخدام الخزانات أو ما يسمي بالطرنشات، ومنهم من يقوم بتفريغ مياه الصرف في باطن الأرض، ملوثا بذلك التربة والمياه الجوفية، مهددا سلامة المنازل، ومنهم من يقوم بتفريغ المخلفات في مياه النيل، الذي يشربون منه الماء ويروون به المزروعات. ولهذا، فإخلال الدولة بمسؤوليتها الأساسية في توصيل شبكات الصرف الصحي الأمنة للمواطنين يؤدي لكوارث صحية وغذائية عديدة. وبالنسبة للسكن، على سبيل المثال، نجد أن حوالي 30% من أسر ريف الوجه القبلي يقطنون منازل ذات غرفة واحدة بينما يقطن حوالي 50% من السكان هناك منازل ذات غرفتين فقط وهي النسبة الأعلى على مستوى الجمهورية، علما بأن حجم الأسر في ريف الوجه القبلي هو الأكبر على مستوى الجمهورية.[17]

ومن الجدير بالذكر أن ثمة تفاوت وانقسام في الثقافة الإلكترونية أيضا: فبالرغم من التنبؤ بأن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة يقربون الفجوات بين الريف والحضر، الوجه القبلي والبحري، وغيرهم، الا أن الريف لا يزال متأخرا عن الحضر في الوصول للإنترنت، حيث تصل 2% فقط من الأسر للإنترنت (في مقابل حوالي 15% من أسر الحضر). الا أن الريف والحضر يتقاربون في حيازة التليفونات المحمولة، حيث 81% من أسر الريف تقارن بـ91% من أسر الحضر التي تمتلك تليفونا محمولا.[18]

ومن التفاوتات التي ينبغي الانتباه لها هي التفاوتات في الوصول للخدمات البنكية، والتي تعبر عن التفاوت في التوفر الجغرافي للبنوك، كما تعتبر انعكاسا عن تحركات الحكومة في العقود السابقة لخصخصة الخدمات المصرفية، ولا سيما الخدمات المصرفية للفقراء. وهكذا، فمن خلال هذه البيانات يتضح لنا تباين الثقافة العامة في استخدام المؤسسات الخاصة للادخار، والأهم من ذلك القدرة المادية لفتح الحساب. فتظهر إحصاءات 2014 أن 3% فقط من أسر ريف الوجه البحري لديهم فرد واحد من الأسرة عنده حساب بنكي، بينما يرتفع هذا الرقم لـ17% في المحافظات الحدودية و14% في المحافظات الحضرية الأربع.[19]

الفوارق الاقتصادية كفوارق الدخول، والإنفاق والاستهلاك والتوفير أو الثروة

عدم المساواة الاقتصادية يمكن حسابها من خلال الفوارق في الثروة، أو في الاستهلاك أو في الدخول، ويتم حسابها لدخل الأسرة الواحدة، ومقارنتها على مستوى الجمهورية. وتتم المقارنة من خلال تقسيم الأسر إلى خمس فئات من ناحية الاستهلاك، أو الثروة، أو الدخول أو الإنفاق، فعلي سبيل المثال: فئة الـ20% الأكثر إنفاقا هي الفئة الأولى، وصولا للفئة الأخيرة وهي فئة الـ20% الأقل إنفاقا (أو استهلاكا أو ثروة، حسب المؤشر).

فأما بالنسبة للثروة، نجد التفاوتات بين الريف الحضر هائلة، فلا نجد بالريف أي نسبة من فئة الـ20% أكثر ثروة، والتي تتواجد في المحافظات الحضرية بنسبة 53%، بينما يعيش 30% من فئة أفقر 20% ثروة في الريف، في مقابل 3% في الحضر، وبالكامل نستطيع أن نقول أن%60 من سكان الريف يعيشون في فئة الـ40% الأقل ثروة، بينما يعيش 90% من سكان الحضر في الفئتين الأكثر ثروة. وبالتأكيد فان مؤشر الثروة كغيره من المؤشرات به العديد من العيوب، وعلى رأسها أن ثمة فجوة هائلة بين الأسر في الـ20% الأكثر ثروة. وبالرغم من ذلك، فهو مؤشر عن التفاوتات الفاحشة بين الريف والحضر في مصر من ناحية الثروات.

