“جدار الفصل” اللبناني في عين الحلوة: ما الذي يميزه عن جدار إسرائيل؟
لا ينقص محيط مخيّم عين الحلوة وحدوده سوى كاشفات ضوئية، وكلاب بوليسية ترابط على حدود الكيلومتر و200 متر مربّع المُكتظّ بمئة ألفٍ من اللاجئين، تضاف إليهم آلافُ من الفلسطينيين الهاربين من نار الحرب السّورية. إذ شرع الجيش اللبناني في بناء جدارٍ حول المخيّم، يزنّر فيه خصر عين الحلوة، باعتباره خاصرة أمنية رخوة جنوباً، وجزيرة أمنية تؤوي المطلوبين بجرائم مختلفة، تبدأ عند الإرهاب ولا تنتهي بالسّرقات والتّزوير.
جدار “الفصل” فكرة ولدت مع استعار الأزمة السورية، في العام 2012. وتزامناً مع الخوف اللبناني من انتقال النّار السورية إلى الأراضي اللبنانية، قرّر الجيش اللبناني بناء جدارٍ أمني، كطوقٍ حول المخيم، يقي فيه المحيط من تسرّب الإرهابيين والسيارات المفخّخة، لكن المشروع ما لبث أن عاد للأدراج بسبب غياب التّمويل. مع بداية شهر سبتمبر، عاد مشروع الجدار للحياة وباشرت الآليات العمل، في قرارٍ مشتركٍ أتخذه الجيش بالتّوافق مع الفصائل الفلسطينية، مع أن الوضع الأمني في المخيم تحسّن، ومعظم المطلوبين سلّموا أنفسهم للجهات الأمنية. الجدار سيستغرق 15 شهراً لتشييده، بعلوٍ يراوح بين 5 و6 أمتار، مع أبراجٍ يصل ارتفاعها لـ9 أمتار. استنساخ تجربة عزل الضّفة الغربية في لبنان ستكون نتائجه عكسية، حفر الباطون والأساسات العمرانية العميقة بهدف منع التسلّل ستحفر في قلوب سكّان المخيم إحساساً جديداً بالاضطهاد، ليرافق موجة الاضطهاد التّاريخية ما بعد الحرب الأهلية.
العنصرية وتاريخ الصّراع
تعود جذور النزاع المسلح بين الفلسطينيين وجزء من اللبنانيين للعام 1969، وله أسباب عدة، منها نزعة اليمين اللبناني في تلك الفترة لرفض الغير، ولكن الأهم هو ما نتج عن اتفاق القاهرة الذي أزاح عن كاهل الدول العربية أي مسؤولية تجاه الفلسطينيين، وسهل على ياسر عرفات ومنظمة التّحرير مقاتلة إسرائيل انطلاقاً من لبنان فقط، فردّت إسرائيل مباشرة على هذا القرار بتدمير مطار بيروت وحرق كافة الطائرات المدنية التي كان يملكها لبنان. ثم جاء أيلول الأسود في الأردن وطرد الفلسطينيون من هناك، فاتجهوا مباشرة إلى لبنان، ما ادى إلى تفاقم الأزمة. وبالتالي فإن الصّراع اللبناني – الفلسطيني كان بغطاءٍ عربي، تولّاه الرئيس جمال عبدالنّاصر ولاحقاً الرّئيس العراقي صدام حسين، والليبي معمّر القذافي، ودفع فيه اللبنانييون كما الفلسطينيون ضريبة إعادة تظهير صورة القضية الفلسطينية، بينما كانت إسرائيل تتوسّع وترتاح جزئياً في تنفيذ مخطّطها وتثبيت كيانها.
رواسب الصّراع لا تزال لليوم، فاللبناني ينطلق بموقفه المتشدّد من الفلسطينيين من تاريخ الحرب الأهلية ومشاهدها، بينما يعاني الفلسطيني حصاراً اجتماعياً وأمنياً جعل من مخيّماته مقصداً للمطلوبين، وبؤرة للإرهاب ولو لم تحتضنه.