أما بالنسبة للاستهلاك، فقد أشارت أخر إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2015 أن أقل 20% من الأفراد إنفاقا في الحضر يحلون على نسبة 3.4% فقط من الاستهلاك، وتصل النسبة لنفس الفئة في الحضر إلى 4.5% فقط من الاستهلاك، بينما تحصل الشريحة الـ10% الأكثر إنفاقا على 27% من الاستهلاك في الحضر، ونفس الشريحة للريف تحصل على 21% من الاستهلاك.

وبينما تزايدت معدلات الفقر في أنحاء الجمهورية في 2015، حيث ارتفعت نسبة الفقر من 25.2% من إجمالي السكان في 2010/2011 إلى 27.8% في عام 2015، فقد كانت أعلى نسبة في زيادة الفقراء ضمن سكان ريف الوجه القبلي، حيث زادت نسبة الفقر في الفترة المبينة من 51% من السكان إلى حوالي 57%.[20] ويزداد الفقر مع نسب الأمية، ويقل مع نسب التعليم، فأصبحت نسبة الفقر بين الأميين حوالي 40%، بينما كانت 10% بين الحاصلين على شهادات جامعية أو أعلي. وأخيرا فان حجم الأسر اختلف مع اختلاف نمط ومتطلبات الحياة، ومعها اختلفت معدلات الفقر: فنجد أن متوسط حجم الأسرة يزيد في الريف، ومعه تزيد نسب الفقر.

التفاوتات الاقتصادية تأتي في إطار من التفاوتات الاجتماعية، خاصة فيما يتعلق بالوصول للخدمات الأساسية كالصحة والسكن والتعليم والمياه، وغيرها. وبشكل عام، فقد استمرت الدولة في انتهاج سياسات للتقشف، واسـتمرت فـي الحـد مـن دورهـا فـي القطـاعات المختلفة وعلى رأسها قطاع التعليم الذي انخفضت الميزانية العامة له من حوالي 17% مـن إجمالي إنفاق الدولـة فـي بدايـات العقـد الأول مـــن القـــرن الحـــادي والعشـــرين لتصـــل إلى متوسط 10-12% فـــي الخمسة أعوام الأخيرة، حسب الحساب الختامي للسنوات السابق ذكرها. ولعل السياسة التعليمية المجانية كانت من أهم وسائل إعادة توزيع الثروة، وإعادة توزيع الفرص في الصعود على السلم الاجتماعي. ولكن مع سياسات التقشف الراهنة، وتراجع الدولة عن دورها التنموي، نجد أن الفقير عادة ما يظل فقيرا، وأن الغني عادة ما بتمتع بالتعليم والمظهر والحياة المرفهة التي تمكنه من الاستمرار في نفس الحياة.

فتردي الأوضاع من ناحية، قد يتسبب في تردي كافة الأوضاع للأسر الفقيرة. ولعل الغذاء مثالا جيدا. فمن جانب الغذاء، نجد أن الأسر الفقيرة، مع ارتفاع أسعار الغذاء، تتجه لاسـتهلاك سـلع غذائية أرخص سـعرا كالاسـتراتيجية السائدة للتأقلم والاستمرار. فيؤدي ذلـــك للمزيـــد مـــن الاعتماد علـــى الأطعمـــة الضارة بالصحة وخصوصا الأطعمة كثيفـــة الســـعرات الحراريـــة. ويؤدي تناقص استهلاك البقـــول والفواكـــه ومنتجـات الألبان إلى زيادة مؤسفة ومتسارعة في مسـتويات سـوء التغذيـة. وحسـب تقديـر برنامـج الأغذيـة العالمـي، يعانـي حوالـي25% مـن المصرييـن مـن نقـص فـي الحديـد والزنـك وفيتاميـن)أ(، وتتركز تلك النسبة ضمن المصريين في الشرائح الأقل دخلا.[21]

ولكن مع فقر هذه المجموعات من السكان، وبالرغم من تزايد حاجتهم للجوء للعلاج والوحدات الصحية، إلا أنهم الأكثر عرضة للحرمان من الخدمات الصحية، وذلك لعدم توافرها بشكل كافٍ في المناطق الريفية، ولعدم تغطية المواطنين في الريف من قبل نظام التأمين الصحي. فتغطـــي مظلة التأمين الصحـــي حوالي نصـــف عـــدد الســـكان على مستوى الجمهورية، ولكن النسـاء وسـكان الريـف ومـن يقطنون فـي أقل شـريحة دخـل ومـن يعملـون فـي القطـاع غيـر الرسـمي هم الأكثر عرضـــة للحرمـــان مـــن التأمين. وفـــي المناطـــق الريفيـــة بالوجـــه القبلـــي والوجـــه البحـــري، تشـــمل التغطيـــة 19.4% و24.2% مـــن إجمالي عدد السـكان علـى التوالـي، أي لا تصل لنصف التغطية المتوسطة للجمهورية.

لعل التفاوتات الاجتماعية حسب الموقع الجغرافي هي شديدة الوضوح في الإحصاءات الكمية، من حيث الوصول للخدمات، أو نسب الفقر، أو معدلات الدخل والإنفاق والاستهلاك. فعلي سبيل المثال، نجد أن 31% من أطفال مصر يعانون من التقزم في 2014، وهو علامة من علامات سوء التغذية، ولكن ترتفع النسبة بين أطفال الوجه القبلي إلى 39%[22].

وفيما تصل نسبة وفيات الأطفال قبل عامهم الخامس إلى 23 طفلا من كل 1000 في الحضر، ترتفع تلك النسبة إلى 34 طفلا في الريف، وهو ما يعكس فقر الخدمات الطبية وقدرة الأمهات على الوصول للوحدات العلاجية، كما ترتفع لـ44 طفلا (أي ضعف الحضر) في ريف الوجه القبلي.[23]

فوارق النوع الاجتماعي أو الجندر

من أهم الفوارق الاجتماعية والاقتصادية التي عادة ما نتجاهلها في العالم العربي هو الفارق حسب النوع الاجتماعي. فلعل البعض يعتقد أن الفقر أزمة يعيشها الرجال والنساء، فلم “التمييز” والاهتمام بقضايا المرأة إذن؟ ولكن النظر للنوع الاجتماعي في غاية الأهمية، وذلك بسبب أن الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية المترتبة على النوع الاجتماعي أهم كثيرا من أن يتم التعامل معها كفوارق شكلية أو غير حقيقية. فالنساء هن الأكثر عرضة للعمل في القطاع غير الرسمي، بلا حقوق ولا تأمينات، وهن المتعرضات لكافة أنواع التحرش في مكان العمل، وفي الأماكن العامة، وهن الأكثر اهتماما بالإنفاق على الأسرة، حيث تولي مؤسسات القروض متناهية الصغر الاهتمام للمرأة، لهذا السبب. وفي النهاية، تواجه المرأة تحديات صحية عديدة، تجعلها أكثر احتياجا للرعاية الصحية، خصوصا حول تنظيم الأسرة، والحمل، والولادة، وفترات ما بعد الولادة. ومع كل هذه التفاوتات، نجد أن المرأة العاملة في القطاع الخاص تحصل على أجور تقل عن أجور الرجال. فيســـتمر الفـــارق فـــي الأجور بيـــن الجنســـين، ومعه التفاوتات الاقتصادية، خاصـــة فـــي القطـــاع الخـــاص حيـــث حصلت النســـاء على أجور حوالي 30% أقل مـــن الرجـــال فـــي 2010، ونجد أن الرجال في القطاع العام الأكثر تمتعا بالحوافز والبدلات، لأسباب عديدة، أحدهم ارتباط المرأة بعمل آخر بلا أجر في المنزل، رعاية الأفال والتنظيف وتجهيز الطعام وهكذا.