كسر الجدار بإعطاء الحقوق لا بالمكعبات الإسمنتية
من السّهل تبرير بناء الجدار قانونياً ولو أن المموّل ما زال مجهول الهوية، فحجّة الإرهاب والأمن الوقائي كفيلة بإسكات أي صوتٍ معترض، ولكن بدل مقاربة وضع سكان المخيّم الإنساني والاجتماعي، والسّعي لاستجرار التّمويل لبناء مدارس ومستشفيات ومشاريع بُنى تحتيّة تكفل للاجئين أبسط مقوّمات الحياة الكريمة، تتجه الحكومة اللبنانية لمزيد من الإجراءات المتشدّدة.
يعاني قرابة 280 ألف لاجئ فلسطيني من حرمانٍ يطال معظم حقوقهم الاقتصادية والمدنية، ويفرض على المجتمع الفلسطيني – مجتمع الشّتات – حالةً من الفقر المزمن، لينضمّ إليهم قرابة 42 ألف لاجئ فلسطيني هرب من المخيمات في سوريا. يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في سجلات وكالة غوث اللاجئين، الأونروا، نحو 496 ألف لاجئ، إلا أنّ العدد الفعلي الذي بقي في لبنان يراوح بين 260 و280 ألف لاجئ، يعيش 63% منهم داخل المخيّمات الـ12 الموزّعة على الأراضي اللبنانية بحسب الأونروا، بينما يقطن الـ27% الباقون خارج المخيمات وفي محيطها.
يستأثر مخيّم عين الحلوة بنسبة 15% من عدد اللاجئين الفلسطينيين الموجودين على الأراضي اللبنانية، و14% من نسبة الفلسطينيين الآتين من سوريا. وتشكّل الشّريحة القابعة تحت خطّ الفقر، نسبة 65% من مجمل اللاجئين، 8% منهم يعيشون في عين الحلوة، ولا يملكون القدرة على تأمين حاجاتهم الأساسية، بدخلٍ سقفه 195 دولارٍ في الشّهر، و140$ للفلسطيني القادم من سوريا، أي أقل بكثير من متوسط إنفاق اللبناني البالغ 429 دولاراً شهرياً.
بناء جدار “الفصل” اليوم سيفاقم المشكلةَ بدل حلّها، ليزيد على القيود المفروضة على عمل اللاجئين الفلسطينيين من قبل الدولة اللبنانية. فأقل من 14% من اللاجئين لديهم عقد عمل، في حين أن الغالبية الساحقة من القوى العاملة الفلسطينية تعمل بشكل غير رسمي. يوظّف القطاع الخاص 77% من اللاجئين العاملين، الأونروا 4.6% ومنظمات المجتمع المدني 3.8%، في حين أن أكثر من 70% من القوى العاملة تقوم بوظائف لا تحتاج إلى مهارات، ونحو نصفهم يتلقون أجراً يومياً. كما أن 36% من الأسر تعتمد على القروض للعيش.
“الفصل” القارس
يشبه الوضع اليوم، أي مرحلة الجدار وما بعده، مشاهد المسلسل الشّهير “لعبة العروش” Game of Thrones. يمثّل الجدار نموذجاً عن جدار “ويستروس”، الذي شُيّد لحماية الممالك من خطر القادمين الموتى والهمج سكّان ما وراء الجدار، والفلسطيني اليوم بحسب التّصنيف المعمّم، هو من الهمج والـ”وايت واكرز” White walkers، خروجه من سجنه الكبير، المخيّم، يعني خراب الجنّة اللبنانية وانهيارها.
المشروع أصبح ناجزاً وقيد التّنفيذ، برضى الفصائل الفلسطينية وتجاهلٍ سلطة محمود عبّاس، لكن السّؤال الأساسي يكمن في إمكانية بقائه كفاصلٍ لا سببٍ لولادة التّطرف والإشكالات، مع قرب بروجه من بيوت المدنيين. والسّؤال الأهم يكمن في الحديث عن مستقبل الوجود الفلسطيني وتعامل الدّولة اللبنانية معه، فهل القيود المشدّدة سيرافقها تنميةٌ وإنماءٌ وإنصافٌ ومعاملة إنسانية أم لا؟ التّجارب السابقة تحمل جواباُ واضحاً، سقفه العنصرية.