في نفس الوقت، فيما ارتفع معدل البطالة من 2011 إلى 2014 من 12% من قوة العمل إلى 13%، فقد بلغ معدل البطالة للإناث 24% بينما بلغ 9.6% للذكور في 2014، فيما تمثل النساء حوالي 24% من القوى العاملة، وتعمل النسبة الأكبر منهن في الزراعة (مصر في أرقام، العمل 2015) فيما تعمل 55% من النساء بالزراعة بدون أجر نقدي، وتتفق تلك النسبة مع نسبة 56% من النساء العاملات في الزراعة اللاتي يعملن لدى أسرهن، وليس أصحاب عمل آخرين.[24]

وبالنسبة للحصول على الخدمات، فالمسح الديموجرافي والصحي لعام 2014 أظهر أن 8% فقط من النساء اللاتي سبق لهن الزواج بين الأعمار من 15 لـ49 سنة لديهن تأمين صحي في مقابل 50% من المواطنين ممن يتمتعون بالتأمين الصحي.[25] وعلى جانب آخر، أظهرت بيانات نفس التقرير تعرض 30% من النساء من نفس الفئة العمرية للعنف البدني أو الجنسي من قبل الزوج، في بعض الأحيان للخروج من المنزل دون إذنه، وهو ما أصبح له الأثير الهام على قرار المرأة بالخروج من المنزل للحصول على الرعاية الصحية كما سنوضح بعد قليل.

ومن التقاطعات الهامة، هو نسبة تعليم النساء في الريف مقارنة بالحضر: فبينما لم تحصل 17% من نساء الحضر على أي نوع من التعليم، تتضاعف النسبة في الريف إلى 30%، أما بالنسبة لمتوسط السنوات التي حصلت عليها النساء في التعليم، فيصل المتوسط لما يزيد عن الـ8 سنوات لنساء الحضر، وينخفض المتوسط للنصف في محافظات الريف فيصل إلى 4 سنوات فقط.[26]

وبالتأكيد فان للنوع الاجتماعي دورا في هذا التفاوت، حيث لا يصل التفاوت لهذا الحجم بين الرجال، فنسب الرجال التي لم تحصل على أي تعليم تمثل 10% من رجال الحضر و16% من رجال الريف، بينما متوسط ساعات التعليم تصل إلى 9 ساعات في الحضر، بينما تزيد عن الـ6 ساعات في الريف.[27] وبشكل عام، فنسبة الأمية في الريف لا تزال تمثل 32% من إجمالي عدد السكان، أي ضعف نسبة الأمية بين سكان الحضر، التي وصلت لـ15%.[28]

الوصول للرعاية الصحية للنساء من أهم التحديات التي تواجه النساء في كافة أنحاء الجمهورية، فقد أكد مسح وزارة الصحة أن 63% من إجمالي نساء الحضر لديهن مشاكل في الوصول للخدمات الصحية، مقارنة بـ71% من نساء الريف. وقد تكون الخدمات الصحية من الأمثلة الرائعة لتقاطعات التفاوتات الاجتماعية: فـ20% من نساء الريف لا يستطعن الوصول للخدمات الصحية بسبب بعد مسافتها عن مكان اقامتهن، و24% لا يقدرن على تكاليف المواصلات للوصول للخدمات، مقارنة بـ13% من نساء الحضر، وهو ما يعكس عدم توافر الوحدات الصحية في الريف، كما أن حوالي 9% من النساء في الريف لا يصلن للخدمات الصحية بسبب عدم تصريح أزواجهن لهن الخروج للحصول على الخدمات، في مقابل نصف هذه النسبة في الحضر (4% من نساء الحضر)، وهو ما يعكس الحرمان على أساس النوع الاجتماعي، وسيطرة الرجال على حركة النساء خصوصا في الريف. وأخيرا، فالسياسة العامة التي تتجه لخصخصة الخدمات الصحية والتقشف في توفير الخدمات العامة قد تسببت في أن 56% من نساء الريف و50% من نساء الحضر لا يصلن للدواء، و50% يشتكين عدم توافر مقدمي الخدمة العلاجية في الريف، مقابل 42% في الحضر.

الفوارق غير القابلة للقياس الكمي

من الهام التطرق إلى التفاوتات الاجتماعية التي لا تقبل القياس الكمي، أو التي لم تتوافر المؤشرات لقياسها. ومن أهم هذه التفاوتات هي تفاوت الوصول للحق في المدينة، الوصول لنظم العدالة، الاشتراك في السياسة العامة واتخاذ القرار، والاشتراك في سوق العمل، من خلال الاقتصاد الرسمي.

ويعتبر الحق في المدينة من أهم محددات الفوارق الاجتماعية، بل ومن مؤشرات اندثار ما يسمي بالطبقة الوسطى، تلك الطبقة التي لا اتفاق حول مفهومها، سوى أنها تمثل وسط الهرم الاجتماعي، وأنها طبقة ما بين أصحاب الأعمال والعمال، سواء من الموظفين الميسورين أو الإداريين الأكثر كفاءة أو المهنيين. ولكن المدينة أصبحت لا تقبل الوسط، ومع تزايد ظاهرة مدن الأسوار، أو المجتمعات العمرانية الحديثة، ازداد تهميش عدد من المواطنين من مدينتهم. ومع خلق المناطق الخاصة، التي لا يصل لها سوى الأغنياء، تآكل الفضاء العام، بما شمله من حدائق وشواطئ، بل وشوارع وكباري أصبحت لا تسمح بدخول من هم خارج الطبقة القاطنة لتلك المنازل المرفهة. وفي ذات الوقت، استمرت المدينة في التآكل، مع انخفاض استثمارات الدولة في الخدمات العامة الأساسية، واستمرت العشوائيات التي يقطنها نصف سكان القاهرة على نفس الحال. وهكذا، أصبحت القاهرة على سبيل المثال، مدينة الأسوار، والمناطق الخاصة، وفيما اشترى الأغنياء حقهم في المدينة بثرواتهم، ظل الفقراء وسكان العشوائيات يحاربون من أجل البقاء على أراضيهم، محاربين محاولات لتهجيرهم قسرا، أو إعادة توطينهم في الصحراء.

ومن التفاوتات الهامة أيضا التي لا نحصل على البيانات لقياسها هو الوصول لنظم العدالة والقدرة على الاشتراك في السياسة العامة وصناعة القرار. فالتوزيع الجغرافي للمحاكم ينحاز للقاهرة من ناحية، وللمدن والوجه البحري من ناحية أخرى، وهكذا فيتعين علينا أن نتذكر أن القدرة على التظلم، أو الشكوى، أو الوصول لسبل التقاضي من أهم سبل الفروق الاجتماعية في مصر. وكذلك الحال في صناعة القرار، حيث يظل سكان وعمال القاهرة الأكثر وصولا وتأثيرا على الحكومة المركزية، مما لا يعني أن سكان القاهرة يشتركون في صناعة القرار بأي شكل، فهم بالفعل معزولين عن صناعة القرار في مناخ لا يعرف الشفافية والتشاركية، ولكن سكان المدن، ولا سيما سكان القاهرة عندهم القدرة على اثبات الحضور، على تعطيل المدينة، أو الظهور أمام وسائل الإعلام، التي لا تهتم بالأخبار من الريف، ولا يصل محرروها قاطنو المدن للسكان المعزولين خصوصا في قري ونجوع مصر.

وأخيرا فالقطاع غير الرسمي يمثل فرصة وعائقا للمواطنين. فمن ناحية، يجد العديد من المواطنين في القطاع غير الرسمي، والاقتصاد غير الممنهج فرصا للعمل بدلا من البطالة، وفرصا لتحسين الدخل، ولكن من ناحية أخري، فظروف العمل في القطاع الغير رسمي غير مضمونة بالمرة، سواء من ناحية الأمان الوظيفي، أو ضمان الراتب أو حتى ضمان أبسط الحقوق في بيئة العمل. ويشـير المسـح التتابعي لسـوق العمـــل في مصـــر للعـــام 2012 إلى أن ثلثـــي تعـــداد العامليـــن المصرييـــن يعملـــون بصـــورة غيـــر رســـمية، وأن هذه النسبة استمرت في التزايد منذ اندلاع الثورة في 2011، وذلك حسب تقديرات البنك الدولي. ولعل هذا التعداد الضخم للقطاع غير الرسمي هو إشارة تنبيه هامة لنا في نهاية هذه الورقة، فلنتذكر أن إحصاءات الحكومة لا تعكس الحقائق، ولا تعترف بوجود المرأة مثلا ضمن سوق العمل بالشكل الكافي، بسبب تجاهلها للقطاع غير الرسمي، الذي يمثل المكان الأهم لعمل المرأة. وهكذا، فيتعين علينا أن نتعامل مع البيانات الحكومية كمؤشرات فقط، ولكنها لا تعكس الحقيقة بزي حال من الأحوال، فالحقيقة تحدث في القطاع الغير ممنهج، الذي يختفي من الحكومة كسبيل من سبل الاستمرار، ولكنه في كل مكان.

الخاتمة

تعد الفوارق الاجتماعية والاقتصادية المتنامية من أهم المؤشرات على فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية في توزيع الثروات على المجتمع، بكافة طوائفه وفئاته، سواء من جانب الدين أو العرق أو النوع الاجتماعي، أو المكان الجغرافي أو حتى الفئة العمرية. فالسياسة الاقتصادية، وعلى رأسها السياسة الضريبية، هي المحرك الأساسي للمجتمع، فهي التي تضع الأعباء على فئات دون غيرها، كما أنها هي التي تختار من يحصل على الخدمات، وعلى الفرص في الارتقاء بمستوى معيشته. ولعل من أهم الاختلافات النوعية التي أصبحت تواجه المجتمع المصري، هي انعدام تكافؤ الفرص، وانعدام فرصة “الحراك الاجتماعي” (social mobility) وهو قدرة المواطنين على التنقل العامودي على السلم الاجتماعي، بين وظائف ومستويات ثقافية وشرائح اجتماعية واقتصادية مختلفة. فانعدام فرصة الحراك هو ما نصفه في مصر عندما نشير إلى أن ابن الفقير يظل فقيرا، وابن الغني يظل غنيا، ولعله هو ما أصبح البعض يشير اليه بانعدام الطبقة الوسطى، فهي الطبقة التي كانت تعبر معنويا عن قدرة المواطنين الصعود عاموديا على السلم الاجتماعي والاقتصادي. ولعل من أهم السياسات التي تسببت في انعدام هذا الحراك على السلم الاجتماعي هو تغيير سياسات التشغيل في مصر، التي تحولت من سياسة تضمن عمل الخريجين في القطاع العام، إلى سياسة تعتمد على القطاع الخاص، وتترك للخريجين مسؤولية إيجاد فرص عملهم، تلك المسؤولية التي كما توضح بيانات البنك الدولي، أصبحت تعتمد على إذا ما كان لدى الخريجين “الأب المناسب”: فقد أوضحت بيانات البنك الدولي أن فرصة حصول الشباب الخريجين على وظائف مختلفة عن أهلهم، في حال أن أهلهم يعملون في القطاعات العمالية (blue collar) أو الزراعية، تضاءلت بقدوم عام 2006 إلى 11%، مما يعني أن الشباب لا أمل لهم في وظائف مختلفة، تتناسب وأحلامهم، ولا يجرؤون على الحلم حتى بالصعود على السلم الاجتماعي. فتنتهي الدراسة إلى أن ما يساعد الشباب في تحقيق أحلامهم في مصر، هو أن يولدوا “للأهل الصحيحين”، أي الأغنياء أو المتيسرين.[29]

ـــــــــــــــــــــــــ

[1] Cole، N.L. 2015. “What is Social Stratification? And Why does it Matter?” https://is.gd/Tup02X

[2] Kerstenetzky، C. L. “The Violence of Inequality”. https://is.gd/WGJroC

[3] للمزيد من المعلومات: المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، “احصائيات التقرير الموازي حول جلسة مساءلة مصر أمام لجنة الأمم المتحدة” 2013. https://is.gd/V2xZl8

[4] المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تطبيق ضريبة القيمة المضافة والعدالة الضريبية في مصر، 2016، https://is.gd/ehTAQp

[5] نص القانون: https://is.gd/K6pPLo

[6] مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، “قانون مكافحة الإرهاب الجديد صفعة جديدة للدستور وتشجيع على القتل خارج نطاق القانون”، أغسطس 2015. ص 3، https://is.gd/8qoOKu

[7] المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ورق حقائق أسبوع الاستثمار، 2014، الورقة رقم 6: https://is.gd/Noeqt5

[8] مجدي سعيد. “نحو إصلاح الحركة التعاونية” محيط. 2012. https://is.gd/fvTzgr

[9] يحيي شوكت. 2013. العدالة الاجتماعية والعمران، خيرات مصر. مدونة وزارة الإسكان الظل.

[10] نفس المصدر

[11] مركـز المعلومـات ودعـم اتخـاذ القـرار 2010، وصـف مصـر بالمعلومـات 2010، اسـتهلاك الفـرد مـن الكهربـاء والإنـارة محسـوب عـن طريـق قسـمة اسـتهلاك المحافظـة علـى عـدد السـكان.

[12] مرصد الغذاء المصري، النشرة الربع سنوية، 31 ديسمبر 2013، مركز دعم واتخاذ القرار بمجلس الوزراء، https://is.gd/G6XYrD

[13] المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ورق حقائق أسبوع الاستثمار، 2014، الورقة رقم 6، مرجع سبق ذكره

[14] Demographic and Health Survey of 2014. Ministry of Health and Population. May 2015. https://is.gd/anY4Dh، p. 23

[15] الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء. كتاب مصر في أرقام، باب العمل. اصدار عام 2015

[16] الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء. كتاب مصر في أرقام. إصدار عام 2012

[17] Demographic and Health Survey of 2014. Ministry of Health and Population. May 2015، https://is.gd/anY4Dh

[18] الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء. الاستهلاك والإنفاق، كتاب مصر في أرقام 2015

[19] Demographic and Health Survey of 2014. Ministry of Health and Population. May 2015. https://is.gd/anY4Dh، p. 40

[20] الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، مؤشرات الفقر، 2015

[21] برنامـج الاغذيـة العالمـي. مصر. 2013. https://is.gd/fNAJoH

[22] نفس المصدر

[23] Demographic and Health Survey of 2014. Ministry of Health and Population. May 2015. https://is.gd/anY4Dh، p. 126

[24] Demographic and Health Survey of 2014. Ministry of Health and Population. May 2015. https://is.gd/anY4Dh، p. 60

[25] Ibid.،

[26] ibid.، 46

[27] Ibid.، 47

[28] ibid.، 53

[29] Ersado، Lire. “Social Mobility In Egypt: It helps to have the Right Parents”، January 2013، The World Bank، https://is.gd/gI7n86

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart